أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2013
أيام القضاة 2
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
القاضي الأول: عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ
إننا نجد في عثنيئيل واحدًا مِن أبهى أضواء سفر يشوع، ومعنى اسمه “أسد الله” أو “قوة الله”.  وكلا المعنيين يشير إلى وجود القوة والقدرة في هذا الرجل.  وبينما نحن نتأمل في تفاصيل حياته، التي لا نعرف عنها سوى القليل، سنجد أنه يحمل حقًّا معنى الاسم الذي يحمله.  أولاً يمكننا أن نرى كم كان شابًا مُميَّزًا، فكان سليل سبط يهوذا الملكي؛ السبط الذي أتى منه الرب يسوع المسيح.  وها هو رجل مستعد أن يحارب العدو ويدحره، مستعد لأن يحارب ليضمن لنفسه زوجة.  لقد انقاد بروح الله، واستخدمه الله ليحقق - له ولشعبه - أمورًا عظيمة.

إن هذه السمات التي أشرقت في عثنيئيل ظهرت في كمالها في «الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا» (رؤ5: 5)؛ شخص ربنا يسوع المسيح العظيم، لقد قَبِل التحدي، ويا له من تحدٍّ! إذ واجهه الشيطان، بمجرَّد خروجه للخدمة الجهارية، بالتجارب في البرية.  لكنه واجه هذا التحدي وانتصر عليه وعلى عدو شعب الله اللدود.  لقد «أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أف5: 25)؛ أحبها ليضمنها لنفسه، وليضمّها حسب رغبة قلبه ولمسرته.  وكان هو أيضًا مُنقادًا بروح الله، ليس لاحتمال حدوث أي نوع من التمرد على الله في حياته، أو لكونه محتاجًا لأن يحكمه روح الله، حاشا، لكننا نجد في الأناجيل أن كل خطوة في طريق الرب يسوع، على الأرض، كانت بقوة الروح؛ وبقوة الروح أسلم نفسه لله بلا عيب على صليب الجلجثة. 

ونحن لسنا بصدد الحديث عن الرب الآن (رغم غلاوة هذا الأمر)، لكننا نتحدث عن جزء من كلمة الله يكلمنا عن شخص قد حمل بعض الصفات التي للرب يسوع، عثنيئيل الرجل المِقدام.

يمكننا تقسيم حياة عثنيئيل إلى قسمين أولاً: التحدي الذي واجهه، وثانيًا: المهمة التي أُوكلت إليه.  لقد انحدر من السبط الملكي المُميَّز، وهذا - في حد ذاته - مقام سامٍ.  وهو لم يكن صاحب مركز رفيع فحسب، لكنه برهن بحياته أنه رجل الله بحق، أو قل إنه “ابن يهوذا” بحق.  يهوذا هو السبط الذي له المُلك كما نفهم من بركة يعقوب للأسباط في تكوين 49: 10«لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا».  هنا نجد رجلاً مُصطبِغًا بتلك الفكرة وكأنه يقول: “إني مستعد للقتال لأضمن هذه الأرض، لأنها ملكًا لنا، وأنا سأحررها”. 

عثْنِيئيلُ ومواجهة التحدي

«وَبَعْدَ ذَلِكَ نَزَلَ بَنُو يَهُوذَا لِمُحَارَبَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ الْجَبَلِ وَالْجَنُوبِ وَالسَّهْلِ.  وَسَارَ يَهُوذَا عَلَى الْكَنْعَانِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي حَبْرُونَ (وَكَانَ اسْمُ حَبْرُونَ قَبْلاً قَرْيَةَ أَرْبَعَ) وَضَرَبُوا شِيشَايَ وَأَخِيمَانَ وَتَلْمَايَ.  وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ عَلَى سُكَّانِ دَبِيرَ (وَاسْمُ دَبِيرَ قَبْلاً قَرْيَةُ سَفَرٍ).  فَقَالَ كَالِبُ: الَّذِي يَضْرِبُ قَرْيَةَ سَفَرٍ وَيَأْخُذُهَا، أُعْطِيهِ عَكْسَةَ ابْنَتِي امْرَأَةً.   فَأَخَذَهَا عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ أَخُو كَالِبَ الأَصْغَرِ مِنْهُ. فَأَعْطَاهُ عَكْسَةَ ابْنَتَهُ امْرَأَةً. وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهَا أَنَّهَا غَرَّتْهُ بِطَلَبِ حَقْلٍ مِنْ أَبِيهَا. فَنَزَلَتْ عَنِ الْحِمَارِ، فَقَالَ لَهَا كَالِبُ: مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ لَهُ: أَعْطِنِي بَرَكَةً. لأَنَّكَ أَعْطَيْتَنِي أَرْضَ الْجَنُوبِ فَأَعْطِنِي يَنَابِيعَ مَاءٍ.  فَأَعْطَاهَا كَالِبُ الْيَنَابِيعَ الْعُلْيَا وَالْيَنَابِيعَ السُّفْلَى» (قض1: 9-15).

