أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2006
موت المسيح فى الانجيل - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

تأملات في الحية النحاسية

«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو3: 14، 15).

ختمنا حديثنا في الحلقة السابقة بسؤال: لماذا اختار الله من رموز العهد القديم المتنوعة والكثيرة هذا الرمز لموت المسيح، الحية النحاسية. ونتوقف في هذا العدد لنتحدث عن هذا الرمز الجميل للمسيح المصلوب، وأعني به الحية النحاسية.

وهذا يقودنا للقصة كما وردت في العهد القديم:

 يقول الوحي:

 «وَارْتَحَلُوا مِنْ جَبَلِ هُورٍ فِي طَرِيقِ بَحْرِ سُوفٍ لِيَدُورُوا بِأَرْضِ أَدُومَ فَضَاقَتْ نَفْسُ الشَّعْبِ فِي الطَّرِيقِ. وَتَكَلمَ الشَّعْبُ عَلى اللهِ وَعَلى مُوسَى قَائِلِينَ: «لِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ فِي البَرِّيَّةِ! لأَنَّهُ لا خُبْزَ وَلا مَاءَ وَقَدْ كَرِهَتْ أَنْفُسُنَا الطَّعَامَ السَّخِيفَ». فَأَرْسَل الرَّبُّ عَلى الشَّعْبِ الحَيَّاتِ المُحْرِقَةَ فَلدَغَتِ الشَّعْبَ فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيل. فَأَتَى الشَّعْبُ إِلى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلمْنَا عَلى الرَّبِّ وَعَليْكَ فَصَلِّ إِلى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الحَيَّاتِ». فَصَلى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. فَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلى رَايَةٍ فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِليْهَا يَحْيَا». فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلى الرَّايَةِ فَكَانَ مَتَى لدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَاناً وَنَظَرَ إِلى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا» (عد21: 4-9).

 من قصة سفر العدد 21 نفهم أن بني إسرائيل عندما لدغتهم الحيات طلبوا من موسى أن يصلي إلى الله لكي يرفع الحيات عنهم. ولكن الرب بدل أن يرفع الحيات فورًا، فإنه سر أن يتخذ من هذه الفرصة مجالاً ليعطي صورة لعمل المسيح فوق الصليب في علاجنا من سم الشيطان.

 ليس حية حرفية:

 قد يسأل واحد: لماذا لم يأمر الرب موسى أن يُسمِّر حية فعلية، ويضعها على الراية، بدلاً من صنع حية نحاسية؟ والإجابة إن هذا كان سيفسد الرمز. فالدينونة إذا وقعت على الشيطان، أو حتى على الخطاة الأشرار، وهو ما سيحدث فعلاً في المستقبل، لا يكون فيها تكفير ولا غفران؛ وأما الدينونة التي لها تأثير تكفيري، فهي تلك التي وقعت على ابن الإنسان، بديلنا القدوس. في الرمز نجد شكل الحية، لا حية حرفية. وفي الحقيقة المرموز إليها نقرأ: «الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية» (رو8: 3). لقد صار المسيح نفس الشيء الذي سبب لنا الموت، أعني به الخطية «لأنه (أي الله) جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه» (2كو5: 21).

 والحية فيها تجسيم للخطية وللسقوط. فمن البداية، وعن طريق الحية، دخلت الخطية إلى العالم (تك3)، فلا عجب أن يشار إلى المسيح في موته لأجلنا بالحية النحاسية.

 ثم إن الحية رمز وصورة للعنة، والصليب هو أيضًا رمز للعنة، يقول الرسول: «المسيح.. صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة» (غل3: 13؛ تث21: 22، 23). فلا غرابة أن يُرمز للمسيح المصلوب، المعلق على خشبة، بالحية النحاسية.

 ولقد قال الرب لموسى: «اصنع لك حية محرقة»، ويقول الكتاب: «فصنع موسى حية». وفي هذا نحن نرى لفتة لتكوين ناسوت المسيح القدوس، كقول المسيح لله، عند دخوله إلى العالم: «هيأت لي جسدًا» (عب10: 5). وأيضًا: «أرسل الله ابنه، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس» (غل4: 4).

 حية من نحاس

 لقد كانت الحية التي فيها البرؤ مصنوعة من نحاس. وكونها من نحاس لنا فيه تعليم مزدوج:

 أولاً: هذا معناه أن الحية التي رُفعت كانت خالية من السم. والمسيح الذي صلب لأجلنا كان خاليًا من الخطية. فمع أنه جُعل خطية، إلا أنه هو نفسه لم يعرف خطية (2كو5: 21). وهذا واضح، فأن يرفع شخص خاطئ على صليب، ما كان هذا يعمل منه مخلصًا، إذ - في هذه الحالة - كان سيموت بسبب ذنبه هو.

