أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الفرح
السنة 2014
فرح رد النفس
«رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ»
(مز51: 12)

كانت هذه الصرخة المُرَّة والصادقة لداود، الذي حُرِمَ من الأفراح والتعزيات بسبب خطيته (2صم11).  ورغم قول ناثان النبي له: «الرَّبُّ أَيْضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ» (2صم12: 13)، إلا أنه استمر - ولفترة طويلة - يُعانى جفاف التعزية، وانقطاع الأفراح القلبية.  وما أقسى هذه الحالة على نفس تقيٍّ قد اختبر يومًا أمام الرب ”شبع سرور“، وفي حضرته تهلَّل قلبه ”بذبائح الهتاف“؛ لذلك ها هو يصرخ تائبًا متضرِّعًا للرب حتى يرد له تلك البهجة التي انقطعت.

وهذه الصرخة تشرح لنا مبادئ إلهية هامة لحياتنا كمؤمنين:

أولاً: المؤمن الحقيقي ومرارة البعد عن الرب

إن خلاصنا الآن ثابت، ومقامنا كقديسين في المسيح مؤسَّس فقط على كفاية عمل المسيح؛ فلا تؤثر فيه أبدًا ضعفاتنا «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ» (عب10: 14).  لكن الشركة مع الرب شيء آخر؛ تتأثر وتنقطع إذا وُجِدت خطية لم يُحكَم عليها «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ» (مز66: 18).  وهيهات للمؤمن أن يفرح، وهو قد أحزن الروح القدس في داخله.

فداود، في وقت سمو شركته مع الرب، هتف قائلاً: «جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ.  لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ.  لِذَلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَابْتَهَجَتْ رُوحِي... أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ، فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ» (مز16: 8، 9، 11)، وبأشواق قلبية للرب يقول: «وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ»، ثم يُضيف: «فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ.  أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ» (مز27: 4، 6).

لكن الحال تبدَّل تمامًا وقت زلته، فاختفت ترانيم الفرح، وتسلل الحزن لقلبه، فعبَّر قائلاً: «لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ... تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ» (مز32: 3، 4)، وأيضًا: «لَوِيتُ.  انْحَنَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ.  الْيَوْمَ كُلَّهُ ذَهَبْتُ حَزِيناً» (مز38: 6).

ومرة أخرى نراه حزينًا بلا أفراح أو ترنم، وقت ذهابه إلى أخيش- عدو الرب وشعبه - ليحتمي هناك عنده، وطوال إقامته هناك، لا نقرأ أنه ترنم بمزمور واحد!  فالخطية تقطع الشركة وتُوقف الأفراح.  ليتنا نتضرع للرب: «لَيْتَكَ ... تَحْفَظُنِي مِنَ الشَّرِّ حَتَّى لاَ يُتْعِبُنِي» (1أخ4: 11).

أما أساف فهو صورة لمؤمن هجر المقادس، فغار من الأشرار، وحسد عمال الإثم.  وفي مرارة نفسه شعر بأن عيشته مع الرب بلا نفع، فقال: «حَقًّا قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلاً وَغَسَلْتُ بِالنَّقَاوَةِ يَدَيَّ».  وما أقسى النتائج المؤلمة، إذ امتلأ بالحزن العميق الذي عبر عنه بالقول: «لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ» (مز73: 13، 21، 22)!

ثانيًا: ضرورة الرجوع القلبي للرب لرد الشركة والأفراح

لا علاج لحالة الكآبة التي سبّبها الخطية غير المحكوم عليها، إلا بالتوبة والرجوع إلى الرب.  وهناك خطورة من المراوغة والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام، ومن خداع القلب بالتظاهر بالتعزية والفرح، فهذا يضطر الله أن يحكم علينا بالتأديب، لأننا لم نحكم على أنفسنا.

