أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
هنري أيرنسايد يحجم الكثيرون عن دراسة أسفار الأنبياء الصغار (من هوشع إلى ملاخي)؛ فالبعض يتخوف من ذلك اعتقادًا بصعوبة فهمها واستخراج فوائد منها، والبعض الآخر يجهل الدرر والنفائس التي تحويها هذه الأسفار بين دفتيها. والواقع أن هذه الأسفار وإن صغر حجمها – وهذا سر تسميتها – عظمت قيمتها. ففيها نجد مستودعًا لأفكار الله، ومعرضًا لطرقه ومعاملاته المختلفة؛ فنراه داعيًا تارة، محذرًا تارة أخرى، معلنًا عن محبته لشعبه، موضحًا متطلباته في هذا الشعب الذي ارتبط به، فاتحًا بالنعمة باب رد شعبه إليه من أجل اسمه. ولذلك فكل من يحب الاطلاع على أفكار الله كما أعلنها هو – تبارك اسمه – ومن يهمه أمور الله وطرقه ومعاملاته؛ عليه ألا يهمل دراسة هذه الأسفار الثمينة، شأنها شأن كل كلمة الله. وكاتب هذه التأملات؛ هنري أيرنسايد، كاتب متعلم في ملكوت الله، وهبه الله بصيرة مفتوحة على الحق، كما منحه أسلوبًا سلسًا، فتميز بقدرته على تبسيط الصعوبات التي قد تواجه الدارس. وهو، في هذه التأملات، يقدِّم دراسة تأملية في أسفار الأنبياء الصغار، ملقيًا الضوء على محتواها، مستخرجًا الكثير من الدروس العملية لنا نحن الذين كُتِبَت كل هذه لتعليمنا وإنذارنا. والكتاب يُعَد إضافة لمكتبتنا العربية كنا في حاجة شديدة إليها. لذلك نستودع الكتاب وقرّاءه بين يدي الرب، ليكون سبب بركة وفهم أعمق للمكتوب. والكتاب صدر في ثلاثة أجزاء متوفرة في مكتبة الإخوة الجزء الأول: هوشع – يوئيل – عاموس – عوبديا ١٥٥ صفحة الجزء الثاني: يونان – ميخا – ناحوم – حبقوق – صفنيا ١١٤ صفحة الجزء الثالث: حجي – زكريا – ملاخي ١٣٤ صفحة نشجعك على اقتنائه وقراءته.
 
 
عدد مايو السنة 2023
إِصْعَاد إِيلِيَّا وبداية خدمة أَلِيشَع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

العبارة الافتتاحية لهذا الأصحاح «وَكَانَ عِنْدَ» (ع ١)، أو ”ولما حان الوقت“ أو ”وجاء إلى حيز التنفيذ“، تؤكد حتمية ما كان سيحدث. لقد تم تحديد هذا اليوم المعيَّن في مشورات الله، لذلك، أيا كان ما فضَّل الآخرون حدوثه، لم يتمكنوا من إبطال خطة الرب لخادمه الأمين، أي «إِصْعَادِ الرَّبِّ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ» (ع ١). يختار الرب متى وكيف يُنهي خدمة عُماله، وتوقيته دائمًا متقَن ومثالي. فقط عندما ينتهي عملهم، يأخذهم ليكونوا معه. ويُسجل عن الشاهدين اللذين سيتنبآن في أورشليم خلال فترة الضيقة المُقبلة، أنه فقط «مَتَى تَمَّمَا شَهَادَتَهُمَا، فَالْوَحْشُ الصَّاعِدُ مِنَ الْهَاوِيَةِ سَيَصْنَعُ مَعَهُمَا حَرْبًا وَيَغْلِبُهُمَا وَيَقْتُلُهُمَا» (رؤ ١١: ٧). وبطبيعة الحال، لا يمكن أن أيهما، أو إِيلِيَّا، يتوقع أن ينجو من الكراهية الشديدة والمعارضة من أعدائهم ليوم واحد. ومع ذلك، فإن توقيت وطريقة رحيلهم يشهدان ويؤكدان على سيادة الرب. ويعتقد بعض الشراح أن أحد الشاهدين خلال فترة الضيقة سيكون إِيلِيَّا نفسه. ولكن لا يوجد دليل كتابي قاطع على هذا، ومن المرجح أن يكونا رَجُلين تم إعدادهما لهذه المناسبة المُحدَّدة.

