أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2010
خواطر فى سفر هوشع 8 - خواطر في سفر هوشع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

.خواطر في سفر هوشع (8)إلى مَعينٍ لا ينضُب عطاؤه، وإلى محفلٍ لا يفرُغ خمرُه، بل إلى بيدرٍ لا يضنُّ رجُله، لا بوفيرِ محصولِه، ولا بمكنوناتِ قلبهِ، يقودنا الروح القدس لننهلَ من كتاب اللهِ، بل ونرتضعَ من فيض بحاره.

ما زلنا في وقفةٍ تأملية بسيطة، أمام بعضٍ من آيات سفر هوشع، الذي منه فهمنا ما هو عسير، وفيه نتأمل حاليًا، فنجد العزاء الوفيرفي هذه المرة أيضًا سنختارُ آية للتأمل، ونقف على ما هو عملي ومُشجع فيها لنتعلم:

«وَرَأَى أَفْرَايِمُ مَرَضَهُ وَيَهُوذَا جُرْحَهُ، فَمَضَى أَفْرَايِمُ إِلَى أَشُّورَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكٍ عَدُوٍّوَلَكِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْفِيَكُمْ وَلاَ أَنْ يُزِيلَ مِنْكُمُ الْجُرْحَ » (هو5: 13).

كثيرًا ما كان يمرَض إسرائيل، بل ويشيخ أفرايم دون أن يدري، وكان يحتاج لمن يُنبئهُ بذلك، فأخبرهم الرب مرة: «عَلَى مَ تُضْرَبُونَ بَعْدُ؟ تَزْدَادُونَ زَيَغَانًا! كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌمِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ» (إش1: 5، 6). إنه شعبٌ سقيم قد فقد الحَس، وعِوَضَ أن يتأوَّه ويتوجع، ويذهب للطبيب المتخصص، احتاج أن يذهبَ إليه الطبيبُ ليخبَّره أنه يتوجع! وفي السفر موضوع تأملنا يقول عنهم: «أَفْرَايِمُ يَخْتَلِطُ بِـالشُّعُوبِ ... وَقَدْ رُشَّ عَلَيْهِ الشَّيْبُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ» (هو7: 8، 9)، فيا لها من أمراض عضالة، وشيخوخة خطيرة، والأكثر خطرًا: أن المريض قد فقد الإحساسأليس هذا لسان حال مَنْ ألهَبَهُم الخمر، وأسكرتهم الخطية، فكثُرَت شقاوتهم، وألمَّ بهم الكربُ، جُرِحوا وبلا سبب ازمهرَّت بل وتقرَّحت عيونُهم دون أن يدروا، فنسمعهم يقولون: ««ضَرَبُونِي وَلَمْ أَتَوَجَّعْ! لَقَدْ لَكَأُونِي وَلَمْ أَعْرِفْ! مَتَى أَسْتَيْقِظُ؟ أَعُودُ أَطْلُبُهَا بَعْدُ!» (أمثال23: 35). وأما في الآية موضوع تأملنا، لقد «رَأَى أَفْرَايِمُ مَرَضَهُ، وَيَهُوذَا جُرْحَهُ»، مع أني يا قارئي أتحسَّر على مرضِ أفرايم، وأرفعُ مرثاةً على جُرح يهوذا، وإن كان هو مُستهينًا، فقبل أن يمرَضَ أفرايم كان له وضعٌ مرموقٌ، وصَفهُ النبي في هذا السفر: «لَمَّا تَكَلَّمَ أَفْرَايِمُ بِرَعْدَةٍ، تَرَفَّعَ فِي إِسْرَائِيلَ. وَلَمَّا أَثِمَ بِبَعْلٍ مَاتَ» (هو13: 1)، أي أن أفرايم قبل أن يمرَض بأمراض الخطية الشنيعة، كان شخصًا مُهابًا، وكان حديثه بين الأسباط مصحوبًا بالرعدةوهل ننسى منظر أبي الأسباط، يوم أن مد يمينه ووضعها على رأس أفرايم، ويساره على رأسِ منسى، مع علمِه أن منسى هو الأكبر، وكان هذا العمل ملؤه الفطنة؟ (تك48: 14).

وا حسرتاه، لقد أثِمَ أفرايم بالبعل، فمرِض بل ومات أيضًا! وماذا عن يهوذا؟ أليس هوجروُ أسد؟ (تك 49: 9) وا أسفاه، لقد جُرِحَ يهوذا بجروح ولا رفادة لها.

وإذا تجولتَ معي يا قارئي العزيز عبر هذا السفر موضوع تأملنا، وعبر أسفارٍ أخرى، ستجد شيوع وتكرار هذه الخطية في حياة إسرائيل، فمن أسوأ ما اعتاده هذا الشعب، هو أن يذهب آنَ مرضِهِ، ووقت محنتهِ، يتودد لأعدائه، منتظرًا منهم الشفاء، وآملاً منهم اندمالَ جروحِهِوالأشر من ذلك، أنه كان يتمسَّك برضا أعدائه ويقف ضد الرب، خير معوانهِ، وهنا أود أن تقف وقفةً أمام تطور هذا الشر في حياة هذه الأُمة، تاريخيًا ونبويًا، ثم نقف على جانب الإخفاق هذا في حياتنا العملية، وكيفية علاجه.

