أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2006
إله النجاه لا يعدم مكان - الله في سفر أستير
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر» (أس4: 14)

نتوقف في هذا العدد عند بعض الحوادث الشيقة من كلمة الله، والتي، إذا قبلناها كما هي بالحقيقة ككلمة الله، ستنجح في أن تغرس عميقًا في قلوبنا هذا الفكر: أن إله النجاة لا يعدم مكان، بل إنها قادرة على أن تجدد أذهاننا فتجعل هذا الفكر يطبع طريقة تفكيرنا وردود أفعالنا في مواجهة بلايا الحياة.

 طريق في وسط البحر

 أمام بحر سوف، استعرض الشعب الأماكن التي يمكنه أن يجد فيها النجاة، فوجد أنه لا مكان!! فالعدو الغاضب وراءهم يريد أن يقتنصهم، والبحر أمامهم يمكنه بسهولة أن يبتلعهم! لم يكن بإمكانهم التقدم للأمام ولا الرجوع للخلف! أي أنه لا نجاة!! فصرخ الشعب إلى الرب وقالوا لموسى : هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية ؟ وصرخ موسى إلى الرب، وهنا يظهر إله النجاة الذي لا يُعدَم مكان.

 فبينما فرعون في نشوة الشعور بأنه نال المرام، وبينما الشعب في غاية اليأس من أي نجاة، كان إله النجاة في غاية الهدوء والروعة وهو يقول لموسى قولاً عجيبًا: مالك تصرخ إليَّ وإني شخصيًا أعتقد أن هذه الكلمة هي آخر كلمة كان موسى يتوقع أن يسمعها من الرب في هذه اللحظات الاستثنائية والعصيبة جدًا! لأن الرد المنطقي جدًا على هذا السؤال هو: مالي أصرخ؟! أ لا يوجد ما يستدعي الصراخ؟! وإن كنت لا أصرخ اليوم فمتى أصرخ؟ هذا لأن موسى لم يكن يرى ما يراه إله النجاة، أو ربما لأنه نسي للحظات سلطان إله النجاة. فإله النجاة يرى الريح ويعلم من أين تأتي وإلى أين تذهب وله سلطان على التحكم في كميتها واتجاهاتها! بل هو الذي يخرجها من خزائنه! (مز135: 7؛ أر10: 13؛ 51: 16)، تلك التي قال عنها الرب يسوع إنها تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب (يو3: 8)، الريح التي لم تقو أعظم دولة في العصر الحديث على أن تقف في وجهها أو حتى تسترضيها أو تروضها، عندما هبت في الأيام الماضية على مدينة نيو أورليانز في الولايات المتحدة الأمريكية وأزالتها من الوجود! الأمر الذي جعل رئيس الولايات المتحدة يقول بقلب كسير إنه لا يتخيل كيف سينظر إلى خريطة بلاده فيما بعد ولا يرى عليها نيو أورليانز!! إنها ليست فقط تهب حيث تشاء، بل إنها تفعل أيضًا ما تشاء ولا رادع لها! لكن هذه التي تهب حيث تشاء، وتفعل ما تشاء، صارت خاضعة خانعة خادمة لإله النجاة لتفعل ما هو يشاء! فها هو يأمرها لتحول مسارها وتضرب بقوة محسوبة، وزاوية محددة، وفي نقطة معينة، مياه بحر سوف، لكي تشقها وتكومها على الجانبين وتجمدها لتصبح سورًا عن اليمين وسورًا عن الشمال، لكي يعبر الشعب المفدي في وسط البحر على اليابسة ماشين على الأقدام!! لقد فتح لهم في البحر طريقًا مستخدمًا قوة الريح! لقد أوجد لهم نجاة من مكان آخر لا يدرون عنه شيئًا، بل ولا يمكن أن يخطر لهم على بال! فتغنوا قائلين: «بريح أنفك تراكمت المياه. انتصبت المجاري كرابية. تجمدت اللجج في قلب البحر» (خر15: 8).

 ولم يكتف الرب بهذا، بل جعل عمود النار ينتقل ليأتي خلف الشعب، ليس فقط ليكون فاصلاً بينهم وبين أعدائهم، بحيث أن من يريد أن يلحقهم عليه أن يخترق عمود النار أولاً، وهيهات؛ لكن كان قصده أيضًا من انتقال العمود خلفهم أن يضيء لهم طريقهم إضاءة رائعة، غير مباشرة Indirect light !! فهو من الخلف ليسقط نوره على سوري المياه المتجمدة على اليمين وعلى اليسار، فتنعكس منهما الأضواء البديعة، تفترش الأرض قدامهم لتنير لهم طريقهم في مشهد من مشاهد الأحلام. فالشعب الخائف صار يسير وسط البحر على الأقدام! والمياه التي كانت ينبغي أن تهلكهم صارت لهم سورا للحماية عن اليمين وعن اليسار! والعدو الهائج عليه لكي يلحقهم أن يخترق عمود النار!! كل هذا وهم هادئين هانئين يعبرون والأرض تحتهم مفروشة ببساط من الأنوار !!!