لو كانت خطة رحيل إِيلِيَّا قد تُركت له، لكان الأمر قد انتهى بشكل مختلف تمامًا. كان قد طلب سابقًا أن يموت بعد هروبه من غضب الملكة إيزابل الشريرة: «سَارَ فِي الْبَرِّيَّةِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، حَتَّى أَتَى وَجَلَسَ تَحْتَ رَتَمَةٍ وَطَلَبَ الْمَوْتَ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ كَفَى الآنَ يَا رَبُّ. خُذْ نَفْسِي لأَنِّي لَسْتُ خَيْرًا مِنْ آبَائِي» (١مل ١٩: ٤). ولكن الرب لم يأخذه بناء على رغبته، وإلا لكان قد فاته الخروج المجيد الذي كان أُعِدَ له. لم يكن الرب ليسمح أن خادمه الأمين يموت رجلاً مهزومًا ومُحبَطًا على تراب البرية. لذلك تم تجهيز المشهد لإصعاده المعجزي العجيب إلى السماء. الرجل الذي أراد أن يُنهي الرب حياته، اكتشف أن خطة الرب هي أن يأخذه إلى السماء حيًا، دون المرور عبر وادي الموت!

رحلة منعزلة

إذا كان لرحيل إِيلِيَّا إلى السماء أن يكون مُثيرًا ومُذهلاً واستثنائيًا، فإن المسار الذي سبقه مباشرة لم يكن كذلك. وبطبيعة الحال، ربما كان القارئ يتمنى خلفية أكثر دراماتيكية لمثل هذا النبي العظيم. ومع ذلك، فدون أن يُرى من أحد، ودون أن يُعلِن لأحد، سواء من الملوك أو الأمة ككل، قام برحلة بسيطة غير مُدهشة، بدأت من الجلجال وانتهت على الجانب الآخر من الأردن. لم يَسعَ أبدًا إلى تقدير أو اهتمام خاص أو موافقة من أحد. وفي الواقع، أنه منذ اللحظة التي ظهر فيها على مسرح تاريخ إسرائيل، كان في عُزلة أكثر مما كان عليه على مرأى من الشعب. لذلك لم يكن من المستغرَب أن قِلّة قليلة جدًا شهدت رحلته الأخيرة.

رحلة إنكار للذات

كانت هناك نقطة في الماضي عندما اعتقد إِيلِيَّا أنه الشخص الوحيد الأمين المتبقي في إسرائيل (١مل ١٩: ١٠)، ولكن الرب بلطف علَّمه خلاف ذلك. وعلَّمه أيضًا أن عمل الرب لا يعتمد عليه وحده، ولا ينتهي به (٢مل ١٩: ١٥-١٨). ومن بين أولئك الذين اعتمدت عليهم الشهادة المستقبلية كان ”بنو الأنبياء“ (٢مل ٢: ٣، ٥، ٧)، الذين كان يمكن العثور عليهم في عدد من ”المدارس“ الموجودة في جميع أنحاء المملكة. كانوا شبابًا ذوي مواهب نبوية، اجتمعوا معا لدراسة كلمة الله، والتعلّم من الأنبياء الأكبر سنًا. لذلك كان غرض اختبار أخذ إِيلِيَّا عنهم، هو تشجيعهم وتقويتهم على المهمة الشاقة التي تنتظرهم بعد انتهاء طريقه. لم تكن حياته أبدًا مدفوعة بطموح أناني، بل برغبة في إعلان كلمة الرب، والبحث عن الخير الروحي للأمة.

لم يكن هذا هو الوقت المناسب للأحاديث والدردشة الكسولة، أو ببساطة تبادل المجاملات بين إِيلِيَّا وبني الأنبياء. كانت هذه لقاءات ثمينة لن تتكرر أبدًا، وكان الشباب سيعيشون في تأثيراتها لبقية أيامهم. وإذا أردنا التمسك بحقائق كلمة الله بين شعب الرب، يجب على القادة الروحيين التأكد من انتقالها من جيل إلى آخر. لقد أدرك بولس أهمية هذا عندما كتب إلى الشاب تيموثاوس: «وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا» (٢تي ٢: ٢).