فتاريخ هذه الأمة سواء ما كُتِبَ عنهم في السفر موضوع تأملنا، أو في الأسفار الأخرى، يحكي عن تكرار هذا الشر الذميم، وعدم توبتهم عن هذا الطريق رغم نتائجه الوخيمة، ففي سفر هوشع نقرأ:

«وَصَارَ أَفْرَايِمُ كَحَمَامَةٍ رَعْنَاءَ بِلاَ قَلْبٍيَدْعُونَ مِصْرَ. يَمْضُونَ إِلَى أَشُّورَعِنْدَمَا يَمْضُونَ أَبْسُطُ عَلَيْهِمْ شَبَكَتِيأُلْقِيهِمْ كَطُيُورِ السَّمَاءِأُؤَدِّبُهُمْ بِحَسَبِ خَبَرِ جَمَاعَتِهِمْ» (هو7: 11، 12).

«لاَ يُطْعِمُهُمُ الْبَيْدَرُ وَالْمِعْصَرَةُ، وَيَكْذِبُ عَلَيْهِمِ الْمِسْطَارُلاَ يَسْكُنُونَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ، بَلْ يَرْجِعُ أَفْرَايِمُ إِلَى مِصْرَ وَيَأْكُلُونَ النَّجِسَ فِي أَشُّورَ» (هو9: 2، 3).

«أَفْرَايِمُ رَاعِي الرِّيحِ، وَتَابِعُ الرِّيحِ الشَّرْقِيَّةِكُلَّ يَوْمٍ يُكَثِّرُ الْكَذِبَ وَالاِغْتِصَابَ، وَيَقْطَعُونَ مَعَ أَشُّورَ عَهْداً وَالزَّيْتُ إِلَى مِصْرَ يُجْلَبُ» (هو12: 1).

ففي الآية موضوع تأملنا، بالإضافة إلى هذه الاقتباسات الثلاثة، نستطيع أن نرى بوضوح شرَّ الأسباط العشرة، فكلما رأوا مرضهم، محنتهم واحتياجهم، لم يتفكروا في قلوبهم بالرجوع للرب، ولكن راحوا يتوددون لأعدائهم، مُستشعرين فيهم ملاذًا، أو ملجأً، ينوصون إليه هربًا من قضاء الرب وإمعانًا في إغاظتهِ.

وبعد أن مضت الأيام، وسُبيَ أفرايم (الأسباط العشرة) سنة 722 ق.م ولم يشْفهِ أشور، ولم ينفعه بل لم يرحمه آنَ السبي، ظل يهوذا أيضًا يُفرِط في الشر، فنجد الرب يوبخ السبطين في نبوة إرميا «أَمَا صَنَعْتِ هَذَا بِنَفْسِكِ، إِذْ تَرَكْتِ الرَّبَّ إِلَهَكِ حِينَمَا كَانَ مُسَيِّرَكِ فِي الطَّرِيقِ؟ وَالآنَ مَا لَكِ وَطَرِيقَ مِصْرَ لِشُرْبِ مِيَاهِ شِيحُورَ (اسم من أسماء النيل)؟ وَمَا لَكِ وَطَرِيقَ أَشُّورَ لِشُرْبِ مِيَاهِ النَّهْرِ (الفرات)؟» (إر2: 17، 18).  فعينُ ما وقع فيه الأسباط العشرة، أغاظ به السبطان الرب، أقصد التجاءهم لمصر، وتحالفهم مع أشور، وهذا ما حدث طوال تاريخهم.

ولكن من الناحية النبوية، أليس هذا الشر عينهُ، الذي ستفعله إسرائيل المرتدة في المستقبل، عندما ستتحالف مع الوحش والنبي الكذَّاب، هروبًا من هجمات ملك الشمال، توهمًا منهم المأمن بعيدًا عن المسيح؟ أليس عن أولئك يقول إشعياء بالوحي: «لِذَلِكَ اسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ يَا رِجَالَ الْهُزْءِ، وُلاَةَ هَذَا الشَّعْبِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَلأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ (الوحش)، وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ (النبي الكذَّاب). السَّوْطُ الْجَارِفُ (ملك الشمالإِذَا عَبَرَ لاَ يَأْتِينَا، لأَنَّنَا جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا» (إش28: 14، 15)؟

