أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2018
ببراهين كثيرة قاطعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

وصف شخص ما الكلمات التي قالها الرب لبطرس “بَعْدَ مَا تَغَدَّوْا” بأنها كلمات نعمة لا يُعبَّر عنها. وهي تأتي ختامًا لتلك السلسلة العجيبة من جهود الرحمة الموجهة نحو هذا التلميذ الذي سقط بعمق.

وقبل سقوط بطرس فإن الرب رفع يديه بالفعل بالصلاة للآب من أجل بطرس “لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانهُ” (لو٢٢: ٣١، ٣٢). ونرى منذ ذلك الحين كيف أن الرب اعتنى - بلا توقف - بهذا التلميذ الذي لم يعرف نفسه، وكيف أن المسيح أصلح بيديه الضرر الذي أحدثه تلميذه، عندما ضرب بالسيف في غيرة جسدية (لو٢٢: ٤٩-٥١). واستقرت عيناه عليه بالأسى والعطف بعد الإنكار، ثم ما نتج عنه من إقرار بالذنب وتوبة صادقة (لو٢٢: ٦١، ٦٢). وأرسل فمه – تبارك اسمه – رسالة خاصة لبطرس (مر١٦: ٧)، وتكلَّم بكلمات النعمة والمسامحة له، عندما ظهر له بعد فترة وجيزة من قيامته، لأنه كان مهتمًا بأن هذا التلميذ يُصبح قادرًا على أن يفرح بالاستمتاع بالشركة معه (لو٢٤: ٣٤). فبالقدمين اللتين غُسلتا (يو١٣: ٦-١٠)، استطاع بطرس في نفس تلك الليلة أن يأخذ مكانه بين أولئك الذين حياهم الرب المُقام بتحية السلام. فيا لعظمة الرب! هو لا يفعل شيئًا ناقصًا أو غير مكتمل. ويُرينا الفصل موضوع تأملنا كيف أن الرب الذي يعلم قلوبنا، يُكمل رد نفس هذا التلميذ الذي سقط ضحية لثقته الشخصية بنفسه.

وقد أوضح مسلك بطرس في هذا الصباح عند البحيرة أن ضميره قد رُد، ولم يعد بعد مُلوثًا. ولكن مع أن رد النفس كان عظيمًا، إلا أن شيئًا ظل بحاجة أن يُفعل. فمع أن النعمة أزالت الذنب، إلا أنه من اللازم أن يتعرف هذا التلميذ الذي سقط على جذور أفعاله، وأن يدينها.

«فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا» ... بهذه الكلمات يفتتح الروح القدس هذه الواقعة الحاضرة في سلسلة هذه الوقائع. فأثناء الغداء لم ينطق الرب بكلمة واحدة عن الماضي. لقد أتى أولاً ببطرس إلى مائدته، ودعاه يذوق محبته ولطفه. ولم يتحول الرب إلى بطرس إلا بعد ذلك، فهو يعرف كيف يختار التوقيت الصحيح، والوسيلة الصحيحة لغرضه.

«فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟» (يو٢١: ١٥). والكلمات “يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا” ذكَّرت بطرس بأصله، ومن أين أتت به النعمة. وهذا الأسلوب في مخاطبته، والذي تكرر ثلاث مرات، لا بد أنه اخترق عميقًا قلب هذا التلميذ. وما أكثر ما عنته الكلمات التي تلت! «أَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ» (عب٤: ١٢). فالسؤال الأول كان لا بد أن يخترق «أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟». «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا»، هكذا تكلَّم بطرس بثقة قبل السقوط (مت٢٦: ٣٣). يا له من افتراض قاطع متغطرس! فسقوطه المُحزن قد أكد كيف كان خداعه لنفسه مميتًا في تلك الليلة، كما حدث كثيرًا من قبل.

«قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي» (ع١٥). ألم تكن محبته العميقة والمفعمة بالانفعال الصادق، هي التي قادت ذلك التلميذ إلى النطق بكلمات الافتراض القاطع التي ألمح إليها سؤال الرب كما لاحظنا توًا. ألم يُخاطر بحياته بالفعل من أجل سَيِّده، حتى استل السيف عنه، وحتى عندما تبعه إلى دار رئيس الكهنة؟ ولكن يا للحسرة! فرغم كل الثقة بالنفس التي كانت له، فإن هذه المحبة لم تقف حتى أمام سؤال جارية ينطق بالاتهام والاحتقار.

ولذلك فهو الآن يُعبر عن نفسه بمنتهى الحرص، مُتضرعًا إلي الشخص الذي يعرف قلبه أحسن مما هو يعرف: «نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ (أو “أنت تعرف أني أعزك” – الترجمة التفسيرية)» (ع١٧). والرب قد سُرَّ بهذه الإجابة، واستجاب لبطرس بأن أوكل إليه صغار قطيعه«ارْعَ غَنَمِي (“اطعم حملاني – الترجمة التفسيرية)».

«قَالَ لَهُ أَيْضًا ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» (ع١٦). ولم ترد عبارة “أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟” في السؤال الثاني. وكأن هذه تقول: “أيستطيع أحد أن يتكلَّم عن المحبة لتلميذ قيل عنه مرة: «ابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» (مر١٤: ٧١). وإذ اتضع بطرس بعمق، فكرر رده الأول «نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ (أو “أنت تعرف أني أعزك” – الترجمة التفسيرية)». والآن مضى الرب قدمًا لخطوة أبعد، وأوكل إلى بطرس مهمة أخرى «ارْعَ غَنَمِي».

«قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ (“أَتُعزني” – الترجمة التفسيرية)» (ع١٧). وهنا نرى أن الرب عندما سأل السؤال الثالث، استخدم نفس التعبير الذي استخدمه بطرس في رديه السابقين. أفلم يكن حتى صوابًا أن يتكلَّم عن محبة الصداقة أو الإعزاز؟ وهل كان لبطرس أي ادعاء أو اعتراض؟ لا. كلا على الإطلاق. فتكرار الرب السؤال للمرة الثالثة - وإن كان أقل إصرارًا، ولكن بألطف صورة ممكنة – قد كشف أظلم أعماق قلب بطرس. وهذا التلميذ قد فهم الآن أنه ليست له أية ثقة يعتمد فيها على قلبه المُخادع. لقد وصل إلى أخفض نقطة للاتضاع. وهذا ما ظهر جليًا في ذلك التعبير بالغ المحبة في كلماته التي تلي الآن.

«فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي (أَتعزني)؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ (أَعزك)» (ع١٧). وها هو بطرس الآن يرفض أي ادعاء عن نيات قلبه وأفكاره. بل حتى لم يُجب بالقول: «نَعَمْ يَا رَبُّ»، كما قال مِن قبل. لقد ترك الحكم على قلبه وعلى نفسه، للرب، مُعطيًا نفسه في يديه بثقة، وبلا تحفظ.

فهل نتعلَّم شيئًا عن مشاعر وأحاسيس هذا التلميذ في تلك اللحظات الجادة والخطيرة؟

(يتبع)


فريتز فون كيتسل