هذه الكلمة بحسب ترجمة داربي هي: Made of a woman

 ثانيًا: النحاس هو أكثر جميع المعادن تحملاً للنيران الشديدة، ولذا فإنه يصوِّر الدينونة الإلهية بسبب الخطايا. ونلاحظ أن مذبح المحرقة في العهد القديم كان مصنوعًا من خشب السنط، ومغشي من كل جهة بالنحاس. وهو صورة للمسيح في اتحاد لاهوته بناسوته. فالسنط يشير إلى طبيعة المسيح البشرية القدوسة الغير قابلة للفساد، وبالتالي الغير خاضعة لحكم الموت. وواضح أن المسيح لم يكن للموت حق عليه، فأمكنه أن يضع حياته فدية. أما النحاس الذي يغشيه، فإنه يشير إلى بر الله في تعامله مع شر الإنسان بالدينونة. وواضح إنه ما كان يمكن لأحد بخلاف المسيح أن يتحمل الدينونة الإلهية الواقعة بسبب خطايانا، وذلك نظرًا لاتحاد لاهوته بناسوته.

 إذًا فيمكن القول إنه لولا النحاس لما تحمَّل المذبح تلك النيران المتواصلة عليه، ولولا الطبيعة اللاهوتية في شخص المسيح لما تحمَّل آلام الكفارة.

 ولهذا السبب عينه كان من المناسب أن تُصنع الحية من نحاس. فمعدن النحاس في الحية النحاسية يعبر عن دينونة الله القوية الثابتة التي لا بد أن تقع على الخطية. وهكذا كان ينبغي أن يرفع ابن الإنسان على الصليب، ويحتمل دينونة الله العادلة ضد الخطية حتى يأتي بالحياة والخلاص لكل من يلجأ إليه ويحتمي به.

 لا علاج خارج الحية النحاسية

 أشار أحد شارحي كلمة الله إلى بعض أساليب العلاج، التي ما كانت لتنفع قط في علاج لدغات الحيات:

 فالرب لم يطلب من موسى عمل مراهم لعلاج اللدغات، رغم أن هذا قد يكون أكثر معقولية - بحسب النظرة البشرية – لعلاج الملدوغين. لكن لا شيء من هذا نجده هنا. ونحن نتذكر أن المرأة نازفة الدم التي وردت قصتها في الإنجيل، تألمت كثيرًا من أطباء كثيرين، فلم تتنفع شيئًا، بل صارت إلى حال أردأ، ولكنها لما سمعت بيسوع، أتت إليه، ولمسته بالإيمان فنالت الشفاء الفوري واللحظي.

 ولم تكن تنفع العظات مع الذين لدغتهم الحيات. ولا تحريض لهم لعمل الخير، ليتم تخفيف آلامهم، بل كان المطلوب مجرد نظرة. كثيرون يظنون أن في عمل الخير للآخرين، تكفيرًا لذنوبهم أو شفاءً لأنفسهم من ضربات الحيات. ولكن هيهات

ولم يطلب الرب تجنيد القوى لمقاومة الحيَّات، ولا إشعال حرب لطردها من المحلة، فهذا لم يكن يُجدي. واليوم كثرت المنظمات التي تحارب الشر، وفي المقابل فإن الشر أيضًا كثر وزاد. وهو يذكرنا بما هو حادث مع الطب والمرض. فمنذ أن وعينا للدنيا، تقدم الطب كثيرًا، وتقدم المرض أكثر.

 ولم يطلب الرب من الملدوغين أية تقدمات مقابل شفائهم من لدغات الحيات المُحرِقة. ولم تكن هناك عطايا تقدم للحية النحاسية، وذلك لأن شفاء الله وخلاصه هو من مجرد النعمة وحدها. الله لا يطلب من الخاطئ أن يقدم أي شيء، بل أن يَقبَل المسيح الذي بذله الله عن الخطاة، وأن يحصل على تبريره بالإيمان وبالمجان «لأنكم بالنعمة مخلصون» (أف2: 8).

 ضعها على راية

 يقول الوحي عن هذه الحيَّات: «لدغت الشعب، فمات قوم كثيرون من إسرائيل». وعندما يقول الوحي إن الحيَّات لدغت الشعب، فهذا يعني عمومية الضربة. وهكذا أيضًا لا يوجد بين البشر من لم يسرِ سم الخطية فيه «كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد» (رو3: 10).

