أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2007
حياة الغربة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

هنالك في كل تاريخ البشرية، جماعة من البشر، متعاقبة على التوالي «أقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض» (عب 11: 13).  قد نجد قومًا من هذه الجماعة، في البراري والقفار، ساكنين في المغاير وشقوق الأرض، إما لأنهم قد طوردوا من أهل العالم، أو لأنهم قد زهدوا في حطام الدنيا.  وقد تجد أقوامًا في العالم، مختلطين بعامة الناس، ولكنهم يتميزون ببساطة ملبسهم وأحقائهم الممنطقة، وتقشفهم في المأكل والمشرب، وزهدهم في المال والثروة، وترفعهم عن كل مديح وثناء، وبعد نظرهم  - كل هذه صفات تدل على أنهم قد ألقوا رجاءهم، لا على الأمور المنظورة، بل على غير المنظورة، التي لا يراها إلا الإيمان.
هؤلاء المتغربون، هم الذين لا تؤثر فيهم التجارب، أو الضيقات، ولا تزعزعهم، لأنها لن تستطيع أن تمس كنزهم الحقيقي، أو تؤثر على مصالحهم الحقيقية.  هؤلاء هم الذين لا تستطيع أن تغريهم أمجاد العالم ومسراته، لأنهم أبناء مملكة أسمى، وأرفع، وأعضاء في هيئة أرقى وأنبل، وسكان مدينة أسمى من أية مدينة أشرقت عليها الشمس.

إن المتغرب لا يبغي شيئًا، أكثر من أن يعبر الطريق التي يسلكها، ليصل إلى وطنه سريعًا، متممًا واجباته على أتم وجه، متذكرًا دوامًا، أنه ليست له هنا مدينة باقية، بل ينتظر وطنًا أفضل.

لقد كتب السائح المسيحي عن المتغربين ثلاث علامات عن مظهرهم:
أولاً: كانت ملابسهم تختلف عن ملابس كل التجار في ذلك السوق، لهذا تطلع إليهم كل من في السوق باهتمام، فقال البعض، إنهم حمقى، وقال آخرون، إنهم مجانين، وقال غيرهم إنهم غرباء.

ثانيًا: قليلون هم الذين فهموا كلامهم، وطبيعي أنهم كانوا يتكلمون بلغة كنعان، لكن حفظة السوق كانوا من أهل هذا العالم، لهذا كان يبدو في كل السوق أنهم برابرة (يتكلمون بلغة غريبة).

ثالثًا: لكن الذي لم يُعجب به التجار قط، هو أن هؤلاء المتغربين، استخفوا جدًا بكل بضاعتهم، ولم يبالوا بها.  وإذ ناداهم التجار، وضعوا أصابعهم في آذانهم، وصرخوا قائلين «حوِّل عيني عن النظر إلى الباطل» (مز 119: 37)، وتطلعوا إلى فوق، مشيرين بذلك إلى أن تجارتهم وبضاعتهم هي من السماء.

لقد كان إبراهيم من هذا النوع . إذ نراه يرتحل نحو الجنوب، وهكذا استمر مرتحلاً في أرض الموعد، حتى وصل إلى مكان شكيم في قلب الأرض، المكان الذي استراح فيه مخلصنا فيما بعد بجوار البئر.  في هذا المكان لم تكن هنالك مدن بُنِيَت، لأن معظم الأرض كانت قاحلة جرداء، لم يكن فيه سوى بلوطة تأصّلت تحت ظلالها العبادة الوثنية فيما بعد (انظر قض 9: 27-46، 1مل 12: 25).

تحت تلك البلوطة، في سهل شكيم، حطَّ الركب رحاله، واستقر فيه أخيرًا، بعد تلك الرحلة الطويلة «وظهر الرب لأبرام، وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض.  فبنى هناك مذبحًا للرب الذي ظهر له» (تك 12: 7).

