أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2014
تابع فترة الضيقة العظيمة - قراءة من بين السطور
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

سفر يحكي قصة الشعب في الماضي والمستقبل

الحقبة الزمنية الرابعة (تابع):

فترة الضيقة العظيمة (ص5: 2 - 6: 12)

ملخص لما نشر

ينقسم سفر النشيد إلى ستة أقسام، تُصَوِّر لنا معاملات الله مع هذا الشعب في الماضي (الأقسام من 1 إلى 3)، وفي المستقبل (الأقسام من 4 إلى 6). والقسم الرابع (5: 2 إلى 6: 12) يبدأ بالضيقة العظيمة التي ستأتي على هذه الأمة (بعد اختطاف الكنيسة)، نظرًا لأنها لم ترحب بعريسها عندما تحمل مشقة الوصول إليها، وتركته خارج الباب دون أن تفتح له. لكن هذه الضيقة سيكون لها أروع الأثر على البقية، إذ إن ”غمارة المياه الكثيرة ستُخْرِج “النفس الحية” (مز32: 6؛ تك1: 20)، فنجد العروس هنا تُعَبِّر عن مقدار أشواقها للعريس وتقديرها له، كما لم يحدث مثله في كل السفر. ونجدها هنا “مريضة” في حب عريسها (5: 8). من ثم تصفه بأروع الأوصاف (5: 10-16).

في هذا الجزء النفيس من سفر النشيد نلاحظ نمو المعرفة عن العريس من جانب المحبوبة. فمع أنها قدرت حبيبها، وأبدعت في وصفه ومدحه، إلا أنها لم تكن تعرف أين هو، فقالت لبنات أورشليم: «إن وجدتن حبيبي ... تخبرنه بأني مريضة حبًا» (5: 8). لكنها سرعان ما عرفت، ولما سُئلت عن مكانه أجابت بالقول: «حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات، ويجمع السوسن» (6: 1، 2). وهذا التدرج في المعرفة يذكرنا بما سيحدث مع البقية التقية، حيث نقرأ كلماتهم في نبوة هوشع: «لنعرف فلنتتبع، لنعرف الرب» (هو6: 3). وهو عين ما حدث سابقًا مع راعوث الموآبية (انظر سفر راعوث) التي نمت بالتدريج في معرفة بوعز. وهكذا ستحصل البقية بالتدريج على معرفة مسياها وعريسها.

وعندما تقول العروس عن حبيبها إنه “نزل .. ليجمع السوسن ”، فإن هذا يتجاوب مع قول الرب في عظته عن انقضاء الدهر أنه سوف “يُرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السماوات إلى أقصائها” (مت24: 31). نعم، سيجمع العريس السوسن الرقيق، وُدعاء الأرض الذين سوف يتشتتون بسبب الضيقة العظيمة، وعندها سيتم القول: «اجمعوا إليَّ أتقيائي، القاطعين عهدي على ذبيحة» (مز50: 5).

ثم يصف العريس محبوبته (6: 4-7). وعن وصفه الوارد هنا لنا أربع ملاحظات:

1- أنه في وصفه لها هذه المرة لا يشير إلى النقاب فوق العينين، كما فعل في المرة السابقة (4: 1). وذلك لأن في مجيء المسيح الثاني سيتم كلام إشعياء النبي: «يفنى في هذا الجبل وجه النقاب» (إش25: 7)، إذ إنه «عندما يرجع (إسرائيل) إلى الرب، (سوف) يُرفع البرقع»، ذلك البرقع “الموضوع الآن على قلبهم” (2كو3: 15، 16). وعندها فإن “كلهم سيعرفون (الرب) من صغيرهم إلى كبيرهم” (إر31: 34).