رحلة لها علامات إرشادية هامة

إن أول رحلة مُسجَّلة لإيليا بعد زيارته للملك أَخْآب تسبقها عبارة «وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ لَهُ» (١مل ١٧: ٢). وأصبحت السمة المميزة لخدمته أن كلمة الرب هي التي توَّجهها وتحكمها. وطريقه - كما كان الحال مع الرحلة الأولى - هكذا كان مع رحلته الأخيرة. لم تكن رحلته الأخيرة من قبيل الصدفة أو من نسج خياله، إذ اتبع الطريق الذي أخذه أخيرًا من الجلجال إلى السماء، عن طريق بيت إيل وأريحا والأردن. لقد ضمن الرب أن يكون الطريق مُميَّزًا وواضحًا بعلامات إرشادية واضحة، مما مكَّنه من استهلال مراحله الثلاث بعبارة «الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِي» (٢مل ٢: ٢، ٤، ٦). إنه لأمر جيد أن يكون خدام الرب قادرين على التحرك بثقة، متأكدين أن لديهم كلمة من الرب للقيام بذلك.

رحلة ذات أهمية روحية

كل مكان من الأماكن التي توقف فيها إِيلِيَّا في الرحلة، كان له قصة تُروى في تاريخ بني إسرائيل:

أولاً: كانت نقطة البداية هي الجلجال (ع ١). والجلجال هو أول مكان حلَّ فيه بنو إسرائيل بعد أن تم خلاصهم من عبودية مصر، وعبروا نهر الأردن، ودخلوا أرض الميعاد. وهناك تم ختان أولئك الذين ولدوا في البرية «وَقَالَ الرَّبُّ لِيَشُوعَ: الْيَوْمَ قَدْ دَحْرَجْتُ عَنْكُمْ عَارَ مِصْرَ. فَدُعِيَ اسْمُ ذلِكَ الْمَكَانِ ”الْجِلْجَالَ“ إِلَى هذَا الْيَوْمِ» (يش ٤: ٢٠؛ ٥: ٩). ثم تحركوا بالإيمان، دون ثقة في الجسد، لهزيمة مدينة أريحا. وهكذا كان هذا مكانًا مناسبًا للارتباط برحيل إيليا الوشيك. والحياة من أجل شعب الله هي معركة مستمرة ضد العالم والجسد، تتحدث عنها مصر والجلجال على التوالي، والتي لن تنتهي إلا عندما يصل المؤمن إلى السماء. في حين أن بني إسرائيل كانوا مُذنبين باستمرار بخسارة هذه المعركة من خلال تشربهم بسياسة العالم ودينه الذي يجذب الجسد، كان إِيلِيَّا منتصرًا. كان على وشك التمتع بالانتصار النهائي عندما يأخذه الرب إلى السماء. ومع ذلك، كانت أمنيته الأخيرة قبيل رحيله هي تعضيد وتثبيت وتشجيع أولئك الذين تُركوا للصراع.

