أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2018
نَادَابُ وَأَبِيهُو
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَأَخَذَ ابْنَا هَارُونَ: نَادَابُ وَأَبِيهُو، كُلٌّ مِنْهُمَا مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلاَ فِيهِمَا نَارًا وَوَضَعَا عَلَيْهَا بَخُورًا، وَقَرَّبَا أَمَامَ الرَّبِّ نَارًا غَرِيبَةً لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِهَا. فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتْهُمَا، فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبِّ. فَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: هَذَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ قَائِلاً: فِي الْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّسُ، وَأَمَامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ أَتَمَجَّدُ. فَصَمَتَ هَارُونُ» (لا١٠: ١-٣).

سجل الفشل المُخجِل لنَادَاب وَأَبِيهُو، والدينونة السريعة التي حاقت بهما، كما هو مُدوَّن في لاويين ١٠، إنما هي مكتوبة لإنذارنا. وفي الواقع إن الدروس المُستفادة لنا فيها، سهلة وواضحة، بقدر ما هي خطيرة ومهمة. وفي الحال سعى موسى لأن يؤثر على هارون، مُعلنًا هذا الإعلان الخطير والمتميز، والمُعبَّر عنه في الكلمات: «فِي الْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّسُ، وَأَمَامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ أَتَمَجَّدُ». إن قداسة الله ومجده ينبغي أن يتجليا أمام الكل.

إن مكانة هارون وبنيه المتميّزة المُقرَّبة من الرب، إنما هي هبة إلهية، حيث أن امتياز وشرف الكهنوت إنما وُهِبَ لهم مِن قِبَل الرب. وفي لاويين ٩ نقرأ عن بداية ممارسة هؤلاء لخدمتهم الكهنوتية، والتمتع بهذه المكانة الجديدة المُقدَّسة؛ كرامة الاقتراب إلى الله، وتقديم قرابين وذبائح له، وإيقاد بخورًا عطرًا في أنفه. وكل شيء قد ترتب وتعيَّن من قِبَل الله. وهذا فقط هو اللائق بالله. وهؤلاء فقط هم الذين عيَّنهم للاقتراب إليه، وقد أعلن ذلك بوضوح تام. ولم يترك الله مكانًا ولا مجالاً لأفكار الإنسان أو رؤاه أو أحكامه. كل شيء كان من الله، ووفقًا لطابع وترتيب هذا التدبير الموسوي.

وهكذا كان الله يضع – في مثال – الحق العظيم الرائع: إن غرض قلبه هو أن يُقرِّب إليه الإنسان، ليكون في معيته ورفقته، مقبولاً منه. ولكنه كان – في ذات الوقت – يُعلن بوضوح أن ثمة طريق إلهي واحد وحيد، وترتيب إلهي أوحد، لإدراك هذا القرب. فبخصوص أشخاصهم، كان ينبغي أولاً أن يخضعوا – بصورة رمزية – لعمل التجديد والتطهير بواسطة كلمة الله وروحه. أما بخصوص مقامهم ومكانتهم، فكانا ينبغي أن يؤسسا على أرضية الدم المسفوك، وكل قيمة وغلاوة وحلاوة القرابين المُقدَّمة لله.

وهكذا نرى أنه لا شيء مُقدَّم من جانب الإنسان، يصلح أمام الله. كل ما يُدمغ بطابع الإنسان الطبيعي، ومزاياه وكل ماله، يجب أن يُستبعد من محضر الله. والله لا يكف عن إعلان هذا الحق الجوهري: إن الإنسان في الجسد ليس له أبدًا مكان أو موقف أمام الله. بل، وأكثر من ذلك، ليس ثمة قبول لشيء من الإنسان الطبيعي، أو بحسب الطبيعة أو الجسد، إذا قُدِّمَ لله، أو قُرِّبَ إلى محضره، حتى ولو كان ذلك بواسطة الأشخاص الذين اصطفاهم الله ودعاهم وأهَّلهم للاقتراب إليه. والفشل في هذا الأمر يحصل مرارًا وتكرارًا، كما هي الحالة التي نحن بصددها، فنَادَاب وَأَبِيهُو تجسيد لهذا الفشل.