2- ستصوب عيون العروس نحو الرب. إذ يقول العريس للمحبوبة: «حولي عني عينيك، فإنهما قد غلبتاني» (6: 5). في يوم ارتدادهم يذكر إرميا في مراثيه تلك العبارة المليئة بالشجن: «كلت أعيننا من النظر إلى عوننا الباطل» (مرا 4: 17). أما الآن فإنهم سيرفعون عيونهم، لا إلى العون الباطل، ولا إلى الجبال (إر4: 24؛ 3: 12)، بل إلى الرب صانع السماوات والأرض (مز121: 1، 2). سيقولون له: «ليتك تشق السماوات وتنزل»، ثم يستطردون قائلين: «لم تر عين إلهًا غيرك يصنع لمن ينتظره» (إش64: 1، 4). وهكذا ستكون عيونهم عيونًا غالبة.

3- يصف العريس عيون محبوبته بأنها “عيون غالبة”. وقد نرى في العيون الغالبة عيونًا ممتلئة بالدموع، تذكرنا بعيني يعقوب الباكيتين، فذاك الذي عاش تاريخًا طويلاً متعقبًا ومحتالاً، فإنه في نهاية ليل فشله، ظهر له إنسان، أراد أن يخلصه من مكره ودهائه. نقرأ «وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر» (تك32: 24). وعند الفجر خلع ذلك المصارع حق فخذ يعقوب، ثم هم بأن ينصرف، وعندها فهم يعقوب حقيقة ذلك الشخص، ومن هو، فتوسل إليه ألا يتركه دون أن يباركه، ويخبرنا هوشع النبي بأن يعقوب بهذا الأسلوب غلب، عندما “بكى واسترحمه” (هو12: 3، 4). وهو صورة لما سيحدث مع البقية في المستقبل، فعندنا تشعر بأنها لا تستحق أي شيء، وبعيون دامعة ترجو مراحم الرب، ولا شيء سوى المراحم، فإنهم بهذا الأسلوب فقط، الأسلوب الذي لا يمكن للرب أن يحتقره، سيغلبون (مز51: 17؛ إش66: 2).

4- سبق العريس ووصف أسنان محبوبته بأنها “كقطيع الجزائز” (4: 2)، أما الآن فيصفها بأنها “كقطيع نعاج” (6: 6). وهذا معناه أن العروس تعمقت أكثر في تعلم درس الوداعة نتيجة الذل الذي اختبرته في الأصحاح السابق، فلا نقرأ هنا فقط عن “الجزائز” بل عن “النعاج”. ولعلنا نذكر أن ذلك المجيد في يوم اتضاعه كان «كنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه» (إش53: 7).

* * * *

بعد ذلك تأتي كلمات الاستحسان والمديح للمحبوبة من الملك، ومن البنات والملكات والسراري (ع8، 9). وهذا يأخذ فكرنا إلى ما سيتم في الملك الألفي عندما يدعو الملك أورشليم “حفصيبة”، أي مسرتي فيها (إش62: 4)، وعندما كل الأمم يطوِّبون ذلك الشعب (ملا3: 12).

ثم نستمع إلى من يتساءل: «من هي المشرفة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية؟» (ع10). وهذه الأوصاف تعطينا صورة للأمة من وجهة النظر الإلهية في أمجادها العتيدة. فإن الصباح منعش، والقمر جميل، والشمس جبارة، وأما الجيش فنرى فيه صورة للولاء والخضوع للقائد. نعم لا بد أن يأتي اليوم الذي فيه يرى العالم هذه الأمة في أمجادها وهي تُحضِر معها الصباح الصافي الذي بلا غيوم (2صم23: 4). عندما رفضت هذه الأمة مسيَّاها دخل العالم بأسره في ظلمة روحية دامسة، ولو أن هذا فتح الباب لدخول الأمم إلى دائرة الامتيازات السماوية الأسمى. لكن في المستقبل عندما تقبله الأمة، سيكون هذا إيذانًا بعصر الأرض الزاهي والسعيد تحت مُلك المسيح.

