أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2006
بمناسبة العام الجديد
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«ولكني دائمًا معك. أمسكت بيدي اليمنى. برأيك تهديني، وبعد إلى مجد تأخذني»

(مز73: 23، 24)

وردت هذه العبارة المعزِّية في مزمور 73، وهو المزمور الذي كتبه آساف بعد معاناته وحيرته التي سجلها في المزمور، بسب نجاح الأشرار ومعاناة الأبرار. وهي مشكلة مزدوجة: لماذا يعاني الأتقياء في هذه الحياة؟ ولماذا في مقابل هذا يهنأ الأشرار في الحياة ويسعدون؟

ولقد ظل آساف في حيرة وارتباك، في مرارة ومعاناة حتى دخل مقادس الله. والواقع أنه لا مكان لنتعلم الدروس الروحية الحقيقية إلا في المقادس. هناك تنحني الإرادة الذاتية، وهناك يُعرَف الله ويقدَّر، هناك لا يعود القلب يًخدع ببطل العالم وزيفه، هناك نعرف صفات الله أنه صبور؛ ولكنه بار. يمهل ولكنه لا يهمل.

قد يكون شخص أمامنا في منتهى الصحة بحسب الظاهر، لكن الطبيب بعد أن يكشف عليه بالأشعة يعلم أنه في أيامه الأخيرة. الظاهر لا يقول ذلك، ولكنها الحقيقة المستترة عن العيون.

أو قد يلمع المعدن مؤكدًا أنه ذهب، ثم يفحصه الخبير فيكتشف أنه لا يساوى شيئًا. المظهر يقول شيئًا، ولكن الحقيقة شيء آخر.

إن مظهر الناس الأشرار يُغري، لكن هذا المظهر هو في الحقيقة محض زيف. أما حقيقتهم فهي مؤسفة للغاية. فلا سلام لقلوبهم في الدنيا، لأنه «لا سلام قال الرب للأشرار» (إش 48: 22). ثم هناك تعاسة وعذاب أبدي في الآخرة. وأيام العمر تمر بهم سريعًا. ولقد سجل آساف هذه الحقيقة الخطيرة عنهم إذ قال: «كَحُلْمٍ عِنْدَ التَّيَقُّظِ، يَا رَبُّ عِنْدَ التَّيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ».

الحياة تمضي سريعًا كحلم، وماذا بعد أن يستيقظ الأشرار؟ والأبرار أيضًا تمر بهم الأيام سريعًا، وسيستيقظون، ولكن طوباهم في ذلك الصباح المجيد، فعندما يستيقظون سيشبعون بمنظر الرب (مز17: 15).

ما أرهب استيقاظ الأشرار ليفاجأوا بالحقيقة المرة! وما أسعد استيقاظ المؤمنين ليستمتعوا مع الرب بالأبدية السعيدة!

قارئي العزيز، ونحن في بداية سنة جديدة، نخبرك أن الرب في صلاحه ما زال متمهلاً عليك. كثيرون انتهت حياتهم، واستيقظوا ليواجهوا الحقيقة الرهيبة. وأما بالنسبة لك فما زال يوم النعمة ممتدًا أمامك، ولو أن أحدًا لا يعلم متى ينتهي هذا اليوم، فأين أنت من إلهك؟ هل تصالحت معه؟ تذكر أن الحياة تمر سريعًا كحلم، فماذا بعد أن تستيقظ؟ أرجو من قلبي أن يستخدم الرب هذه الكلمات البسيطة ليقودك إلى التعرف به فتسلم، وبذلك يأتيك خير (أي22: 21).

أما آساف فإنه بعد أن دخل المقادس، استعاد وعيه الروحي ووضعه مع الله، ثم خرج ليكتب لنا واحدًا من أروع المزامير، ومن ضمن ما ذكره فيه تلك البركات الرباعية المتضمنة في الآية التي في رأس المقال: وهي بركة الإقامة في دائرة الرضا الإلهي، ثم بركة حفظ النعمة، وثالثًا بركة إرشاد النعمة، وأخيرًا بركة القيادة الإلهية إلى المجد الأبدي.

ومن حق كل مؤمن حقيقي - ونحن على أعتاب سنة جديدة - أن يتغنى بهذه البركات الرباعية أيضًا. فنحن مثل آساف لنا الإقامة في النعمة ولنا حفظ النعمة وإرشاد النعمة، وأخيرًا قيادتها لنا إلى المجد الأبدي.

أولاً: بركة الرضا الإلهي:

يقول آساف: «ولكني دائمًا معك».

