أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد ديسمبر السنة 2006
أنت هو
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لقد حمَّل يوحنا المعمدان اثنين من أخلص تلاميذه هذا السؤال الذي كان يدور مدة طويلة في عقله، واضطر في النهاية أن يفصح عنه، «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟». أيمكن أن يكون هذا هو الذي منذ بضعة شهور وقف في منبره المنحوت في الصخر، ممتلئة نفسه بكل يقينية الإيمان؟! لقد كان نور الشمس الساطع على شخصه وقتها، إذ وقف مستقيمًا وسط الجماهير الغفيرة، رمزًا للنور الذي ملأ نفسه. لم يكن في صدره أي أثر للريبة أو الشك. لقد أشار إلى المسيح بكل يقين وثقة قائلاً: ”هذا هو“.. «هذا هو حمل الله». لكن يا للفارق العظيم بين هذا، وبين تلك الرسالة الأليمة: «أنت هو؟»! لم يتردد الكتاب المقدس عن أن يحدثنا عن سقطات أنبل شخصياته؛ عن إبراهيم الذي توهم أن المصريين قد يقتلونه، عن إيليا الذي ارتمى تحت رتمة طالبًا الموت لنفسه، عن توما الذي كان مستعدًا أن يكون مع سيده، إلا أنه لم يصدِّق أنه قد قام. وبهذا قدَّم لنا الروح القدس خدمة من أجلّ الخدمات، لأننا منه نتعلم أن المادة التي خلق الله منها أعظم القديسين كانت لحمًا ودمًا مثلنا، وأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالنعمة الإلهية التي ظهرت فيهم بكل وضوح. نعم. لقد تزعزع إيمان المعمدان قليلاً، وبدا وكأنه سوف يهوي إلى هاوية لا قرار لها. لقد أرسل تلميذاه إلى يسوع قائلاً: أنت هو الآتي؟ ويمكن القول أن ضعف الإيمان هذا كان يعزى إلى ثلاثة عوامل أساسية: 1- انقباض النفس لقد كان المعمدان ابن صحراء، كان طليقًا يتمتع بالحرية. إذا ما نام بالليل أو عمل في النهار، امتدت السماء فوقه ببساطتها، ومساحاتها اللانهائية. وعندما وجد نفسه مكبلاً بالأغلال، محبوسًا في غرفة مظلمة، سادته الكآبة والحزن. تعطش إلى الحرية تعطُّش العصفور البري المحبوس، وتاقت نفسه إلى أن يتحرك دون أن يسمع صليل القيود، وأن يشرب من مياه الأردن الصافية، وأن يستنشق نسيم الصباح، وأن يتطلع إلى فضاء الطبيعة اللانهائي. وهل نجد صعوبة في أن نفهم كيف كان لقيوده رد فعل على حالته النفسية، وكيف كان لوهنه هذا تأثير على نفسه؟ إن تركيبنا الجسماني متناهٍ في الدقة، 

ويالها من تعزية لا حد لها أن نعرف أن الله يدرك كيف تضطرب طبيعتنا بسهولة. إنه يعرف أن يعزو شكوكنا ومخاوفنا إلى مصادرها الحقيقية. إنه يعرف أن القوس قد انثنى إلى درجة قريبة من الإنكسار، وأن الحبل قد شُدَّ إلى أقصى درجات الاحتمال. إنه لا يوبِّخ خدامه عندما يرتمون تحت رتمة، طالبين لأنفسهم الموت، بل يرسل إليهم طعامًا ويمتعهم بنومٍ عميق، وعندما يرسلون من سجونهم متسائلين «أنت هو؟»، فلا تسمع كلمة توبيخ، بل كلمات تشجيع رقيقة وتعليم.