إن الذي عرض التحدي هو كالب، وأعطى معه أيضًا وعدًا رائعًا: أن الذي يضرب قرية سفر ويأخذها يعطيه ابنته امرأة.  وها عثنيئيل قد قَبِل التحدي، وحارب المدينة التي معنى اسمها “مدينة كتاب”.  ودون أن نكون مغاليين، يمكننا التكهن بأنها رمزًا لكل الحكمة المذخرة والمعرفة التي يمكن للإنسان أن يكتسبها على مر عصور ثقافاته، وكل ما يدفعه للافتخار؛ كل ما ذخره لنفسه مقاومًا الله به (والمكتبات ذاخرة به اليوم)؛ ليس ما يعين النفس فيه، ولا ما يقودها إلى الله، بل بالعكس فكلها أمور تبعدنا عنه، لذلك يذكرنا الوحي «الْعَالَمُ ... لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ» (1كو1: 21)، و«لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ، لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ» (1كو2: 8). 

إن الجلجثة؛ موضع الجمجمة، يعلن حقًا خواء إدراك الإنسان، فهو بلا أعين ترى الله، وبلا أذن تسمع أي شيء عن الله، وبلا لسان ليتحدث عن الله، لا شيء في الذهن لله - الجمجمة  فارغة، وهى مثال لحكمة الإنسان المتراكمة.

وهذا ما رفضه عثنيئيل إذ قبل التحدي، مما يجعلنا نتصور أنه قال: “إني مشغول بأمر واحد، ألا وهو تتميم مشيئة الله بالانتصار على كل ما يفخر به الإنسان، وتأمين المدينة لله”.  بلا شك كان له نصيب وافر من البركة، لكن يمكننا أن نسمي ذلك اعتبارًا ثانويًا، أما الاعتبار الأول فهو امتلاك الأرض التي للرب ولشعبه.  عندما عبر تابوت العهد في نهر الأردن كان اسمه “تابوت عهد سيد كل الأرض” (يش3: 11)، ولأن التابوت تقدَّم وتبعته كل الأمة كان عليهم أن يمتلكوا الأرض لمسرة الله، وليسكن فيها شعبه، لكن كان لا بد مِن الحرب لتحقيق هذا، لذلك قال كالب: «الَّذِي يَضْرِبُ قَرْيَةَ سَفَرٍ وَيَأْخُذُهَا، أُعْطِيهِ عَكْسَةَ ابْنَتِي امْرَأَةً».

لم يكن عثنيئيل من سبطًا مُميَّزًا فحسب، لكن كان له عم معروف هو كالب الذي «اتَّبَعَ الرَّبَّ تَمَامًا» (عد32: 12؛ تث1: 36؛ يش14: 14)، ويا له من رجل أمين ومكرَّس!  وقد جاء عليه وقت قال فيه في سفر يشوع «فَلَمْ أَزَلِ الْيَوْمَ مُتَشَدِّدًا كَمَا فِي يَوْمَ أَرْسَلَنِي مُوسَى (لأتجسس الأرض).  كَمَا كَانَتْ قُوَّتِي حِينَئِذٍ هَكَذَا قُوَّتِي الآنَ، لِلْحَرْبِ وَلِلْخُرُوجِ وَلِلدُّخُولِ»، وكان وقتها قد تخطّى الثمانين من عمره (يش14: 10-11).  لقد عبر البرية مع بني إسرائيل لمدة أربعين سنة، لكن كان قلبه عامرًا بالإيمان بامتلاك الأرض، فكان على استعداد للمشاركة في ظروف البرية القاسية، ولقبول حكم الله لمّا خاب الآخرين منه، لأن كل ما كان يشغل قلبه هو امتلاك الأرض.

«فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ بِكَلاَمٍ عَمَّا فِي قَلْبِي.  وَأَمَّا إِخْوَتِيَ الَّذِينَ صَعِدُوا مَعِي فَأَذَابُوا قَلْبَ الشَّعْبِ.  وَأَمَّا أَنَا فَاتَّبَعْتُ تَمَاماً الرَّبَّ إِلَهِي» (يش14: 7، 8)، لكن جاء الوقت، وسنحت له الفرصة، ليدخل وليثبت أن له مِن الإيمان والقوة ما يكفى للانتصار على الأرض التي كانت بالفعل له وامتلكها.

والآن ها هو عثنيئيل ابن أخي هذا الرجل العظيم.  ويا له من أمر مبارك أن يكون كل أولاد رجال الله وذويهم تابعين مسلك الإيمان.  لكن بكل أسف هذا لا يحدث دائمًا، فمنهم مَن يتراجعوا، ومنهم من لا يهتم بالأمور الروحية، لكن هنا نجد تابعًا حقيقيًا لعمِّه، فاستعرض نفس سمات الشجاعة والعزيمة والإيمان، ليعمل ما يسِر الله وغلب الخطية.  إنه أمر عظيم فعلاً أن يكون المرء على استعداد أن يُنحّى الحكمة البشرية جانبًا، بكل كبريائها، ويقبل مشيئة الله وتوجيهاته.

كان هناك شاب مؤمن لامع وكان أيضًا نابهًا في دراسته، لكن مر عليه وقت لم يُرد الالتصاق ببعض المؤمنين المحتقَرين في جامعته.  وعندما شغل رئاسة قسم في تلك الجامعة، فكَّر في أنه لن ينال من طلابه الاحترام إذا ما التصق بهؤلاء المؤمنين القلائل الذين يجتمعون إلى اسم الرب هناك.  لقد احتقرهم ... وربما يأتي وقت يحتقره طلابه فيه.  لقد اختار حكمة هذا العالم ومنصب أرضي، ورفض الشركة مع القلائل الذين يطلبون طاعة الرب حسب الحق.  وهناك الكثيرون أيضًا مِمَن خابوا إذ انتهجوا المنهج ذاته، فحكمة هذا العالم وبريقه، والصلف الذي يمد به الناس، لهو عائق هائل للشباب أن يتغلب عليه، ومنهم مَن يُحمَل به مُفضلاً هذا المنهج على الحق الإلهي.

لكن عثنيئيل تغلَّب على هذه العقبة إذ لم يُغوَ بحكمة الإنسان المتعجرفة رغم عظمتها، وغلب فنال بركة في غاية الروعة.  ويا لها من بركة أن تفوز بامرأة فاضلة، امرأة ذات ميول روحية!  هذا ما فاز به عثنيئيل؛ امرأة حارة في طلب البركة.  لقد طلبت من عثنيئيل أن يسأل بركة من أبيها، وربما تباطأ بعض الشيء، فنزلت عن الحمار وطلبت هي البركة من أبيها قائلة «أَعْطِنِي بَرَكَةً ... أَعْطِنِي يَنَابِيعَ مَاءٍ» (عدد15).  فيا لها من امرأة رائعة تحلو عشرتها، امرأة ذات أشواق روحية متأججة، تعرف ماذا تطلب.  إنها تطلب الثمين.

