أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد فبراير السنة 2006
السؤال الثالث - اسئلة أيوب الثلاثة و الإجابات عليها
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«إن مات رجل أ فيحيا؟» (أيوب 14:14)

يوجه أيوب سؤاله الثالث في حديثه الرابع، الذي فيه يجيب أيضًا على كلمات ”صوفر“ القاسية. لقد اتهم هذا الرجل أيوب بالهذيان، وتحداه أن يبرئ نفسه من شره. وفي هذا تشابه موقفه مع باقي أصدقاء أيوب. وبين أن رجاء الأشرار (وهو يعتبر أيوب واحدًا منهم) ينتهي بتسليم النفس (أي20:11). بمعنى آخر أن شعار الإشرار هو «لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت» (إش 13:22). ومن المدهش حقًا أن نرى قلة التمييز (عدم الفطنة) التي أظهرها أصدقاء أيوب في ذلك الوقت. ولكن، هل نحن اليوم أفضل فطنة منهم؟ ألا نحكم كثيرًا قبل الوقت؟ أ لا يحكم أولاد الله في أحيان كثيرة حسب الظاهر، بالرغم من التحذير الشديد «لا تدينوا لكي لا تدانوا»؟ ولذلك ليس مستغربًا أن يرد عليهم أيوب بسخرية لاذعة «صحيح أنكم أنتم شعب، ومعكم تموت الحكمة» (أي1:12). فما فائدة الاستشهاد بالحقيقة البديهية بلغة مذوقة؟ هذه الأحاديث لم تأتِ بالراحة ولا بالنور للمتألم. ويسأل أيوب: «من ليس عنده مثل هذه؟» (بمعنى: من لا يعرف هذا؟) (أي 3:12). ثم يبين أنه من زمن طويل شغل نفسه بالتفكير العميق في هذه الأسئلة، وأنه يستطيع أن يتناولها من جوانبها المتعددة، وليس من جانب واحد كما فعل ”صوفر“ «لي فهم مثلكم. لست أنا دونكم» (أي3:12 ،2:13). نعم، لقد عرف أيوب المشاكل الخاصة بالكيان الإنساني الأدبي بشكل أوضح من أولئك المتحدثين زلفى، ويوجههم صراحة (وهو على حق) «أما أنتم فملفقو كذب، أطباء بطالون كلكم» (أي 4:13). ثم يلتجئ مرة أخري للقدير طالبًا أن يبرر نفسه أمامه. إنه مقتنع ببراءته، ويتمني أن يقنع الله. إنه يشتهي الراحة وهو يتساءل هل سيجدها في الموت، فالإنسان يذبل كالزهرة، ويموت كالشجرة. «ولكن من رائحة الماء تفرخ (الشجرة) وتنبت فروعًا كالغرس» (أي9:14).

 يقول أيوب: «للشجرة رجاء. إن قطعت تخلف أيضًا» (أي7:14)، ولكن ماذا يحدث للإنسان، الذي نادرًا ما يحصل على ما يستحقه على هذه الأرض؟ لأن «سُخرة هو الصدِّيق الكامل»، بينما «خيام المخربين مستريحة» (أي4:12-6). فالأشرار «بيوتهم آمنة من الخوف، وليس عليهم عصي الله» (أي9:21). وإذا كان الموت هو نهاية الجميع، إذًا فشعار الأشرار «لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت» هو أفضل شعار. ولكن إن كان الأمر كذلك، فأين عدل الله وبره؟ أ لن يغرق البشر – إذ ذاك - في أنانية يائسة بلا رجاء، وتصير يد كل إنسان على أخيه للشر؟

 ليس هناك اقتناع عميق في قلب الإنسان أن الحياة على الأرض هي الحياة الوحيدة أو الأخيرة. قد ينكر البعض الحياة بعد الموت. وقد يقضي البعض أيامهم غير مبالين بهذا السؤال؛ ولكن أغلب الناس، على مر العصور، أظهروا من خلال ممارستهم لأديانهم (مع أن معظمها خاطئ وفاسد) أنهم في الحقيقة لا يفترضون أن كل شيء ينتهي بالموت. فمن موميات المصريين القدماء وأهراماتهم، إلى عبادة الأسلاف لدى الصينيين (التي ترجع إلى آلاف السنين) بيَّن الإنسان إنه يؤمن بالقيامة، أو على الأقل في استمرار الوجود بعد الموت.