ثانيًا: أشارت علامة إِيلِيَّا الإرشادية الثانية إلى بيت إيل (بيت الله)، المكان الغني بارتباطاته الروحية. فإبراهيم «بَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ» (تك ١٢: ٨). وهناك أيضًا ظهر الرب ليعقوب، ووعد بأن يباركه (تك ٢٨: ١٣-١٥). وقال يعقوب عن بيت إيل: «حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!» (تك ٢٨: ١٦). وفي الحقيقة، عاد كل من إبراهيم ويعقوب إلى هناك بعد أوقات الفشل والتيهان في مساراتهما (تك ١٢: ١-٣؛ ٣٥: ١). وعندما أسس الملك ”يَرُبْعَامُ بْنُ نَابَاطَ“ نظامًا زائفًا للعبادة في إسرائيل، تضمن الأمر إقامة عجل ذهبي في بيت إيل تسبب في خطية إسرائيل «وَكَانَ هذَا الأَمْرُ خَطِيَّةً ... وَعَمِلَ يَرُبْعَامُ عِيدًا فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، كَالْعِيدِ الَّذِي فِي يَهُوذَا ... وَأَوْقَفَ فِي بَيْتِ إِيلَ كَهَنَةَ الْمُرْتَفَعَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا. وَأَصْعَدَ عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي عَمِلَ فِي بَيْتِ إِيلَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّامِنِ، فِي الشَّهْرِ الَّذِي ابْتَدَعَهُ مِنْ قَلْبِهِ، فَعَمِلَ عِيدًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَعِدَ عَلَى الْمَذْبَحِ لِيُوقِدَ» (١مل ١٢: ٢٨ - ٣٠). ومن المشجع أن نلاحظ أنه في هذا المكان بالذات، حيث كانت بقايا نظام ”يَرُبْعَامُ بْنُ نَابَاطَ“ الديني لا تزال موجودة وواضحة، نقرأ «فَخَرَجَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ إِيلَ إِلَى أَلِيشَعَ» (ع ٣). كان ذلك دليلاً آخر على فشل أنظمة البشر، لكن كلمة الرب لن تزول أبدًا. لذلك كان من المناسب تمامًا أن يزور إِيلِيَّا هذه البقعة الهامة في رحلته الأخيرة، ويشجع أولئك الذين سيتركهم خلفه، على التمسك بالحقائق المرتبطة بها.

ثالثًا: وجهت اللافتة الإرشادية التالية إيليا إلى أريحا (ع ٤). بعد تدمير المدينة من قِبَل الرب في أيام يشوع (يش ٦: ٢٠، ٢١)، وضعت لعنة على أي إنسان يُعيد بناءها: «وَحَلَفَ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ قَائِلاً: مَلْعُونٌ قُدَّامَ الرَّبِّ الرَّجُلُ الَّذِي يَقُومُ وَيَبْنِي هذِهِ الْمَدِينَةَ أَرِيحَا. بِبِكْرِهِ يُؤَسِّسُهَا وَبِصَغِيرِهِ يَنْصِبُ أَبْوَابَهَا» (يش ٦: ٢٦). ولكن في أيام الملك الشرير ”أَخْآبُ بْنُ عُمْرِي“، حيث أُهمِلت كلمة الرب، ولم يكن يُعتد بها «بَنَى حِيئِيلُ الْبَيْتَئِيلِيُّ أَرِيحَا. بِأَبِيرَامَ بِكْرِهِ وَضَعَ أَسَاسَهَا، وَبِسَجُوبَ صَغِيرِهِ نَصَبَ أَبْوَابَهَا، حَسَبَ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ يَشُوعَ بْنِ نُونٍ» (١مل ١٦: ٣٤). أعاد ”حِيئِيلُ الْبَيْتَئِيلِيُّ“ - الذي يبدو أنه كان عابدًا للبعل - أعاد بناء المدينة دون خوف من توبيخ الملك! لقد ترفع بكبرياء، مُتوهمًا أن لديه السلطة والقدرة على تجاهل اللعنة. ولكنه دفع ثمنًا باهظًا لعصيانه بفقدان ابنيه الأكبر والأصغر.

وكان وجود إحدى مدارس بني الأنبياء في أريحا (ع ٥)، شهادة عن نعمة الرب ورحمته، كما شهدت معجزة لاحقة قام بها أليشع هناك؛ معجزة إبراء نبع المياه هناك (ع ١٩ - ٢٢). ومع ذلك، فإن أعظم التعبيرات عن نعمته ورحمته في أريحا شوهدت عندما زار الرب يسوع المدينة خلال خدمته العلنية، على سبيل المثال؛ شفاء بارتيماوس الأعمى في أريحا (لو ١٨: ٣٥ - ٤٣)، وخلاص زَكَّا رئيس العشارين مع أهل بيته (لو ١٩: ١ - ١٠). لذلك شهدت أريحا لله الذي يدين شر البشر، ولكنه يُريد ويستطيع أن يشفي ويُخلص ويرد النفس أيضًا. كما تتحدث أريحا أيضًا عن ضرورة الإيمان إذا كان لشعب الرب أن ينتصر على أعدائه. لا شك أن إيليا كان سيعيد التأكيد على هذه الحقائق للشباب، وهو يتحدث معهم في أريحا.