 أبعد هذا نشك في أن إله النجاة لا يعدم مكان؟

مائدة في وسط البرية

 في البرية اشتهى اللفيف الشرير شهوة، وأزاغوا وراءهم كل الشعب، فابتدأوا يبكون بعشائرهم كل واحد في باب خيمته ويقولون: من يطعمنا لحمًا؟ وهنا فضَّل موسى الموت قتلاً عن مواجهة هذه الكارثة! فقال للرب: «لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليَّ؟ من أين لي لحم حتى أعطي جميع هذا الشعب؟ فإن كنت تفعل بي هكذا، فاقتلني قتلاً، فلا أرى بليتي!!! اقرأعدد11: 4-32 آه كم هو مسكين الإنسان،

 حتى ولو كان موسى رجل الإيمان!!

 لقد وصل موسى لهذه الحالة التعيسة لأنه استعرض بسرعة طلبهم المجنون، وقسوة المكان الذي هم فيه، وكثرة العدد السائر معه، والمصادر التي يمكن منها التدبير، وحالة الثورة التي عليها الشعب، فوجد أنه لا نجاة، وعندها فضل المسكين الموت على الحياة!

 لاحظ معي هذا القول الهام: ”من أين لي لحم؟“. فأداة الاستفهام ”من أين؟“، تعني التفكير في مكان، وهو لم يجد مكانًا. وفي الوقت نفسه، وللأسف، نسي أن إله النجاة لا يعدم مكانًا. لقد غاب عن عينيه هذا المكان الآخر الذي تكلم عنه مردخاي. وهنا أشفق الرب على عبده الصارخ إليه وقال له: «وللشعب تقول: تقدسوا للغد فتأكلوا لحمًا،.. تأكلون لا يومًا واحدًا ( كما كانوا يحلمون)، ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يومًا بل شهرًا من الزمان»!!! وهنا عاد موسى، للأسف، للتفكير مرة أخرى بدون إيمان، متجاهلاً المكان الآخر، فقال للرب: «ست مائة ألف هو الشعب الذي أنا في وسطه (ونسي أن الرب هو الذي في وسطه)، وأنت قد قلت أعطيهم لحمًا شهرًا من الزمان!!! أ يُذبَح لهم غنم وبقر ليكفيهم؟ أم يُجمَع لهم كل سمك البحر؟ فقال الرب لموسى: هل تقصر يد الرب؟ الآن ترى أ يوافيك كلامي أم لا؟»

 إن المشكلة هنا أن موسى استعرض المكانين الوحيدين اللذين، بحسب المنطق البشري، يمكن منهما تدبير اللحم، ألا وهما، من البر: الغنم والبقر، ومن البحر: السمك؛ ووجد أن هناك استحالة كاملة للتدبير منهما لأسباب منطقية قوية للغاية، بسبب كثرة العدد (ستمائة ألف) وطول المدة (شهر)، وصعوبة المكان الذي هم تائهون فيه (صحراء جرداء)، ولم يفكر موسى في الجو وطيور السماء، لأن الاستحالة في هذه الحالة أضعاف أضعاف استحالة توفير اللحم من البر أو البحر.

 وهنا يفاجأه إله النجاة كعادته، بأن النجاة ستأتي حتمًا، وستأتي سريعًا (غدًا)!، وستأتي من مكان آخر!! المكان الذي لم يفكر فيه على الإطلاق! إنها ستأتي من الجو!

 وكانت الوسيلة هي نفس الوسيلة التي استخدمها لنجاتهم عند بحر سوف. إنها الريح! لكنه لن يرسلها كما في المرة الأولى عاصفة، كالإعصار (التورنيدو) لتشق البحر، بل سيرسلها لتهف على صفحة المياه فتحمل السلوى المهاجرة، ثم تأتي كالسفن العظيمة، أو كالجسر الجوي الحديث، حاملة السلوى اللذيذة! وهنا لكي يفعل الرب هذا كان لا بد أن يستعمل سلطانه على الريح، لا ليتحكم فقط في قوتها وسرعتها وزاوية اتجاهها كما في المرة الأولى، لكنه يضيف الجديد ألا وهو زمن توقفها لكي تفرغ حمولتها !

