أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الفرح
السنة 2014
فرح يونان من أجل اليقطينة
«فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ فَرَحًا عَظِيمًا!» (يون4: 6)

بَعد أن قَضَى يُونانُ النبيُّ ثلاثةَ أيامٍ وثلاثَ ليالٍ في جوفِ الحوت نتيجة عدم طاعته، ظانًّا بأنه يمكنُهُ الهروب إلى ترشيش، حتَّى لا تصلَ رسالةُ الخلاصِ إلى نينوى المدينةِ الأمميةِ العظيمةِ، إذْ بالحوتِ يقذفُهُ إلى البَرِّ، استجابةً لأمرِ الرَّبّ.  ثم كرَّر الرَّبّ قولَهُ ليونان: «قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ، وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا» (3: 1، 2).  وكانتِ المناداةُ هي هَذه الكلمات القصيرة الَّتي تَحملُ إنذارًا إلهيًّا: «بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى» (3: 4)، وكانت هذه الرسالة كافية لخلاص تلك المدينة.

وبهذه المناداة تَحقَّقَ هدفُ اللهِ المنشود؛ فيونانُ الخارجُ من جوفِ الحوت والكارزُ لأهلِ نينوى كانَ آيةً (مت16: 4).  فآمنَ أهلُ نينوى باللهِ وتابوا ورجِعوا كلُّ واحدٍ عن طريقِهِ الرديئةِ وعنِ الظُّلمِ الَّذي في أيديهِم.  فلمَّا رأى اللهُ أعمالَهم أنَّهم رجِعوا عن طريقهم الرديئة، ندِمَ اللهُ على الشَّرِّ الَّذي تكلَّمَ أن يصنعَه بهِم فلم يصنعْه (3: 5-10).

تجاوَب أهل نينوى مع رسالة الله لهم على الرغم من ضعفِ خادمِهِ الذي كان ينتظر قضاءَ الله السريع عليهِم، وليس رأفتَه ورحمتَه وإشفاقَه.  لقد كانت هَذه التَّوبةُ الجماعيَّةُ عملاً إلهيًّا مُعجزِيًّا، الأمرُ الَّذي جعَلَ يونانَ يَغتمَّ غما شديدا ويغتاظَ (4: 1)، وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي» (4: 3).  ثم خرجَ وجلسَ شرقِيَّ المدينة، وصنعَ لنفسِهِ هُناكَ مظلَّةً، وجلسَ تحتها في الظِّلِّ، حتَّى يرى ماذا سيحدُثُ في المدينةِ!

ولكنَّ الرَّبَّ الرؤوفَ والرحيمَ، في رأفتِهِ بِنَبيِّهِ، رأى غمَّه الشديد وغيظَه بسبب أن الله أشفقَ على هذه المدينة العظيمة، وأرادَ أن يعلِّمَهُ درسًا يكشف له من خلاله عن قلبِهِ المليء بالحنان والرحمة، فبينما كان يونانُ يجلس شرقي المدينة خارجًا، تحت مظلة صنعها لنفسه، أعدَّ الربُّ الإلهُ له يقطينةً ، فظلَّلتِ اليقطينةُ رأسَهُ الذي عانى كثيرًا في بطن الحوت من عُشب البحرِ الذي كان مُلتفًّا عليهِ (2: 5)، ففرِحَ يونانُ من أجلِ اليقطينةِ فرَحًا عظيمًا (4: 6)، وهذه تُعَدُّ من أعمالِ الرَّحمةِ الَّتي يعملها الرَّبُّ نحوَ عبيدِهِ وأتقيائِهِ (مز145: 8، 9).

لكن لم يدُمِ الحالُ طويلاً؛ فعندَ طُلُوعِ الفَجرِ أعدَّ اللهُ دودةً فضربتِ اليقطينةَ فيبستْ.  وحدثَ عندَ طلوعِ الشَّمسِ أنَّ اللهَ أعدَّ ريحًا شرقيَّةً حارةً، فضربتِ الشمسُ على رأسِ يونان فذبُلَ، مثل اليقطينة، فطلبَ لنفسهِ الموتَ وقال: إنَّ موتَه خيرٌ من حياتِهِ!!
ما أشبه حياة الإنسان باليقطينة أو الشجرة؛ يقول عنها موسى في صلاته: «بِالْغَدَاةِ كَعُشْبٍ يَزُولُ.  بِالْغَدَاةِ يُزْهِرُ فَيَزُولُ.  عِنْدَ الْمَسَاءِ يُجَزُّ فَيَيْبَسُ» (مز90: 5، 6).  ويقول داود أيضًا: «الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ.  كَزَهَرِ الْحَقْلِ كَذلِكَ يُزْهِرُ.  لأَنَّ رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ» (مز103: 15، 16).  فاليقطينة لم تدُم طويلاً، بل بنت ليلة كانت، وبنت ليلة هلكت.  وكما فعلتِ الدودةُ في اليقطينةِ هكذا يفعلُ الزمنُ في أعمارِنا «أَفْنَيْنَا سِنِينَا كَقِصَّةٍ ... تُقْرَضُ سَرِيعًا فَنَطِيرُ» (مز90: 9، 10)

وَمِنَ الملفتِ للنَّظرِ أنَّه في أصحاح 4 نَقرأ عِبارتَينِ علَى طرفَيْ نقيضٍ عَنْ غَمِّ يونان وغيظِهِ، ثم فرحه الشَّدِيد؛ غَمٍّ وغيظٍ لأنَّ الرَّبَّ ندِمَ على الشَّرِّ وأظهَرَ رأفتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَفرحٍ لأجلِ اليقطينة الَّتي لم يتعبْ فيها.  فاتَّخذَ الرَّبُّ من هذا الأمرِ عظةً ليونان قائلاً له: «أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ ... أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ؟» (4: 10، 11).

ليتَ درس اليقطينة يترك أثرَهُ العميق فينا فندرك أن الوقتَ القصيرَ المتاح الآن هو لكي ننقذَ نفوسًا من حولِنا في طريقِهَا للهلاكِ.  وليتنا نستمع لقول سليمان الحكيم: «أَنْقِذِ الْمُنْقَادِينَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمَمْدُودِينَ لِلْقَتْلِ.  لاَ تَمْتَنِعْ» (أم24: 11). وليت الرب يعطينا هذا الإشفاق الذي كان ولا يزال في قلبه على النفوس الغالية والخالدة التي من حولنا.
عايد هنرى