 ولهذا فقد أمر الله موسى أن يضع الحية التي يصنعها على راية، لتكون ظاهرة لكل الشعب. وكان كل من نظر إلى حية النحاس يحيا.

 إذًا فما كان يكفي صنع حية من نحاس لتكون رمزًا للمسيح، بل كان يجب بالإضافة إلى ذلك أن توضع هذه الحية على راية، لتكون في متناول رؤية كل الشعب. وهكذا أيضًا رُفع المسيح فوق الصليب ومات. ولقد كانت قصة الصليب معروفة ومقررة تمامًا من البداية. لقد أمكن للرسول بطرس بعد حوالي خمسين يوما من أحداث الصليب أن يقف في أورشليم نفسها ويقول لليهود: «يسوع الناصري... هذا أخذتموه مسلمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع2: 22، 23). بل لقد كانت حادثة الصلب معروفة حتى بين الأمم البعيدين عن أورشليم، فقال الرسول بطرس لكرنيليوس ولجميع معارفه الذين كانوا مجتمعين معه في بيته: «أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدءًا من الجليل، بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا. يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيرًا، ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه... الذين قتلوه، معلقين إياه على خشبة» (أع10: 37-39). بل أمكن للرسول بولس أن يقول للملك أغريباس، بعد أن حدثه عن موت المسيح وقيامته: «أنه من جهة هذه الأمور، عالم الملك الذي أكلمه جهارًا، إذ لست أصدق أن يخفى عليه شيء من ذلك، لأن هذا لم يُفعل في زاوية» (أع26: 26).

 من ينظر إلى حية النحاس يحيا

 من كلمات الرب التي قالها لنيقوديموس نستنتج كم الخلاص سهلاً وبسيطًا، في سهولة النظر إلى الحية النحاسية. فلقد قال له الرب: «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 14، 15).

 ثم إن هذه الآية توضح لنا أيضًا أن طريقة خلاص الخاطئ هو بالتحول خارج نفسه كلية، والنظر إلى المسيح.

 ولذلك فالشيطان عنده العديد من الحيل المتنوعة لتحويل النفس التي بدأت تشعر بحاجتها للخلاص والبرؤ، إلى أي شيء بخلاف المسيح. لكن واضح أن أي شيء آخر خلافًا للنظر إلى الحية النحاسية المرفوعة، ما كان ليخلص الملدوغ.

 لقد صرخوا إلى موسى بسبب اللدغات، ولكن ليست مشغوليتهم باللدغات هي التي كانت تخلصهم، ليس حزنهم ونواحهم على شرهم وتمردهم هو الذي يخلصهم، بل الحية النحاسية هي التي فيها الخلاص. ولذلك عزيزي القارئ، لا تنظر إلى مقدار خطاياك، بل إن تقت للخلاص منها، انظر إلى الحمل!

 لقد صرخ الشعب إلى موسى، وموسى صرخ إلى الرب، والرب حوَّل أنظار الشعب عن موسى إلى الحية النحاسية. وهذا معناه أن الصلاة ليست بديلاً عن الإيمان. وأن رجال الله، ولو كانوا نظير موسى، ليس عندهم الخلاص، بل المسيح فقط، والمسيح وحده، هو المخلص. ولاحظ أنه ليس المسيح صاحب المولد المعجزي، ولا حتى المسيح صانع المعجزات، وليس المسيح بحياته الخالية من الخطية، ولا بتعاليمه السامية النقية، بل المسيح المرفوع فوق الصليب!

 ولقد قال الرب لموسى: «كل من لدغ، ونظر إليها (إلى حية النحاس) يحيا»: بغض النظر هل لدغاته كثيرة أم قليلة، أو أنها لدغة واحدة فقط. وبغض النظر هل المسافة التي ينظر منها بعيدة أم قريبة. وهل قوة إبصاره حادة أم ضعيفة. إن نظرة أضعف بصر تعطي الخلاص!

 عزيزي القارئ، لقد دخلت الخطية إلى العالم نتيجة عدم تصديق أقوال الله، ولذلك فإن الخلاص يأتي بالإيمان بالمسيح. بكلمات أخرى دخلت الخطية عن طريق النظر إلى الشجرة المنهى عنها، والخلاص أيضًا يأتي عن طريق النظر إلى شجرة أخرى، أو بالحري إلى الخشبة التي عُلق المسيح عليها.

 النظر بالعين المادية كان واسطة الشفاء من لسعات الحيات، والنظر الروحي بعين الإيمان هو واسطة الشفاء الروحي.

 عزيزي القارئ تذكر أنه ليست الخطية هي التي ستتسبب في ذهاب الناس إلى جهنم، بل عدم الإيمان..

يوسف رياض