أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الفرح
السنة 2014
الفرح في محضر الرب
إذا دقَّقنا النظر في العبادات المتنوِّعة التي ابتدعها الإنسان سنجد أن:

مبعثها إمَّا الخوف من الإله، أو استرضاءه واستجلاب بركاته؛

وطابعها إمَّا المجون والخلاعة، أو الزهد وتعذيب النفس؛

وأسلوبها إمَّا ممارسات شاقة ومضنية، أو ممارسات روتينية جوفاء.

وفي كل هذا لا نجد أيَّة مشاعر فرح حقيقية بين الإنسان والله!

لقد قصد الله أن يُوْجِد الإنسان في علاقة معه طابعها الفرح.  من أجل ذلك نجد أول إشارة للعبادة ربطها الرب بكلمة ”عيد“، فقال موسى لفرعون: «هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: أَطْلِقْ شَعْبِي لِيُعَيِّدُوا لِي» (خر5: 1)، ثم قال: «أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي» (خر7: 16)، فغرض الرب لا أن يُحرِّر شعبه من قبضة فرعون القاسية فقط، بل أن يعبدوه، ويعبدوه بفرح.

وجدير بنا أن نتعرَّف أكثر على طابع الفرح الذي قصده الرب لشعبه وهم يقتربون إليه ويعبدونه، وسوف نقصر تأملاتنا على ثلاث مناسبات فقط:

أولاً: الفرح أمام الرب في المكان الذي اختاره

«المَكَانُ الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ ... لِيَضَعَ اسْمَهُ فِيهِ، سُكْنَاهُ تَطْلُبُونَ وَإِلى هُنَاكَ تَأْتُونَ، وَتُقَدِّمُونَ إِلى هُنَاكَ: مُحْرَقَاتِكُمْ وَذَبَائِحَكُمْ ... وَتَأْكُلُونَ هُنَاكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ، وَتَفْرَحُونَ بِكُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِليْهِ أَيْدِيكُمْ، أَنْتُمْ وَبُيُوتُكُمْ» (تث12: 5-7).

هناك فرح أتمتع به مع الرب في علاقتي الفردية معه، ولكن الفرح في العبادة ونحن مجتمعون معًا لا يعادله أي فرح آخر.  لقد ربط الرب فرح شعبه بالمكان الذي اختاره ليحل اسمه فيه، فتتكرَّر في هذه الأعداد القليلة كلمة ”هُنَاكَ“ ثلاث مرات تأكيدًا من الرب أنه لا بديل عن هذا المكان. 

«وَتَأْكُلُونَ هُنَاكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ وَتَفْرَحُونَ».  نعم أمام الرب الفرح «أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ» (مز16: 11)، وأمام الرب يشمل الفرح الجميع «وَتَفْرَحُونَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ أَنْتُمْ وَبَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَعَبِيدُكُمْ وَإِمَاؤُكُمْ وَاللاوِيُّ» (تث12: 12).

ثانيًا: الفرح بمشاركة الآخرين بما باركني به الرب

«لا يَحِلُّ لكَ أَنْ تَأْكُل فِي أَبْوَابِكَ عُشْرَ حِنْطَتِكَ وَخَمْرِكَ وَزَيْتِكَ ... بَل أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ تَأْكُلُهَا، فِي المَكَانِ الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ، أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَاللاوِيُّ الذِي فِي أَبْوَابِكَ، وَتَفْرَحُ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ بِكُلِّ مَا امْتَدَّتْ إِليْهِ يَدُكَ» (تث12: 17، 18).

ليس هين أن يُفرِّط الإنسان في أمواله، وإن قدَّمها قد يفعل ذلك وهو مضطر.  لكن الرب يريد من شعبه، لا أن يُقدموا عشورهم فقط، ولا يقدموها بسماحة قلب فحسب، بل أن يقدِّموها بفرح.  وهذا ينطبق علينا نحن، فهكذا يُحرِّض كاتب العبرانيين قائلاً: «لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ» (عب13: 16).  ونحن الذين تمتعنا بفيض بركات الرب في عهد النعمة، لا يتناسب معنا أن نقدِّم مجرَّد عُشر دخلنا، بل أن نقدِّم بسخاء وسعة حسبما كانت الحاجة التي أمامنا، وعلينا أن ندرك أن ما نقدمه هو ”ذبيحة“، وأنها ”تُسِر الرب“.