رابعًا: قادت اللافتة الإرشادية الأخيرة إيليا إلى الأردن (ع ٦). كان بنو إسرائيل قد عبروا الأردن عندما دخلوا كنعان «وَقَفَ الْكَهَنَةُ حَامِلُو تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الأُرْدُنِّ رَاسِخِينَ، وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ عَابِرُونَ عَلَى الْيَابِسَةِ حَتَّى انْتَهَى جَمِيعُ الشَّعْبِ مِنْ عُبُورِ الأُرْدُنِّ» (يش ٣: ١٧). ورمزيًا، عبر الشعب الموت والدفن إلى أرض القيامة. وقام إيليا بنفس الرحلة، ولكن في الاتجاه المعاكس، أي أنه كان يغادر كنعان ولا يدخلها. كان يترك وراءه أرضًا ملوَّثة بشرور الملوك المتعاقبين ، لكن اهتمامه كان منصبًا على البقية التي ستبقى. وقد دخل بنو إسرائيل الأرض بوصفهم أولئك الذين أطلق سراحهم من العبودية؛ ومع ذلك، لن يمر وقت طويل قبل أن يتم اقتيادهم بعيدًا عنها كأسرى ومسبيين مرة أخرى.

ولم تكن الأهمية الروحية لهذا المسار النهائي خافية عن إِيلِيَّا وإليشع. مما لا شك فيه أن المؤرخ الإلهي أراد أن يكون لتقريره تأثير أيضًا على المسبيين اليهود الذين كتب إليهم. والواقع أن الرسالة خالدة، وتخاطب المؤمنين من جميع الأجيال. وتعليق ”وارين ويرسبي“ مفيد: ” الماضي ليس مرساة لإعاقتنا وتعطيلنا، بل هو دفة لإرشادنا، ويمكن للرب استخدام ذكريات الماضي الحقيقية الواقعية لتعزيز إيماننا“.

وكتب ”هاملتون سميث“: ”الآن، من أجل أن نكون شهودًا أكفاء، يجب علينا، في اختباراتنا الروحية، أن نعرف شيئًا عن الحقائق العظيمة التي تُظلل رحلة اليوم الأخير هذه. علينا نحن أيضًا أن نسافر من الجلجال إلى الأردن، ونشخص لرؤية الإنسان المُقام الصاعد والمُمجَّد، قبل أن نتمكن، بأي حال من الأحوال، من إدراك عُظم نعمته وتفرده في عالم احتقره وطرده“. ويجب على المؤمنين طاعة التحريض «بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ» (رو ٨: ١٣ - الجلجال)، إذا كانوا يرغبون في إظهار خارجي للحياة التي في الداخل. ثم سيقدرون ويعرفون كيف يتصرفون في ”بيت الله“ (١تي ٣: ١٥ - بيت إيل)، ويختبرون حياة الإيمان المنتصرة على أعدائهم (١تي ٦: ١٢ - أريحا). والتأمل فيما حدث في الأردن سيُذكرهم أيضًا بالحقيقة العظيمة للموت والدفن والقيامة مع المسيح، التي شرحها الرسول بولس للمؤمنين في كولوسي (كو ٢: ١١ - ٣: ٣).