وتشبيههم بالقمر والشمس ليس هو المرة الأولى هنا، ولا هو المرة الأخيرة. وهو يشغل مساحة هامة في إعلانات الكتاب المقدس، فهو يرد في أول أسفار الكتاب المقدس في حلم يوسف (تك37: 9، 10)، كما يرد أيضًا في آخر أسفاره في رؤيا 12: 1-3. وفي ترنيمة دبورة يُوصف الغالبون، أحباء الرب، “كخروج الشمس في جبروتها” (قض5: 31). هكذا ستكون الأمة الغالية على قلبه يوم اقتبالهم، عندما يعترفون بخطيتهم، ويقولون بصدق: «مبارك الآتي باسم الرب» (مت23: 39).

وعندما يصف العريس محبوبته قائلاً: “مرهبة كجيش بألوية” فهذا يذكرنا بما قاله النبي زكريا: «في ذلك اليوم يستر الرب سكان أورشليم، فيكون العاثر منهم في ذلك اليوم مثل داود، وبيت داود مثل الله، مثل ملاك الرب أمامهم» (زك12: 8).

ثم يقول الحبيب بعد ذلك: «نزلت إلى جنة الجوز، لأنظر إلى خضر الوادي، ولأنظر هل أقعل الكرم، هل نوَّر الرمان؟ فلم أشعر إلا وقد جعلتني نفسي بين مركبات قوم شريف» (6: 11، 12).

ذكرنا أن العروس سيكون لها العين الغالبة، وأنها ستصرخ قائلة: «ليتك تشق السماوات وتنزل». ولقد غلبت في جهادها، وها الرب هنا يقول: “نَزَلتُ”. إنه لا يقول “سوف أنزل”، ولا حتى “سأنزل”، بل «نزلت». حقًا، ستتم كلمات النبي: «قبل ما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع» (إش65: 24).

وهي ليست أول مرة ينزل فيها الرب. لكنها المرة الأولى التي فيها ينزل ويفرح. في المرات السابقة كان النزول مرتبطًا بالحزن والأسف، فلقد نزل أيام بناء برج بابل لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وبلبل هناك ألسنة البشر، وفرَّق الأمم (تك11: 5-9)؛ ونزل أيضًا في أيام سدوم وعمورة، لكي يرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إليه، من ثم فقد أحرق مدن الدائرة (تك18: 20، 21؛ 19: 24-29). ثم في مجيئه الأول بالجسد نزل إلى الأرض، وانكسر قلبه عندما رفضته الأمة ولم تعرف ما هو لسلامها، من ثم فقد صلبته وفضلت عليه رجلاً قاتلاً. لكنه سينزل هذه المرة “لينظر”، وهو ينظر لأنه ينتظر. نعم، سينزل لينظر “إلى خُضَر الوادي”. فهو ينتظر من شعبه الثمر الذي يليق بالتوبة، الذي يُمَيِّز المتضعين “الوادي”. وهذا يذكرنا بمعاملات يوسف مع إخوته، فكان يُجيزهم في ضيق، لكن عينه كانت عليهم، ينتظر أول بادرة توبة حقيقية تصدر منهم. وما أن تحقق من توبتهم فقد أعلن نفسه لهم، وانتهت معاملات الذل والضيق!

يقول الحبيب: «نزلت إلى جنة الجوز لأنظر إلى خضر الوادي» (6: 11). وعندما نقرأ هنا عن جنة ووادي، فهذا يأخذ فكرنا إلى “وادي قدرون”، وإلى “بستان جثسيماني”. وأما “جنة الجوز” التي يقول الحبيب هنا إنه نزل إليها، فهي حرفيًا تقع في الناحية المقابلة لبستان جثسيماني في جبل الزيتون. وإن كان بستان جثسيماني هو بستان الأحزان، فإن جنة الجوز، وهي تلك المقابلة لبستان الأحزان، تحدثنا يقينًا عن الجانب الآخر، الجانب المقابل لآلامه وحزن قلبه، أي أنها تحدثنا عن أمجاد المسيح وفرح قلبه. فالمسيح في مجيئه الأول رُفض، وعُصر (وهو ما يحدثنا عنه بستان جثسيماني، فالكلمة “جثسيماني” تعني معصرة الزيت)، لكن في الجانب المقابل لذلك سيجد في مجيئه الثاني شعبًا منتدبًا ومستعدًا للترحيب به، كما يذكر هنا.