لقد اقتحم نَادَابُ وَأَبِيهُو محضر الله، وقدما بخورًا أمامه (وهو رمز ومثال لرائحة المسيح الذكية في أنف الله)، بواسطة نار غريبة؛ أي لم تكن مأخوذة من على المذبح (انظر إش٦: ٦)، مُخالفين أوامر الله. ونحن إذا أردنا أن نقترب إلى الله في قبول وغلاوة المسيح، فذلك لأنه قاسى وتألم من جراء دينونة الله على الصليب، الذي يُشير إليه المذبح. وكل شركة حقيقية مع الله، وكل تمتع به، وسجود له، وقبول إلى محضرة، لا يمكن أن يتم إلا على هذا الأساس، وما دامت نفوسنا في ملء الإدراك لهذا الحق.

ولقد كانت النار تنزل من السماء وتأكل الذبيحة الموضوعة على المذبح، تعبيرًا رمزيًا لقبول عمل المسيح، القبول التام، حيث قابلت الذبيحة قداسة الله، ودينونته ضد الخطية، مُمجّدة إياه من جهتها. وكل اقتراب إلى الله، وكل سجود له، ينبغي أن يكون في ملء الإدراك لهذا الحق. وتطبيق هذا الحق علينا – نحن مؤمني العهد الجديد – مُعبَّر عنه في فيلبي ٣: ٣ بالقول: «لأَنَّنَا نَحْنُ الْخِتَانَ (الحقيقي)، الَّذِينَ نَعْبُدُ اللهَ بِالرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ (نفرح) فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى الْجَسَدِ». فتسبيحنا وسجودنا لله لا ينبغي أبدًا أن يُبنى على إثارة طبيعية حسية، أو على حساسية أو عواطف معتقد ديني، أو حتى بفضل خدمة نضطلع بها، بل على أساس كوننا «الْخِتَانَ (الحقيقي)»؛ أي المُدركين لعدم نفع الجسد لله ولأموره؛ عدم كفاية كل ما نحن عليه بالطبيعة، والذي قد دين بالفعل. فكل ما نحن عليه في الجسد قد وُضِع على الصليب حيث موت المسيح. بيد أننا في الوقت ذاته «مَمْلُوؤُونَ فِيهِ (كاملون فيه)» (كو٢: ١٠).

كل هذا موضوع أمامنا باختصار – في مثال – في حالة ابني هارون، كما أشرنا. وا أسفاه، لقد لبدت الغيوم هذا اليوم الساطع في تاريخ إسرائيل، لسبب اندفاع وحماقة نَادَاب وَأَبِيهُو اللذين خالفا ترتيب الله للاقتراب إليه حسب مقتضيات قداسته وبره، وتجاهلا المذبح الذي هو الأساس لكل بركة وأهلية للوجود في محضره. وقد يبدو الأمر هينًا في حكم الإنسان، ولكن الرب وصفه باعتباره جادًا وخطيرًا، وإهمالاً جسيمًا لمقتضيات مجده اللائق به.

وتطبيق ذلك عمليًا علينا هو صوت تحذير وإنذار ضد نسيان أو تجاهل لحكم الموت الذي صدر بحق كل ما نحن عليه بالطبيعة، وكما هو موضح في آلام وموت الرب يسوع على الصليب. وحقيقي إنه صار «ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الأَقْدَاسِ» - ولكن فقط - «بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ» (عب١٠: ٢٠). وفقط «بِهِ (بالمسيح)» يحثنا الروح القدس «فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ لِلَّهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ» (عب١٣: ١٥). ثم مُجددًا «الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ» - وذلك فقط - «بِدَمِ الْمَسِيحِ» (أف٢: ١٣).

وحسن أن نعرف ونُقدِّر امتيازاتنا، ومكان القرب الذي صرنا فيه، ولكن أيضًا من الأهمية القصوى ألا ننسى الطريقة التي بها امتلكنا هذه البركات، والرد الواجب علينا تجاه «اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ»، عندما «جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (٢كو٥: ١٨، ٢١). ومن ثم فعند اقترابنا إليه لا يمكن أن نصطحب معنا شيئًا من الطبيعة أو الجسد أو التدين، أو ما أشبه ذلك.