فرغم حماقة النبي باعترافه هو، إذ يقول للرب: «صرت كبهيم عندك» (ع22)، فإن الرب لم يطرده من أمام عينيه، ولا أنهى خدمته، ولا أشار بيده إلى الباب الذي عليه أن يخرج منه للمرة الأخيرة، كما يفعل العالم مع المخطئين. هذا ما جعل آساف يقول باندهاش وتعجب وحب: رغم كل ما حصل مني يا إلهي، ورغم أنك تعرف كل ما دار في فكري، حيث إن «تيهاني راقبت» (مز56: 8)، فإني دائمًا معك! أنت أيها الإله الصالح، لم تفكر في الاستغاء عني أو طردي!

لو أن الله عامل آساف بما يستحق، لما سمح له مطلقًا بأن يعود إلى وضعه الأول، إلى هيكل الله لكي يقود المسبحين في ترنيمهم للرب. لكن، كما حدث مع آساف هنا، حدث قبلاً مع إبراهيم وداود، وبعد ذلك حدث مع بطرس، هؤلاء كلهم اكتشفوا أمانة الرب وصلاحه عندما أخذتهم إرادتهم بعيدًا عن الرب. قال داود: «لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا» (مز103: 10). فمجدًا له من كل القلب!

أحبائي: كم سيكون ذلك اليوم مجيدًا عندما نقف أمام كرسي المسيح، وعندما نعرف كما عُرفنا. ساعتها سنرى أناة الله وترفقه بنا، حتى في تيهاننا، وسنعرف نعمته ورحمته التي لا تخطر لنا على بال، وذلك بسبب محبته التي هي إلى المنتهى. قيل عن يعقوب إن الرب «أحاط به، ولاحظه، وصانه كحدقة عينه» (تث32: 10). وهكذا يفعل الله مع كل واحد منا، لأنه مهتم بنا، وأمورنا تهمه.

ثانيًا: بركة الحفظ الإلهي:

يقول آساف: «أمسكت بيدي اليمنى»:

لقد قال آساف في أول المزمور: «كادت تزل قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي». فلماذا لم يسقط آساف؟ الإجابة لأن الرب، كأنه في اللحظة الأخيرة، أمسك بيده اليمنى. وهو ما عبَّر عنه داود حسنًا عندما قال عن الصديق: «إذا سقط لا ينطرح، لأن الرب مسند يده» (مز37: 24).

ليس الحق أن المؤمن لا يسقط مطلقًا. بالأسف هو عرضة لأن يسقط، وهو ما يؤكده اختبارنا أيضًا. ولكن حمدًا لله لأنه إذا سقط لا ينطرح، بسبب إمساك الرب بيده.

لقد كان الأتقياء من الشعب القديم يسافرون كثيرًا إلى المكان الذي اختاره الرب ليحل اسمه فيه. والأرض مليئة بالحفر، واللصوص يتربصون بالمسافرين، والمخاطر تحيط بهم من كل جانب. ومع ذلك فقد وعدهم الرب بسلامة الوصول. وهذه واحدة من ترنيماتهم أثناء تحركهم، يقول فيها الأتقياء عن إلهنا العظيم: «لا يدع رجلك تزل. لا ينعس حافظك. إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل. الرب حافظك. الرب ظل لك عن يدك اليمنى.. الرب يحفظك من كل شر. يحفظ نفسك. الرب يحفظ خروجك ودخولك من الآن وإلى الدهر» (مز121). ست مرات يؤكد الرب في هذا المزمور الصغير حفظه للمؤمن.

ويا له من فكر معز، إن الذي يمسك بيمينه السبعة الكواكب (رؤ2: 1)، هو الذي يمسك بيمينه كل واحد من قديسيه! وهذا سر أمننا. قال الرب: «لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري... لأني أنا إلهك، الممسك بيمينك، القائل لك: لا تخف، أنا أعينك» (إش41: 10، 13).

وكم يلذ لنا أن نتأمل في هذه النعمة المترفقة بنا والتي تكفي لطول الرحلة، فنحن لم نخلص فقط بالنعمة، بل إننا نُحفظ بها أيضًا. إن تعليم الخلاص بالنعمة يؤكد أننا خلصنا ليس لأننا، بل بالرغم من أننا! والأمر عينه بالنسبة لطول الرحلة. النعمة التي خلصتنا هي ذاتها التي تحفظنا حتى النهاية.

ثالثًا: بركة الإرشاد الإلهي

فيقول آساف: «برأيك تهديني».

لقد استطاع آساف - رغم فشل إيمانه - أن يقول: «أمسكت بيدي اليمنى»، ولكن الآن بلغة الشركة يقول شيئًا آخر: «برأيك تهديني». هذا ليس مجرد إمساكه لنا بيده حتى وإن كنا لا نشعر أو نعلم، بل إنه التمتع برأي الرب في جو الشركة.