وما أرق هذا التعبير: «لم أشعر إلا وقد جعلتني نفسي بين مركبات قوم شريف (أو شعبي المنتدب)! كيف يقول المسيح هنا: “لم أشعر”؟ هل نسي الرب كل ما لاقاه من عسف وظلم منهم في مجيئه الأول؟ وهل نسي كسر قلبه الذي جعله يجهش بالبكاء وهو ينظر المدينة، ويتذكر ما سيحدث لهم لأنهم رفضوه؟ وهل نسي فترة صبره التي استمرت ألفي عام، وهم يرفضون الإيمان به؟ إننا هنا نجد ما يذكرنا بالعبارة التي قيلت عن راحيل التي خدم لأجلها يعقوب سبع سنين، هي طويلة حقًا بحسابات البشر، لكنها «كانت في عيني (يعقوب) كأيام قليلة بسبب محبته لها» (تك29: 20). ونحن إن كنا نُعْجَب بمحبة يعقوب لراحيل، ونرى أنها ما كانت تستحق تلك المحبة الشديدة من جانبه، فإن محبة الرب لتلك الأمة، وهي أيضًا لا تستحق شيئًا، هي أعجب بما لا يقاس!

إن ذلك الشعب لم يكن مستعدًا في مجيء المسيح الأول. ورغم أن غرض خدمة المعمدان كان أن “يهيئ للرب شعبًا مستعدًا” (لو1: 17)، لكنهم في الحقيقة كانوا أبعد ما يكون عن ذلك. وعندما قالوا «مبارك الآتي باسم الرب» (مت21: 9)، فقد تبعوا هذا الاستقبال الحار، وفي الأسبوع نفسه، بأبشع صرخة سمعتها الآذان: «دمه علينا وعلى أولادنا» (مت27: 25). لكنهم سيكونون منتدبين له بكل معنى الكلمة في مجيئه الثاني، وسيرحبون به بكل قلوبهم.

وعبارة “قوم شريف” هي بحسب الأصل “عميناداب”، وتُترجم حرفيا “شعبي المنتدب”. سوف يولي زمان “لوعمي”، أي ليسوا شعبي، لكي يصبحوا، ليس فقط شعبه، بل أيضًا شعبه المنتدب (انظر مز110: 3)!

والقوم الشريف يذكرنا بمؤمني بيرية الذين كانوا أشرف من مؤمني تسالونيكي. وسبب شرفهم هو فحصهم للكتب. وهكذا البقية التقية في المستقبل ستفحص الكتب. يدعوهم دانيآل الفاهمين، ويقول عنهم إنهم سيتصفحون “الكتاب”، والمعرفة تزداد (دا12: 4). ومن قراءتهم للأسفار سيقول الواحد لأخيه: «وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء. يسوع بن يوسف الذي من الناصرة» (يو1: 45).

الخلاصة:

هذه الفترة الرابعة من تاريخ هذا الشعب تحدثنا عن صبر الرب على الأمة بعد موته وقيامته ومجيء الروح القدس كما نقرأ في الأصحاحات الأولى من سفر الأعمال. فلما أصروا على رفضه، فقد أدركهم الغضب إلى النهاية (1تس2: 16). ليس إلى ما لا نهاية، بل إلى نهاية هذا التدبير. وبالارتباط بالمنتهى ستأتي عليهم “الضيقة العظيمة” (مت24: 14، 21)، ولكن هذا سيُبرز البقية التقية من وسط تلك الأمة، العروس، التي ستحن إلى المسيَّا، وفي نهاية الضيقة سيظهر المسيح لهم، فينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون في مرارة كمن هو في مرارة على بكره (زك12: 10). وبدموعهم الغزيرة يقبلهم الرب ويعزيهم، ويعوض عن خزيهم ضعفين (إش61: 7)، وتبدأ أفراح الأمة وأمجادها كما سنرى في القسم التالي.


يوسف رياض