على أنه لم يستقر هناك بصفة دائمة، بل انتقل نحو الجنوب قليلاً، إلى مكان بين بيت إيل وعاي.
وهنا نرى ثلاثة أمور تسترعي اهتمامنا: الخيمة، والمذبح، والوعد:

الخيمة:
كان عمر إبراهيم وقت أن ترك حاران 75 عامًا، ولما مات كان عمره 175 عامًا.  وقد قضى كل المائة عام الأخيرة، متنقلاً هنا وهنالك في خيمة بسيطة، ربما من وبر الإبل، كخيام العرب الرُّحَل، الذين نراهم اليوم.  وقد كانت تلك الخيمة، أحسن رمز يشير إلى وجهة نظره في الحياة.

لقد عاش بمعزل عن سكان الأرض، صحيح أنه عاش بينهم، ولكنه لم يعش كواحد منهم.  فلم يتعوَّد ارتياد مجالسهم، كما اتخذ كل الحيطة، لعدم التزاوج من نسلهم، إذ نراه يبعث رسولاً لوطنه، لكي يبحث عن امرأة لابنه، ولم يقبل من الكنعانيين «لا خيطًا ولا شراك نعل» (تك 14: 23)، بل أصرّ على دفع الثمن كاملاً، عن كل ما لم يأخذ منهم.  ثم إنه لم يستقر في أي مكان بصفة دائمة، بل نراه يتنقل من مكان إلى مكان، وإذ نراه متنقلاً بخيمته، التي بسهولة يشدها، وبسهولة يطويها، نستطيع أن ندرك أن الخيمة كانت رمزًا لحياته – حياة الغربة.

المذبح:
حيثما شد إبراهيم خيمته، أقام مذبحًا.  كذلك نرى أن الآباء المتغربين، قد أقاموا مذابح العبادة، قبل إقامة بيوتهم.  وعندما كان إبراهيم يحل خيمته، كان يترك المذبح مكانه دليلاً على المكان الذي استقر فيه رجل الله.

إنه لدليل قوي على غيرتنا الروحية، لو أننا أقمنا مذبحًا في كل بيت نقضي فيه ليلة، وفي كل جماعة نعيش بينها، لنقدم للآخرين مثالاً للصلاة الانفرادية، والصلاة العائلية.  عندها يأتي الكنعانيون أنفسهم، ويحترمون المكان الذي جثونا فيه، ويدعون باسم الرب، هم وذريتهم.

لنذكر أيضًا، بأن المذبح يحمل معنى الذبيحة؛ التضحية؛ إنكار الذات؛ التسليم الكامل.  بهذا المعنى يجب أن يتمشّى المذبح والخيمة جنبًا إلى جنب.  فنحن لا نستطيع أن نعيش حياة الغربة، دون تحمُّل بعضًا من المتاعب والآلام.  ولا شك في أن حياة كهذه، لا يمكن إلا أن تنبعث من أعمق عبادة، ولا يمكن إلا أن تكون حياة الصلة الدائمة، والشركة السعيدة.

الوعد:
«لنسلك أعطي هذه الأرض» (تك 12: 7).  حالما أصبحت طاعة إبراهيم كاملة، رنّ صوت ذلك الوعد الجديد في أذنيه.  وهكذا الحال دوامًا في كل العصور.  فإنك إن عصيت أوامر الله، أصبحت طرقك مظلمة، لا تجد فيها بريق نجم واحد، ولكنك إن عشت أمينًا لله، مطيعًا لوصاياه، تتابعت المواعيد من السماء منيرة لك الطريق – كل وعد، أغنى وأخصب من سابقه.  كان وعد الله لإبراهيم قبل الآن، أن يريه تلك الأرض، أما وعده الآن، فهو أن يعطيه إياها.  إن حياة الانفصال والغربة تنال المواعيد دومًا.

أيها العزيز .. اذكر أن هذه المواعيد تضيء حياتك، الواحد تلو الآخر، كالفنار الذي يضيء في الليل، كي لا ترتطم السفينة بالصخور، حتى تنبلج أشعة الشمس المشرقة، فتصل السفينة إلى المرفأ الأمين.

ف. ب. ماير