 عجبي!! ما أروع هذا الإله! وما أعجب سلطانه! فالريح التي لا سلطان لأحد عليها، ولا رادع البتة لها، إن أرادها هو عاصفة تشق البحر أطاعت. وإن أرادها سفنًا ناقلة تحمل السلوى استجابت. نعم، ما أعجبه إلهًا!

 وفرة في وسط الجوع

 كان الجوع في داخل السامرة شديدًا للغاية، واكتملت المأساة بأن جاء الأراميون وحاصروها من الخارج حصارًا شديدًا للغاية، فصار رأس الحمار بثمانين من الفضة، وربع القاب من زبل الحمام بخمس من الفضة! في تلك الأيام السوداء صرخت امرأة لملك إسرائيل، وهو مجتاز على السور، قائلة: «خلِّص يا سيدي الملك، فقال: من أين أخلصك؟ أ من البيدر؟ أو من المعصرة؟ ثم قال لها الملك: ما لك؟» وما أبشع ما قالت!! فلقد أكلت النكداء بالأمس ابنها مع جارتها، وجاءت اليوم تشتكي جارتها لأنها ضنت بابنها عن الأكل! وهنا مزق الملك ثيابه، لقد وصلت الغمة للغمام، فماذا يبقى بعد أن تأكل الأم وليدها؟!

 لكن ما نبغي التوقف عنده هنا هو جواب الملك، إذ يقول: من أين أخلصك؟ لقد قال موسى في يومه: من أين؟ وها هو ملك إسرائيل يقول أيضًا من أين؟ وكما استعرض موسى مكانين، ووجد أنه ليس فيهما خلاص، استعرض أيضًا ملك إسرائيل المكانين الوحيدين اللذين يتوقع الناس منهما الخلاص في زمن الجوع: البيدر، والمعصرة، لكنهما للأسف كانا فارغين، مفلسين تمام الإفلاس. وغاب إله النجاة الذي لا يعدم مكانًا عن عين الملك، هذا لأنه لا يتراءى إلا لعين الإيمان، العين التي رآه بها مردخاي فهتف بالقول العظيم: ”يكون الفرج والنجاة من مكان آخر“. لم يرَ الملك هذا المكان الآخر، فامتلأ باليأس والقنوط، وفي لحظة هوجاء قرر بغباء أن يقتل أليشع، بدلاً من أن يصرخ لإله النجاة الذي لا يعدم مكانًا.

وفي وسط هذا الجو الكئيب يفاجئ أليشع رجل الله الجميع بالقول: «اسمعوا كلام الرب. هكذا قال الرب: في مثل هذا الوقت غدًا، تكون كيلة الدقيق بشاقل، وكيلتا الشعير بشاقل في باب السامرة»!

 بالطبع كان هذا الكلام أغرب من الخيال على مسامع الناس. فلو كان قد قال مثلاً: ”ستنفرج الأزمة بعد ستة أشهر من الآن“، لأمكن للناس أن يصدقوا بعض التصديق، إذ يقولوا ربما يرسل الرب مطرًا في الحال فتزرع الأرض وتحصد ويكون هناك طعام. لكن عندما يعد بوفرة في أسود أيام، وفرة في خلال أربع وعشرين ساعة، وفرة لم يعهدها الشعب حتى في زمن الرخاء، فهذا يفوق كل خيال، ولا يمكن أن يتقبله العقل أو المنطق السليم. وقد عبَّر عن هذا الجندي الذي كان الملك يستند على يده، فقال ساخرًا من قول أليشع: «هوذا الرب يصنع كوى في السماء؟ هل يكون هذا الأمر!». لقد فكر هذا التعس بمنطق عدم الإيمان، وتصور أن إله النجاة لكي يتمم هذا الكلام ليس أمامه إلا أن يصنع كوى في السماء، ثم يجعل السماء تمطر دقيقًا وشعيرًا! وبما أن هذا مستحيل الحدوث، فلن يكون هذا الأمر. وبعدم إيمانه جلب على نفسه الهلاك إذ قال له رجل الله إنك ترى بعينيك ولكن لا تأكل منه.

 لقد كان كلامه من جهة المنطق صحيحًا للغاية، لكن، طالما أن الرب قال، كان عليه أن يؤمن أن إله النجاة لا يُعدم مكانًا. وكم أخشى أن يكون هذا لسان حال بعض إخوتي المؤمنين عندما تغلق كل الأبواب، وعندما تضيق وتستحكم الحلقات، عندما يخلعون نظارة الإيمان ويرتدون ثوب المنطق البشري، فيقولون ساخرين كلمات عدم الإيمان: ”هوذا الرب يصنع كوى في السماء؟ هل يكون هذا الأمر!“. كم أخشى أن تعطل هذه اللغة تدخل الله لحسابهم، وانقاذ القدير لهم، فكلي القدرة لم يقدر مرة أن يعمل المعجزات، بسبب عدم الإيمان!!