لن أحاول تحميل تلك الينابيع العليا والسفلى بمعانٍٍ روحية، لكنى اكتفي بالقول إنها تمثِّل الحياة الصحيحة والإنعاش.  إن مَن زار الشرق الأوسط يعرف شيئًا عن ندرة المياه الصالحة النقية العذبة، ولشدّة ندرتها في بعض الأماكن تُعتبر نعمة مشتهاة.  فهي تعني الحياة والإنعاش، والصحة والغنى للإنسان وللبهائم وللإثمار.  وكانت واحدة من الأشياء التي وعد بها الله في تثنية 8: 7 «أَرْضٍ جَيِّدَةٍ، أَرْضِ أَنْهَارٍ مِنْ عُيُونٍ وَغِمَارٍ، تَنْبَعُ فِي البِقَاعِ وَالجِبَالِ».  لقد كانت المياه هناك كافية، لكن تلك المرأة الفاضلة طلبت هذين النبعين إذ كانت تبغي إنعاشًا للحياة، بل كانت تبغي حياة حقيقية يمكنها الاعتماد عليها.  ربما يستطيع الإنسان الآن عمل خزان للمياه، أو أي شيء آخر للاحتفاظ بالمياه، أما النبع فهو امتياز يأتي من الله، إنه شيء يعطيه الله؛ إنه شيء ينبض بالحياة والحيوية، وهو عذبٌ نقىٌ طاهرٌ.  إننا نقرأ في سفر التكوين عن الصراع الذي دار بسبب ينابيع المياه، وعندما طموها كان يجب إعادة حفرها حتى يتسنى للنبع أن يأتي بقوة الإنعاش مرة أخرى (26: 17-22).

والآن تقول تلك المرأة الفاضلة لأبيها «أَعْطِنِي يَنَابِيعَ مَاءٍ»، فأعطاها أبوها إياها على سبيل الهدية، وأما هي فكانت هديته لعثنيئيل.  هكذا أُجزلت له البركة.
وهذا هو موضوع هذه الفقرة، وهو ما يستحق الحرب.  من السهل أن نستسلم إذا واجهتنا مشكلة ما في حياتنا، ربما مسألة روحية معينة تحتاج إلى تدخل منا بالحرب مع الله، فلو لم نجد بركة أو نصرة لصار سهلاً علينا أن نقول: “ما فائدة ذلك؟  لن أهتم بهذا الأمر فيما بعد، ولن أبالى بالنصر الذي طالما شغلني من قبل، فهيا للاستسلام”. أما عثنيئيل فقال: “سوف أنتصر، إني عازم على الانتصار”.  وانتصر بالفعل.  ويا لها من مجازاة رائعة تلك التي حصل عليها! إن مجرد الاقتراب مِن الصعوبات في حياتنا الروحية للحظات ثم الهروع إلى الفرح والقول: “لقد انتصرت” لهو مقياس ضحل جدًا للحرارة الروحية، لأن الصعوبات تجهّزنا أكثر لتمثيل الله، ولإعلان الشهادة في حياتنا، حتى تحوى حياتنا شيئًا ذا قيمة، ذا طابع باقٍ.

وبعد النصرة في الحرب مضى عثنيئيل يدًا بيد مع عكسة والناس يقولون: “ها هي ثمرة شجاعة ذلك الرجل ذو القيمة، الذي حارب من أجل شيء ذي قيمة، وانظروا علام حصل!” ستبقى هناك شهادة دائمة عن شجاعته وإيمانه وقيمته الحقيقية، كما حاز على دليل النصرة، عملاً بقول الرسول بولس لتيموثاوس: «اهْتَمَّ بِهَذَا. كُنْ فِيهِ، لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ» (1تى4: 15).  فهناك برهان في حياة تيموثاوس على حياة مكرسة لله بحرب روحية جادة، وهذا لم يعُد عليه وحده بالنفع بل أيضًا على قديسي الله.  هذا هو سر الحرب المرتبطة بأمور الرب، ولا يوجد مؤمن ليس طرفًا في هذه الحرب، لأن الشيطان يهاجمنا كل يوم من أيام حياتنا، طالبًا أن يضرب شهادتنا في مقتل لو استطاع.  لكن دعونا نشكر الله من أجل الحرب الروحية، ومن أجل عزيمة النصر التي وهبها لنا.
يتبع

فرانك ولاس