- خيبة الأمل عندما أُودِع في السجن في بداية الأمر، توقع في كل يوم أن يتدخل السيد لإنقاذه بطريقة ما. أليس هو فاتح أبواب السجون؟ ألم يُدفَع إليه كل سلطان؟ ألم يمسك قضيب بيت داود؟ يقينًا أنه لا يرتضي بأن تابعه الأمين يظل في يأس ذلك السجن المظلم. ألم يقرر صراحة في تلك العظة الأولى في الناصرة، والتي سمع عنها، أنه ضمن برنامجه الإلهي، الذي لأجله مُسِح، هو أن يفتح أبواب السجون، وينادي للمأسورين بالإطلاق. إذًا فإنه لا بد وأن يرسل ملائكته ليفتحوا أبواب السجن، ويخرجوه إلى النور. لكن الأسابيع مرت، وتلتها الشهور، ولم تأتِ الإغاثة. لم يستطع قلب يوحنا الأمين أن يجد تعليلاً لذلك، وخشي أن يكون قد أخطأ في التحقق من شخصية المسيح. ونحن أيضًا قد نشترك معه في شكوكه. فإننا كثيرًا ما توقعنا تدخُّل الله لإنقاذنا من بعض هموم لا تُحتَمَل. كان السمع مرهفًا، والقلب خافقًا لعلنا نسمع وقع أقدام الملاك، لكن الساعات المملة قد مضت دون أن يحضر، فابتدأنا نشك في عناية الله واهتمامه بنا، وفي فاعلية الصلاة، وفيما إذا كان يحق لنا أن نطالب بتحقيق مواعيده حرفيًا. 3- معرفة جزئية عن المسيح كان يوحنا قد «سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ»، وكانت كلها خيرًا ورحمة، فتساءل في نفسه هل هذا هو كل ما فعل؟! ألم يستخدم الرفش لينقي الحنطة، والنار ليحرق؟ لقد كان هذا ما يتوقعه، وما تعلَّم أن يتوقعه من إشعياء وسائر الأنبياء، لم يكن يتوقع هذه الحياة الهادئة الرقيقة الخيِّرة، لذلك أرسل اثنين من تلاميذه، قائلاً لهما: اذهبا واسألاه عما إذا كنا ننتظر آخر؛ من طراز آخر يكون كالنار والزلزلة والعاصفة، وفي نفس الوقت يكون كالصوت الهادئ الخفيف. لقد كانت ليوحنا معرفة جزئية عن المسيح. لقد فكَّر فيه أن يكون فقط هو المنتقم من الخطية، ديّان الجميع المرهوب. لم يكن في حسابه أية فكرة عن طبيعة السيد الرقيقة الحلوة الهادئة، وهكذا وقع في بالوعة اليأس هذه لأنه عجز عن أن يدرك تمام الإدراك شخصية المسيح. هذا أمر مؤسف جدًا، لكن ينبغي أن لا نكون قساة في لومه لئلا نلوم أنفسنا أيضًا. فمثلاً نحن نظن بأنه إن كان هنالك إله عادل فيجب أن لا يسمح بنصرة الظلم، ولا يسمح للأبرياء بأن يدوسهم الظالمون والمتغطرسون تحت أقدامهم، ولذلك فإننا نشك متسائلين عمّا إذا كان الله في علو سمائه، لأننا نرى أن العالم لايزال يئن ويتمخض. وفي أثناء ساعات النهار، وقف التلميذان وسط الجماهير إذ كان طابور المرضى والمجانين البائسين يمرون أمام المخلِّص، وينطلقون وقد نالوا الشفاء والخلاص. حتى الموتى كانوا يُقامون. وإذ انتهى السيد من شفاء الجميع التفت إليهما، وبنغمة رقيقة عذبة قال لهما :«اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ». لقد كانت إجابته إجابة غير مباشرة. لم يقل لهما: أنا هو الذي كان ينبغي أن يأتي، ولا داعي لانتظار آخر. فلو أنه قال هذا لكان قد اقتنع عقل يوحنا لا قلبه. بعد بضع ساعات كان لا بد أن تضعف الثقة ويتساءل من جديد. لهذا رفض الرب الإجابة على السؤال بطريقة مباشرة، مفضلاً بالأحرى