 كان حري بهذا الجندي أن يعلم أنه على الرغم من صعوبة الموقف، فالرب لا يُعدم مكانًا، حتى لو لم يستطع عقله أن يعلمه أو حتى يتخيله. بل إنني أعتقد أن أليشع نفسه، الذي نطق بهذه الكلمات، لم يكن يعلم كيف سيحقق الرب هذا الكلام العجيب، لكنه كان يؤمن كل الإيمان أن الرب السيد يعلم، وأن عنده للموت مخارج، وأن له من الحكمة والسلطان ما يجعله لا يعدم المكان.

 وفي الغد، حسب الميعاد، كان الحل عند إله النجاة عجيبًا، وفي نفس الوقت بسيطًا للغاية.

 إنه حل عجيب، لأن الأراميين الذين عقدوا المشكلة بحصارهم للسامرة صاروا هم وسيلة الحل! ومن أتوا ليضمنوا ويؤكدوا الموت للشعب الجائع صاروا هم وسيلة الإحياء!

 وهو حل بسيط، لأن كل ما فعله إله النجاة هو أنه أسمع جيش الأراميين صوت مركبات، وصوت خيل، صوت جيش عظيم. ومن أين أتى الرب بهذه الأصوات؟ إنني لا أستبعد أبدًا أن كل ما فعله الرب في هذه الحالة هو أن استنهض من ذاكرتهم تلك الأصوات التي اعتادوا سماعها! فهم جيش عمله الدائم هو الحرب، يعيش على صوت صهيل الخيل وقعقعة السيوف وضجيج المركبات، وكثيرًا ما اختزنت ذاكرتهم هذه الأصوات، وكان المكان مناسبًا جدًا لاسترجاع هذه الأصوات، فهم في ميدان معركة، فأية جرعة بسيطة من القلق النفسي كفيلة بأن تستحضر للذهن كل هذه الأصوات. لذا أنا لا أستبعد أن كل ما عمله الرب هو أنه استدعى - وهو صاحب السلطان - هذه الأصوات من داخلهم، ثم ترك الباقي لخيالاتهم الخاطئة الحمقاء لتستكمل لهم ”سيناريو“ أحداث مخيفة ومرعبة، فقالوا الواحد لأخيه: هوذا ملك إسرائيل قد استأجر ضدنا ملوك الحثيين وملوك المصريين ليأتوا علينا، فقاموا وهربوا في العشاء وتركوا خيامهم وخيلهم وحميرهم المحلة كما هي ... فخرج الشعب ونهبوا محلة الأراميين، فكانت كيلة الدقيق بشاقل، وكيلتا الشعير بشاقل، حسب كلام الرب! وهكذا هربوا بجلدهم قبل أن يكتسحهم الأعداء. لقد صورت لهم خيالات رعبهم أن الجياع الموتى قد استأجروا ضدهم جيوش الحثيين وملوك مصر! ولم يسألوا أنفسهم للحظة: من أين لمن لا يجدون الطعام، ومحاصرون أشد الحصار، أن يستأجروا الجيوش والملوك؟

 هذا هو إله النجاة، هذه هي فراسته وروعته! لقد جعل من أتى ليميت هو نفسه وسيلة الحياة! وهنا أعطي لنفسي الحق أن أتوقف قليلاً لأتخيل جنود جيش أرام وهم يحملون الطعام أكداسًا من دمشق، وهم في طريقهم لحصار السامرة لإماتة شعبها جوعًا. لقد كدسوا كل ما يحتاجون إليه، لكي يستمتعوا بتناوله طوال مدة الحصار! أتخيلهم وأضحك، لأنهم ما كانوا يدرون أنهم يحملون هذا الطعام لإحياء الشعب الجائع، وليس لإماتته بالحصار! ما كانوا يدرون أنهم سفن الإنقاذ وليسوا سفن الهلاك!! ما كانوا يدرون أنهم لن يأكلوا هذا الطعام، بل هم مجرد خدام يحملونه للشعب الذي يبغضونه، بل وهم ماضون لإهلاكه! لقد حملوه للجياع صاغرين مجبرين من إله النجاة العزيز الحكيم!

 عزيزي المؤمن: هل صدقتني أنه لا يُعدم مكانًا؟؟  

ماهر صموئيل