أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد فبراير السنة 2006
الانطلاق
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك» (لو 29:2 و30)

نطق بهذه العبارة سمعان البار بعد أن عاش سنوات كثيرة كان يتصف فيها بأنه رجل بار تقي، هذا الجزء الذي ورد فيه مشهد انطلاق هذا الرجل التقي من الأجزاء القليلة في كلمة الله التي تُصوّر لنا مشاعر الأتقياء لحظة تركهم لهذا العالم. وما يلفت نظرنا هنا هو اللفظ الذي أُطلِقَ على الموت:”الآن يا سيد تطلق“، أي إنه انطلاق، وهو نفس التعبير الذي استخدمه بولس ليصور لنا به أشواقه للرحيل «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح» (في1: 23)، وتأتي كلمة ”تطلق“ بسبعة معانٍ نوردها فيما يلي لما فيها من تعزية لقلوبنا من جهة أحبائنا الذين يسمح الرب لهم بالانطلاق:

  1. المعنى الأول: خيمة في الصحراء: وجاء الأمر بأن تُقلِع أوتادها وتُنقَل، وهذا المعنى يُصوِّر لنا كم من الرياح والشمس الحارقة والأتربة التي تعرضت لها هذه الخيمة طوال سنوات وجودها في الصحراء. وهذا يشابه الآلام الكثيرة والمشقات والتجارب التي يتعرض لها كل مؤمن على الأرض. لكن جاء الأمر الإلهي بوضع حد لهذه الآلام.
  2. المعنى الثاني: سفينة على الشاطئ: وجاء الأمر بأن تبحر هذه السفينة المربوطة بالمراسي على الشاطئ. السفينة ليس مكانها الوجود على الشاطئ بل صنعت لتبحر، هكذا مهما تكن أوقات تمتعنا بالرب فنحن على شاطئ. مهما تكن أفراحنا وتعزياتنا فنحن لم نتذوق إلا القليل. حتى الأوقات التي نقضيها في الشركة مع الله تكون محدودة نظرًا لضعف الجسد وتراخيه واشتهائه ضد الروح، لكن سيأتي الوقت الذي فيه نبحر في بحر محبة الفادي المتسع الأرجاء
  3. المعنى الثالث: ثور يُرفع من على كتفيه النير: الثور في الحرث يوضع عليه النير. وكم يكون الأمر مؤلمًا وشاقًا له، لكن بعد نهاية الحرث يُرفع النير من على كتفيه. وهكذا كل إنسان على الأرض له أتعاب ومشقات موضوعة عليه، مع التزامات ومسئوليات. لكن سيأتي اليوم الذي يضع الله له حدًا لكل أتعابه ومسئولياته، وذلك عندما يتم القصد من وجوده على الأرض، حينئذ يرفع من على كتفيه النير.
  4.  المعنى الرابع: أسير يُفك أسره: أسير في أرض الأعداء يعُاني بُغضةً بلا سبب، ومُعاملة قاسية. لكن ما أسعده عندما يطلق أسره، ويرجع إلى وطنه، بعد معاناة طويلة في أرض الأعداء! وهكذا وجودنا في هذا العالم يجعلنا نعاني من بغضة أهله؛ البغضة التي وراءها يقف رئيس هذا العالم. وسبق الرب وأخبرنا عنها «إذا كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم» (يو15: 20). كم نشعر بالاغتراب في هذا العالم! والرب سبق وقال عنا «ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم» (يو17: 16). لكن سيأتي الوقت الذي نذهب فيه إلى وطننا الذي أهلنا له فادينا «وطنًا أفضل، أي سماويًا».
  5.  المعنى الخامس: سجين تنتهي مدة حبسه: هكذا نفوسنا حبيسة في هذا الجسد بتراخيه وضعفاته لكن نفوسنا تشتهى الانطلاق حيث شركة أبدية مع الرب، وأشواق نفوسنا هنا على الأرض يُعبَّر عنها بالاشتياق لذكر اسم الرب «إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس» (إش26: 8)، أما في لحظة الرقاد فستطلق نفوسنا متحررة من كسل وقيود الجسد لتتمتع بالرب بلا معوقات.
  6. المعنى السادس.. أجير ينتهي يومه: فهو كما جاء في سفر أيوب «أقصِرْ عنه ليسترح، إلى أن يُسر كالأجير بانتهاء يومه» (أي14: 6). فكم يكون صبر الأجير في احتمال تعب العمل، وهو يعرف جيدًا أن حتمًا هناك نهاية لكل تعبه، وسيستريح من تعبه، بل وتنتظره أجرة لما عمله! إن كان عِلمُه بهذا يملأه بالصبر، فكم وكم يكون الفرح عند تحقق هذا، وينتهي اليوم، وينال أجرة لكل تعبه! هكذا لنا أيضًا، فكلمة مدح أمام كرسي المسيح كافية لتُنسي المؤمن كل تعب في الرب، بل ولحظة الانطلاق هي لحظة انتهاء كل تعب وجهاد، لتبدأ الراحة الحقيقية والفرح الحقيقي.
  7. المعنى السابع.. عصفور يُطلق من القفص: العصفور من الكائنات التي تنمو وتزدهر في البيئات المفتوحة. حتى مكان راحته عبارة عن عش. فهو لا يعيش في أكواخ أو أماكن مغلقة، وأغلب أوقاته يحياها طائرًا منطلقًا. لكن كم من العذاب الذي يحدث لبعض الطيور عندما تُمسك وتوضع في أقفاص لسبب أو لآخر! كم تعبر اللحظات عليه كدهور لأن من طبيعته الطيران والتجوال! والبيئة الموضوع فيها ليست بيئته. وكم يكون حجم السرور والراحة عندما يطلق من حبسه! وبتطبيق هذا على الانطلاق إذ المؤمن يعيش في عالم موضوع في الشرير. ومهما يكن وضعه في العالم، فهو يعيش في بيئة تغاير الطبيعة الجديدة التي تريد أن تعيش وتتنفس في أجواء سماوية، فهو يناظر الطيور هنا في أنه يراقب مرور الأوقات، وينتظر الرحيل «فقلت ليت لي جناحًا كالحمامة فأطير وأستريح!» (مز55: 6).

 إن كانت هذه معاني للرقاد أو الانطلاق، فما أشهى الانطلاق نفسه! وما أسعد المؤمن في لحظة رقاده! ليت هذه الكلمات تكون سبب تعزية لنا!