كان المؤمنون في مكدونية فقراء جدًّا، وبالرغم من ذلك كانوا أسخياء جدًّا!!  كما نلمس بوضوح الفرح الذي كان ظاهرًا فيهم بصورة ملموسة «نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ، فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ، وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ، لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ» (2كو8: 1-3).  لقد انطبق عليهم القول: «الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ» (2كو9: 7).  هكذا ينبغي أن يكون حالنا، فكما نتصاعد من أفواهنا ”بفرح“ الترنيمات (عب13: 15)، علينا أن نقدم أيضًا ”بفرح“ عطاءنا وتقدماتنا المادية، إذ هي أيضًا ذبيحة يُسر الله بها.

ثالثًا: الفرح بسلال أوَّل ثِمار الأرض:

«وَمَتَى أَتَيْتَ إِلى الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا وَامْتَلكْتَهَا وَسَكَنْتَ فِيهَا، فَتَأْخُذُ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ ثَمَرِ الأَرْضِ الذِي تُحَصِّلُ مِنْ أَرْضِكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ وَتَضَعُهُ فِي سَلةٍ وَتَذْهَبُ إِلى المَكَانِ الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ لِيُحِل اسْمَهُ فِيهِ ... وَتَفْرَحُ بِجَمِيعِ الخَيْرِ الذِي أَعْطَاهُ الرَّبُّ إِلهُكَ لكَ وَلِبَيْتِكَ، أَنْتَ وَاللاوِيُّ وَالغَرِيبُ الذِي فِي وَسْطِكَ» (تث26: 1-11).

إن وجودنا حول الرب وتثبيت عيوننا عليه، بعد أن نكون قد امتلكنا نصيبنا واسترحنا من كل جهة، يُنشئ فينا قلوبًا تُعبِّر عن أنَّ كل ما لنا هو من عنده، وأننا لا نُريد أن نستأثر به لأنفسنا.  إن أول ثمر الأرض يُشير إلى أغلى البركات التي تمتعنا بها، وكل ما يُمكننا الحصول عليه نتيجة اتِّساع مداركنا الروحية، فكم من بركات ثمينة لم تكن معروفة لنا من قبل، والله في جوده يُريد ليس فقط كشفها أمام عيوننا، بل أن تتعمَّق في عواطفنا وعقولنا، وبهذه الكيفية نستطيع أن نأتي بها حيث نلتف من حوله ونتكلَّم معه عنها في فرح كامل.

*  *  *  *

أقول أخيرًا إن كان هذا هو امتياز شعب الرب، أن يفرح أمام الرب بكل ما وهبه له من بركات وخيرات، فهناك أيضًا تحذير علينا أن ننتبه له، عندما يهمل الشعب هذا الامتياز، ولا يكترث بأن يفرح أمام الرب، إذ إن يد الله التأديبية ستقع حتمًا، ويوضح الرب سبب ذلك بالقول: «مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ لمْ تَعْبُدِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِفَرَحٍ وَبِطِيبَةِ قَلبٍ لِكَثْرَةِ كُلِّ شَيْءٍ (في زمن الازدهار والوفرة، بحسب الترجمة التفسيرية)» (تث28: 47).

دعونا إذًا ندرك قصد الله الرائع من نحونا، إنه لا يريد مجرَّد خلائق تخضع له وتطيعه، بل يريد نفوسًا تتعلق به بالمحبة، ولا تجد سرورها إلا في الشركة معه، وكل غايتها أن توجد في المكان الذي يحل اسمه فيه، حيث يختبرون هناك ”الفرح الذي لا يُنطَق به ومجيد“.
عاطف إبراهيم