أن يُسكِّن القلب الثائر المنزعج. قد يقتنع العقل وقتيًا بما يرى من أدلة، أما النفس والقلب والروح فإنها تخسر المعرفة الحقيقية التي تأتي عن طريق القداسة والإيمان وانتظار الله. وكانت الإجابة غامضة. يقينًا أنه إن استطاع أن يفعل كل هذا لأمكنه أن يفعل ما هو أكثر. إن القوة التي شفت المرضى والعُرْج والعُمي وأخرجت الشياطين، تستطيع بلا شك إنقاذ يوحنا. هذا جعل قلبه أكثر رغبة في أن يسمع مظاهر القوة هذه. كان يجب أن يتعلم بأن الرب شفى هؤلاء المساكين بمنتهى السهولة لأن طبقة التربة الخفيفة لطبيعتهم لم يكن ممكنًا أن تحتمل حصادًا أوفر، فنفوسهم لم تكن تحتمل الحرث العميق الذي لا يُستخدَم إلا في التربة العميقة. أما يوحنا فلأن نفسه كانت كريمة عميقة – إذ كان أعظم المولودين من النساء – ولأن طبيعته كانت قادرة أن تعطي أعظم الثمار في فلاحة الله، فقد تُرِك منتظرًا، فبينما نال الآخرون البركة ومضوا إلى حال سبيلهم، كان باقيًا ليوحنا ثلاثة أشهر فقط، وفيها كان يجب أن يعمل الصبر والإيمان عمله التام. قد تظن أن الله كان قاسيًا معك عندما ساعد كل شخص آخر سواك. لكنك لا تدرك أن طبيعتك كريمة جدًا في نظره، وثمينة في عينيه، ولذا فهي تستطيع أن تنمو إلى أعلى درجات النمو. لا تدرك أن الله يحبك محبة شديدة، ولذا لم يطلق سراحك بالسهولة المنتظرة، ولم يعطك ما طلبت، ولم يُخْلِ سبيلك. كان ممكنًا لله أن يهبك البصر، أن يشفي رجلك السقيمة، أن يشفي ابنك، أن يفتح أبواب سجن ظروفك، كان ممكنًا أن يفعل كل ذلك، لكنك سوف تشكره شكرًا لا حد له لعدم إتمامه شيئًا من هذا لأنك تستطيع شيئًا آخر. لقد ظللنا ننتظر السنوات الطويلة، لا لأن محبته قد نقصت، بل لأنها قد زادت، لا لأنه يرفض ما نسأل، بل لأنه يجعلنا شركاء في بركته عن طريق التدريب الطويل. كان يوحنا سيصبح شهيدًا، ويربح إكليل الشهيد، ألم يكن هذا مبررًا كافيًا في أنه لم يُعطَ في الحال الإنقاذ الذي طلبه؟! «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ». هكذا ختم الرب كلماته للتلميذين. لقد وضع الرب في متناول المعمدان بركة أولئك الذين آمنوا ولم يروا، الذين يعرفون كيف ينتظرون الرب، والذين يثقون فيما يعرفونه عن قلبه وان لم يستطيعوا أن يدركوا كل تصرفاته. هذه هي بركة مَنْ لا يعثرون في غوامض تصرفات الله في حياتهم. هذه الطوبى في متناول أيدينا نحن أيضًا، فأولاد الله يعانون أمرَّ الآلام في بعض الأحيان، فالنيران تُحمَّى لهم سبعة أضعاف. قد تعيَّن لهم أيام التعب وليالي الألم، وهم لا يتألمون على يدي الإنسان فحسب، بل ويبدو وكأن الله قد تحوَّل لهم عدوًا. عندئذٍ تكون لنا الفرصة أن ننال هذه الطوبى.

أننا إذ نرفض الخضوع ليد الله المقتدرة ونتساءل ونحتدم غضبًا ونتذمر، نُفوِّت على أنفسنا الباب الذي يقودنا إلى الغبطة الغنية، والسعادة الحقيقية. أما إن هدأنا، وسكّتنا أنفسنا كفطيم، ودهنّا رؤوسنا وغسلنا أوجهنا، أشرق النور علينا، وحفظ سلام الله الكامل قلوبنا وأفكارنا، ودخلنا إلى السعادة التي كشفها الرب أمام عيني سفيره الأمين

\

ف. ب. ماير