الشركاء

خلال معظم خدمته النبوية، سلك إِيلِيَّا في طريقه وحيدًا. وإنه لأمر مؤثر أن نراه يقوم برحلته الأخيرة على الأرض في شركة ورفقة آخرين. ولا بد أنه كان تشجيعا كبيرًا لبني الأنبياء أن يقوم إِيلِيَّا بزيارتهم في خضم الارتداد المحيط بهم. ومن الواضح أن كلماتهم إلى أليشع تُظهر أن الرب كان قد أعلن لهم أن هذا هو اليوم الأخير لإِيلِيَّا على الأرض: «فَخَرَجَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ ... إِلَى أَلِيشَعَ وَقَالُوا لَهُ: أَتَعْلَمُ أَنَّهُ الْيَوْمَ يَأْخُذُ الرَّبُّ سَيِّدَكَ مِنْ عَلَى رَأْسِكَ؟» (ع٣، ٥). يبدو كما لو أنهم كانوا يقترحون على أليشع أن يبقى معهم، بدلاً من الاستمرار في اتباع إِيلِيَّا. لم يكن لهم الإيمان الذي كان لأليشع، فلم يكونوا مستعدين لتبعية إِيلِيَّا حيثما ذهب. ومع ذلك، كانوا سينمون في معرفة الرب في هذا اليوم بالذات. وفي حين أن بقية الأمة كانت جاهلة وغير مبالية بما كان يحدث في الأردن، يمكن القول لصالحهم إن خمسين منهم رأوا انفلاق الأردن «فَذَهَبَ خَمْسُونَ رَجُلاً مِنْ بَنِي الأَنْبِيَاءِ وَوَقَفُوا قُبَالَتَهُمَا مِنْ بَعِيدٍ. وَوَقَفَ كِلاَهُمَا بِجَانِبِ الأُرْدُنِّ. وَأَخَذَ إِيلِيَّا رِدَاءَهُ وَلَفَّهُ وَضَرَبَ الْمَاءَ، فَانْفَلَقَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ، فَعَبَرَا كِلاَهُمَا فِي الْيَبَسِ» (ع ٧، ٨).

وكم كان مشجعًا - كما كان يجب - أن يلتقي إِيلِيَّا ببني الأنبياء في أرض كانت لا تزال تحت تأثير نظام ”يَرُبْعَام بْنُ نَبَاطَ“ الديني الزائف، وعبادة البعل. كان إيليا يعرف أيضًا أنهم سيحتاجون إلى قيادة قوية في المستقبل إذا أرادوا انتعاشًا روحيًا. لقد كان عملاقًا روحيًا بينهم، وكانوا يتطلعون إليه للحصول على الإرشاد. لطالما كان فقدان القادة الروحيين العظماء سبب حزن شعب الرب، وسبب قلق بشأن ما إذا كان هناك مَن هم أَكْفَاء روحيًا ليحلوا محلهم. لا بد أنه كان هناك بعض بني الأنبياء الذين شككوا فيما إذا كان من الممكن استبدال إِيلِيَّا. ومع ذلك، لم يكونوا بحاجة إلى الخوف؛ فالرب يأخذ عماله، لكنه يضمن استمرار عمله، ليس بالضرورة بنفس النوع من الشخصيات، ولكن مع أولئك المناسبين للاحتياجات المحددة في ذلك الوقت. إن إدراك هذا سيمنع شعب الرب من تأليه بعض الخدام، والاعتقاد بأنه لا غنى عنهم.

كان على أليشع، رفيق إِيلِيَّا الدائم في هذه الرحلة الهامة، أن يُثبت أنه نبي مختلف للرب، ولكنه فعال بنفس القدر. أي شكوك باقية بين بني الأنبياء في أريحا حول مدى ملاءمته لخلافة إِيلِيَّا قد تلاشت وتبددت بحلول نهاية اليوم، وأعلنوا في توافق تام: «فَأَخَذَ (أَلِيشَعُ) رِدَاءَ إِيلِيَّا الَّذِي سَقَطَ عَنْهُ وَضَرَبَ الْمَاءَ وَقَالَ: أَيْنَ هُوَ الرَّبُّ إِلهُ إِيلِيَّا؟» ثُمَّ ضَرَبَ الْمَاءَ أَيْضًا فَانْفَلَقَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ، فَعَبَرَ أَلِيشَعُ. وَلَمَّا رَآهُ بَنُو الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي أَرِيحَا قُبَالَتَهُ قَالُوا: قَدِ اسْتَقَرَّتْ رُوحُ إِيلِيَّا عَلَى أَلِيشَعَ». كما أظهروا قبولهم له «فَجَاءُوا لِلِقَائِهِ وَسَجَدُوا لَهُ إِلَى الأَرْضِ» (ع ١٤، ١٥).

س. ت. لاسي

س. ت. ليسي