 وبالتأكيد، هذا الاعتقاد في معظم الحالات في اللاوعي أو في العقل الباطن. وهو ضبابي وغير محدد، ونادرًا ما يأخذ شكلاً واضحًا. وأساطير وخرافات الشعوب لا تقدم أساسًا راسخًا للإيمان لدى الوثنيين. وبالنسبة لقيامة الجسد ربما أيوب هو الوحيد في العهد القديم الذي يسأل هذا السؤال. والذي يجيب عليه بالروح القدس (أي19: 25-27) بهذه الكلمات العجيبة:

 «أما أنا فقد علمت أن ولييِّ حي، والآخر (وأنه في النهاية) على الأرض يقوم. وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى (أو سأرى) الله، الذي أراه ( سأراه) أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس (إلى) آخر. إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي».

وهذا قد يكون قد تحقق جزئيًا في شفاء أيوب واستعادته كل ما فقده، ولكن تحققها يكون كاملاً في ذاك الذي ”هو القيامة والحياة“. وكم هو ثمين للإيمان أن يكتشف أن أيوب بروح النبوة استطاع أن يرى كيف أن حياة (الولي) الفادي مرتبطة بالقيامة. وقد قال الرب قبل تركه للتلاميذ «لأني أنا حي، فأنتم ستحيون»، ويوضح الرسول في 1 كورنثوس 15 أنه لأن المسيح قد قام، فالراقدون في المسيح سيقومون أيضًا. وحياة الفادي تذكر دائمًا في صيغة المضارع. فهو حي إلى الأبد، والمسيح باعتباره ”الآخِر“ سيقوم على الأرض. هو آدم الأخير ”روحًا محييًا“. ولن يُفقَد أحد من كل من أعطاهم الآب له، لن يُفقَد أحد بل سيقيمه في اليوم الأخير. وكان لدى أيوب اليقين أنه هو بنفسه (وليس بروحه فقط كما يرجف الحالمون) سيرى الله. ويقول فادينا في حديثه للآب المسجل في يوحنا 17: «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني» (يو24:17).

 يا له من رجاء مبارك! ويا لها من رؤية مجيدة! لا عجب إذًا أن أيوب وهو في وسط إحساسه بآلامه المبرحة يقول: «إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي» (أي27:19). لقد كان التناقض بين مثل هذا الرجاء المجيد في المستقبل، والعذابات التي يتحملها في الحاضر عظيمًا لدرجة أنه تاق بلهفة بالغة إلى هذه البركة التي لا يُعبَّر عنها. وبالتأكيد، أنه بعد استرداد ممتلكاته وصحته وعودته إلى حالة البركة التي باركه الرب بها في النهاية، ظل هذا الرجاء يشدد قلبه. وبالتأكيد، كم من مرة أعاد التفكير والتمحيص في هذه الكلمات العجيبة ومعناها التي كشفها له روح المسيح. ولكنه كان عليه أن يطمئن نفسه بيقين أن الله يحكم كل شيء بحكمة وبر وأن كل شيء – تحت سلطان الله - سيؤول لنهاية مجيدة. وفقط في الوقت المعين أمكن أن تُكشَف مشورة الله عن القيامة كشفًا كاملاً. ولم يعد هناك عُذر الآن للحمقى الذين يثيرون أسئلة غبية عن القيامة. هناك نوع من الجهل وهو جريمة. وهو نابع من النية المُبيّتة لعدم دراسة أشياء تزعج الشعور بالأمن الكاذب لدى الإنسان. أما من يؤمن بقيامة الأموات، فعليه أن يسلك في حياته الحاضرة في ضوء الأبدية اللانهائية الآتية، ومن ينتظر ”آدم الأخير“ عليه أن يُعِد نفسه لاستقباله. ولكن من يخشى الحساب بعد الموت فإنه يتصرف مثل النعام, الذي عندما يُطارد ولا يجد مهربًا، يخفي رأسه في الرمال، ويوهم نفسه بعدم وجود الصياد. قد يتجاهل هؤلاء الحقيقة المحزنة بالنسبة لهم، ولكن دينونتهم ستكون رهيبة وعادلة.

(تم)

هـ.ل.روسييه