ولكن مهلاً يا صديقي، إن كان التاريخ لا يُثْبِّتُ إلا خزيَ الإنسان، والنبوة لا تحكي عنه إلا فسادًا متجددًا، وطباعًا غير مُرَوضة، ولكن هذا من جانب الإنسانولكن من جانب الله ذي القلب الكبير، وذي الإمكانيات غير المحدودة، ألا نجد الشفاء؟ بلى، فلقد وعد الشعب القديم مرة: «رَأَيْتُ طُرُقَهُ وَسَأَشْفِيهِ وَأَقُودُهُ، وَأَرُدُّ تَعْزِيَاتٍ لَهُ وَلِنَائِحِيهِ» (إش57: 18)، أليس إلى الرب سيرجع أفرايم، نادمًا متعلمًا الدرس، منتحبًا: «أَدَّبْتَنِي فَتَأَدَّبْتُ كَعِجْلٍ غَيْرِ مَرُوضٍ. تَوِّبْنِي فَأَتُوبَ، لأَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ إِلَهِيلأَنِّي بَعْدَ رُجُوعِي نَدِمْتُوَبَعْدَ تَعَلُّمِي صَفَقْتُ عَلَى فَخْذِي» (إر31: 18، 19). وهل عندما سيرجعون إلى الرب في المستقبل بكل قلوبهم، ألا ستتضح بنود توبتهم وسيعلنون تعلمهم هذا الدرس بالتحديد؟ الإجابة: نعم بكل يقين، فاسمعهم في ذات السفر موضوع تأملِنا يقولون: «لاَ يُخَلِّصُنَا أَشُّورُ. لاَ نَرْكَبُ عَلَى الْخَيْلِ، وَلاَ نَقُولُ أَيْضًا لِعَمَلِ أَيْدِينَا: آلِهَتَنَا. إِنَّهُ بِكَ يُرْحَمُ الْيَتِيمُ» (هو14: 3).

قارئي، بعد أن ألقينا نظرة تاريخية ونبوية، سواءٌ على أفرايم (الأسباط العشرة) أو على يهوذا (السبطين)، ورأينا كيف «مَضَى أَفْرَايِمُ إِلَى أَشُّورَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكٍ عَدُوٍّ»، وكيف انتظر المعونة والشفاءَ من أعدائهِتعالَ لنقفَ وقفة على منظرِ الإخفاقِ هذا في حياتنا العمليةفأود أن أُذكرَك بعدم نفع معونة الإنسان، ونضوب الموارد البشرية، ولا أقول لك من الأعداء، ودعنا منهم حاليًا، ولكن أقول حتى من الأصدقاء، مع كل ما يمتلكون من فلسفةٍ وحجة، بل وخبرة أيضًاألم يُجب أيوب على حديث بِلْدَد الشُّوحِيّ، مُعلنًا عدم استطاعتهِ على معونتهِ قائلاً: «كَيْفَ أَعَنْتَ مَنْ لاَ قُوَّةَ لَهُ، وَخَلَّصْتَ ذِرَاعًا لاَ عِزَّ لَهَا؟» (أي26: 2)، وكأنه أراد أن يقول لصديقه: “لقد قصدتَ معونتي، ولكن أين هي في حديثك؟ لم أجدها”.

أخي المؤمن، ألم يُحذرنا الرب من شر الاتكال على غيره؟ «وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى مِصْرَ لِلْمَعُونَةِ، وَيَسْتَنِدُونَ عَلَى الْخَيْلِ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى الْمَرْكَبَاتِ لأَنَّهَا كَثِيرَةٌ، وَعَلَى الْفُرْسَانِ لأَنَّهُمْ أَقْوِيَاءُ جِدًّا، وَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَطْلُبُونَ الرَّبَّ ... وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَهُمْ أُنَاسٌ لاَ آلِهَةٌ، وَخَيْلُهُمْ جَسَدٌ لاَ رُوحٌوَالرَّبُّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَعْثُرُ الْمُعِينُ، وَيَسْقُطُ الْمُعَانُ وَيَفْنَيَانِ كِلاَهُمَا مَعًا» (إش31: 1، 3).

أخي، ممن تنتظر المعونة؟ كثيرًا ما تخال إلينا من بعض الناس، الذين قد نكتشف بعد زمانٍ أنهم هم أنفسهم كانوا يحتاجون إلى المعونة، في ذات الوقت الذي كنا فيه ننظرُ إليهم وننتظر منهم! إلى مَنْ تُرسِلُ وقتَ مرضِك وجُرحِك؟ أَ إلى الأقوياء أم الأقرباء؟ أَ إلى الكاهن أم إلى اللاوي؟ أُذكِّرُك بشخص كُتِبَ عنه بالوحي: «وَلَكِنَّ سَامِرِيًّا مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَاعْتَنَى بِهِ» (لو10: 33، 34).

لا نَفْعَ يُرجَى سيِّدي

 

 

من عَوْنِ إنسانِ

 

خُذ بيدي يا مُنجِدِي

 

 

يا خَيرَ مِعوانِ

 

بطرس نبيل

بطرس نبيل