لقد دفع نَادَابُ وَأَبِيهُو ثمنًا باهظًا لاندفاعهما. ورغم أننا نعيش في يوم النعمة، إلا أن الله ليس أقل غيرة على مجده، أو أكثر تساهلاً مع حقه اللائق به. حاشا له! ما يدخل القدس، ينبغي أن يكون لائقًا للأقداس. وكثيرًا ما نفتقر إلى التمييز لما هو لائق للأقداس في ظل تأثير الطبيعة أو الجسد، ومن ثم فعوضًا عن أن نُقدِّم رائحة المسيح الذكية إلى الله، تُعوّقنا عمليًا حالتنا الأدبية البعيدة عنه، وعليه نعجز عن تقديم رائحة المسيح التي مات لنشر أريجها. وفي الواقع حسنًا نفعل أن نذكر لأجل مَن مات المسيح، وعن مَن مات، تبارك اسمه. وهذه هي التي لا يمكن السماح بمثولها في محضر الله.

ودعونا الآن نتناول مركز المؤمنين باعتبارهم كهنة «كَهَنُوتاً مُقَدَّسًا، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ» (١بط٢: ٥). لدينا ما نعمله مع الأمور والعلاقات الحياتية هنا. ولكن باعتبارنا كهنة وساجدين، ينبغي ألا نُقدِّم ما يُسرّ الناس، أو ما هو مِن ثمر ناتج عن حديقة الطبيعة. إن النار التي قربها ابني هارون لا تجد ما يشوبها خارج خيمة الاجتماع، ولكنها لا تُقبَل بديلاً عن البخور العطر الذي يفوح شذاه، في محضر الله. ففي محضره لا ينبغي وجود إلا ما يوافقه؛ وهذا ما هو للمسيح، لا نحن.

هارون وابناه الباقيان، اندهشوا واُخذُوا بموت نَادَابُ وَأَبِيهُو، وحُذروا من عدم تجنب ما ينال من تمييزهم لما يليق بالله. وهم أيضًا فشلوا، ولكن فشلهم يُرَجَّح سببه إلى الضعف الإنساني. فقد بررا عدم أكلهما من ذبيحة الخطية إلى القصور وعدم الأهلية. لم يرتقيا عمليًا إلى مقامهما الجديد السامي الذي أصبح لهما. ولكن حالتهما كانت تختلف عن تلك التي كانت لنَادَاب وَأَبِيهُو، فالأخيران لم يكن ثمة عذر لهما، إذ ظهر فيهما اقتحام الجسد بكل ما ينتجه ذلك من حزن، فلقيا حتفهما المُستحَق «فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبِّ». فالله إذن ميَّز بين حالتيهما، وبين حالة هارون وابنيه الآخرين. فهو احتمل أولئك، ولكنه كان يطلب خيرهما ليتحذروا مما حدث، ومُعلّمًا إياهم ليتدربوا على التمييز بين ما يليق وما لا يليق بمحضره. بل وأكثر من ذلك، فقد كتب هذه الأمور في كتابه، لتعليمنا وإنذارنا. فهو يُريدنا أن نتدرب على إتيان ما يليق به، وفعل ما يمجده. لقد دعانا دعوة مقدسة، ووهبنا قربًا عجيبًا منه، وامتيازًا رائعًا للدخول إليه. وهو يُريد لنا أن نتمتع بهذه البركات، وهذا لن يتأتى عمليًا إلا برفض كل ما مات المسيح ليُخلّصني منه، وبتقدير نفوسنا للمسيح، وكل ما له، وكل ما عمله لمجد الله. وقد أُعطينا الروح القدس باعتباره القوة القادرة على تحقيق ذلك. وسجودنا هو بواسطة ”روح الله“ (في٣: ٣)، وذبائحنا هي «ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ» (١بط٢: ٥)، وصلواتنا ينبغي أن تكون «فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ» (يه٢٠). ومن شأن ذلك ألا يُفسح مجالاً للإثارة الطبيعية، أو الحكمة البشرية، أو صورة التقوى، في اقترابنا إلى الله، سواء كجماعة أو كأفراد.

نحن نَمْثُل في محضر الله فقط بفضل موت المسيح وسفك دمه، مقبولون فيه، وبقدر ما تكون نفوسنا على بينة من ذلك، بعمل الروح القدس، بقدر ما نتحذر – في اقترابنا إلى الله - مِن كل ما هو مِن الإنسان، ونطرحه جانبًا، عالمين أننا كاملون في المسيح، مقبولون فيه. وبالإيجاز أننا راسخون على أرضية خليقة جديدة، حيث الكل من الله، وحيث المسيح الكل وفي الكل.

س. م. آنجلين