والأفراح القلبية الحقيقية لا تأتي إلا بعد التوبة الحقيقية لأن:

(1) الفرح الحقيقي مرتبط بالرب (في4: 4)، ودعنا لا ننسى أن إلهنا قدوس ولا يتنازل عن متطلبات قداسته؛ وأنه لا فرح بدون رؤية الرب، ولا رؤية ً للرب بدون قداسة «الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ» (عب12: 14).

(2) يريد الرب أن يصل بالمؤمن المخطئ - من خلال تدريبات إلهية - لأن يدرك رداءة الجسد الذي فيه، وجسامة الخطأ في حق الرب.  وعلاج الله لا يكون ”على عثم“.  فالرب لا يُعطي أفراحًا للقلب إلا بعد التوبة الحقيقية، والرجوع القلبي للرب (2كو7: 10).

ثالثًا: أفراح الرجوع للرب

هذا اختبار الكثيرين من الأتقياء:

(1) يعقوب: ما كان أصعبها السنين التي قضاها عند خاله لابان، والتي وضع الوحي عنوانًا لها «لأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ» (تك28: 11)!  كانت أيامًا مظلمة بلا دفء ولا شعاع نور، إلى أن رد الرب نفسه في لقاء مبارك، عند مخاضة يبوق، فغيَّر حاله إلى أمير الله «وَبَارَكَهُ هُنَاكَ ... وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ»، فقال: «إِنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي» (تك32: 29-31).  فيا لها من فرحة وبهجة إذ يعود المؤمن يستمتع برؤية وجه الرب من جديد!

(2) داود: عاش داود تدريبات مؤلمة، وليالي طويلة مظلمة بسبب سقطته الأدبية، كما مر بنا؛ لكن بعد رد نفسه هتف بالقول في المزمور ذاته: «افْرَحُوا بِالرَّبِّ وَابْتَهِجُوا يَا أَيُّهَا الصِّدِّيقُونَ، وَاهْتِفُوا يَا جَمِيعَ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ» (مز32: 3، 4، 11).

(3) الراجعون من السبي: عند الذهاب إلى السبي البابلي قال الرب لشعبه على لسان إرميا: «وَأُبَطِّلُ مِنْ مُدُنِ يَهُوذَا وَمِنْ شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ صَوْتَ الطَّرَبِ وَصَوْتَ الْفَرَحِ» (إر7: 34).  وكم كانت أحزان الشعب وهم في السبي، ومدينتهم أورشليم مُستعبدة للأعداء!  لكن ما أن تدخل الرب وردهم مرة أخري لديارهم، وحرر أرضهم، حتى نسمع ترنيمتهم: «عِنْدَمَا رَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ صِهْيَوْنَ، صِرْنَا مِثْلَ الْحَالِمِينَ.  حِينَئِذٍ امْتَلأَتْ أَفْوَاهُنَا ضِحْكًا، وَأَلْسِنَتُنَا تَرَنُّمًا ... عَظَّمَ الرَّبُّ الْعَمَلَ مَعَنَا وَصِرْنَا فَرِحِينَ» (مز126: 1-3).  وهذا ما سبق ووعد به الرب على لسان إرميا أيضًا: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: سَيُسْمَعُ بَعْدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي تَقُولُونَ إِنَّهُ خَرِبٌ... صَوْتُ الطَّرَبِ وَصَوْتُ الْفَرَحِ، صَوْتُ الْعَرِيسِ وَصَوْتُ الْعَرُوسِ، صَوْتُ الْقَائِلِينَ: احْمَدُوا رَبَّ الْجُنُودِ لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ» (إر33: 10، 11).

أحبائي ليتنا نتجاوب مع معاملات الروح القدس الذي ينخس كل قلب فينا لا يزال مسبيًا في العالم إلى الآن، فيتحول القلب رجوعًا إليه، لنستمتع بغفرانه الأبوي، وبالتطهير العملي، فنختبر مرة أخري الفرح الحقيقي، وتُصبح الكأس ريّا، ويمتلئ الفم ضحكًا، واللسان ترنمًا، والقلب سجودًا لاسمه الكريم.
إيليا كيرلس