والواقع كم نحتاج إلى الإرشاد والهداية، ونحن في رحلتنا نحو السماء، في طريق لم نعبره من قبل. لذلك كثيرًا ما حدثنا كتاب الله عن هداية الرب لنا. يقول كاتب المزمور: إنه «يهدينا حتى إلى الموت» (مز48: 14) وبالنسبة لنا، وفي ضوء العهد الجديد، يمكننا أن نقول إنه يهدينا حتى إلى السماء والمجد. وكما لا توجد نهاية لطريق أسمى من السماء، فإنه لا يوجد مرشد في الطريق إليها أفضل من الرب!

كيف يضل الذي له الرب مرشدًا؟ إننا في جو الشركة ينطبق علينا قول الرب: «وأذناك تسمعان كلمة خلفك قائلة: هذه هي الطريق اسلكوا فيها، حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار» (إش30: 20). وحتى لو حصل أنني تهت، فإنه «يرد نفسي يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز23: 3).

وإننا لنتساءل: مع كثرة ما يتمع به الخطاة المتكبرون من شهوات ولذات مختلفة، فما هي قيمة هذه كلها إزاء وقت الشركة السعيدة مع الرب. إن لحظات الشركة مع الرب لا تساويها كل تنعمات الدنيا. إن خزائن مصر، والتمتع الوقتي بالخطية في قصورها، تقصر تمامًا عن أن تعادل لحظة فيها نميل لننظر المنظر العظيم، فإذا بالرب ينادينا «اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة» (خر3: 3-5).

رابعًا: بركة المجد الإلهي

فيقول آساف: «وبعد إلى مجد تأخذني».

إن النعمة التي تغنى بها آساف لا تقف عند حد حفظ الرب لنا، أو عدم رفضه لنا رغم ضلالنا، بل إنها تقودنا إلى المجد، فيقول آساف: «برأيك تهديني، وبعد إلى مجد تأخذني». إنها معنا حتى نبلغ المجد!

«وبعد». ما أعظمها كلمة! فبعد الصراع والمعارك، بعد الشكوك والمخاوف، بعد الانتصارات والهزائم، بعد الغيوم والمطر، بعد التعب والمعاناة في الطريق، بعد الاغتراب والحيرة، بعد الآلام والضنك . بعد ذلك كله، فإنك تأخذني إلى المجد!

وكم يلذ لنا مقطع الترنيمة الذي يقول: يا ترى ماذا يكون بعد هذا في السما؟ أ تعرف ما الذي سيكون هناك في السماء؟ يقول المرنم: «أمامك شبع سرور في يمينك نعم إلى الأبد» (مز16: 11).

حقًا إن التقوى لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة. فالرب معنا في طريق الغربة الآن، يهدي طريقنا، وبعد ذلك هناك مستقبل بهيج ومبارك. «أسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام» (مز23: 6).

ما أجمل الأفكار التي في هذه الآية 24. إنها تحدثنا عن اكتفاء المؤمن بالرب في هذا العالم وفي الآتي! كما أنها تذكرنا بأخنوخ، الذي سار مع الله، ثم انتقل ليكون معه. أخذه إليه!

وعليه فيمكن القول إن حياة المؤمن تبدأ بانتقال وتختم بانتقال. فالمؤمن يبدأ المسيرة بالانتقال من دائرة الظلمة إلى دائرة النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله وملكوت ابن محبته، ومن العبودية إلى حرية النعمة، ولكنها أيضًا تختم بانتقال مجيد، من هذا العالم إلى محضر الرب يسوع في السماء، حيث تبدأ الترنيمة الأبدية التي لن يعقبها أنين ولا آلام!

إن حياة المؤمن تبدأ بانتقال وتختم بانتقال. فالمؤمن يبدأ المسيرة بالانتقال من العبودية إلى حرية النعمة، ولكنها أيضًا تختم بانتقال مجيد، من هذا العالم إلى محضر الرب يسوع في السماء

ولاحظ أن إعلان العهد الجديد أوضح وأقوى من ذلك الذي كان لدى آساف في العهد القديم، فليس فقط أن الرب يأخذنا إلى المجد، يل يقول الرسول: «إله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع» (1بط5: 10). فالرب لم يدعنا فقط إلى مجد، بل إلى «مجده الأبدي»، مجد الله ذاته!

رائعة هذه الرباعية:

«دائمًا معك»: يا للكرامة!

«أمسكت بيدي اليمنى»: يا للأمان!

«برأيك تهديني»: يا للامتياز!

«وبعد إلى مجد تأخذني»: يا للسعادة!

أخي الحبيب شريك السياحة الآن، والمجد عن قريب. ما أعظم كنوز النعمة التي تناسب احتياجاتنا في هذا العالم، وما أعظم كنوز المجد التي تناسب أفراحنا في العالم الآتي!

يوسف رياض