فيما عدا الرب يسوع، ربما يكون يوحنا المعمدان هو الشخصية الوحيدة - في العهد الجديد - التي تنبأ عن خدمته نبيَّان من أنبياء العهد القديم: الأول هو إشعياء، والآخر هو ملاخي. وكان ملاخي آخر صوت نبوي قبل فترة من الصمت من جانب الله، امتدت زهاء ٤٠٠ سنة من الصمت الإلهي وقد سبق وأشار ملاخي إلى يوحنا المعمدان، في كلماته الختامية في ملاخي ٣: ١؛ ٤: ٥، ٦. وقد اقتبس الملاك جبرائيل كلمات من الفقرة الأخيرة المُشار إليها، ليُعلِم زكريا الكاهن بشأن ولادة ابنه المُرتقبة (لو١: ١٥-١٧). وزكريا نفسه وصف هذا الابن وخدمته، مُستخدما كلمات كل من ملاخي وإشعياء (لو١: ٧٦، ٧٧؛ ملا٣: ١؛ إش٤٠: ٣).
الولادة الفريدة:
ليس فقط أن خدمة يوحنا سبق وأنبأ عنها العهد القديم، بل كان ميلاده أيضًا معجزيًا. نعم، لم يكن مولودًا من عذراء، فقد كانت أليصابات متزوجة من زكريا لسنوات عديدة، ولكن ولادته اتبعت نمط ولادات أخرى، غير معتادة وهامة: إسحاق، شمشون، صموئيل، جاءت متأخرة في زيجات بلا أطفال، بترتيب خاص من الله، لأغراض خاصة.
زار جبرائيل زكريا أثناء خدمته في الهيكل، وفاجأه بالإعلان أنه سيرزق بابن. تذبذب إيمان زكريا، وتساءل متشككًا بشأن هذا الخبر، فضُرِبَ بالخرس إلى وقت ولادة يوحنا. وعندما تحققت هذه النبوة، كانت أولى كلمات زكريا عبارة عن كلام نبوي بشأن حياة وعمل يوحنا، فضلاً عن وصول المسيا الموعود به (لو١: ٥-٢٢، ٦٧-٧٩).
بينما تتحدث الأناجيل الأربعة عن يوحنا المعمدان، تُستَهَل ثلاثة منها بذكره: خدمته كمُبشر بمجيء المسيا (مر١: ١-٨) ، وعائلته وولادته المعجزية (لو١: ٥-٢٤) ، وشهادته كصوت صارخ في البرية: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (يو١: ١٩-٣٤).
النبي المتواضع:
من نافلة القول إن يوحنا المعمدان كان مختلفًا عن بني عصره: كان يعيش في البرية، وكان «لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا» (مت٣: ١-٦). لقد كان - بعد كل شيء - نبيًا. وكان الأنبياء عادة أشخاصًا يعيشون حياة مُختلفة. وكان نمط حياتهم - بحسب ثقافة ذلك الزمان، وفي عيون معاصريهم - يتسم بغرابة الأطوار. وهذا أمر لائق بأصوات تدوي مُعلنة تحذيرًا صارمًا خطيرًا، لضمير مجتمعي متبلد روحيًا. كان يوحنا المعمدان على مثال إيليا النبي (يو١: ٢١)، لكنه لم يكن تناسخًا أو إعادة تجسيد لنبي العهد القديم هذا. قال جبرائيل لزكريا إن يوحنا كان مُزمعًا أن يأتي «بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ» (لو١: ١٧)، أي روح الله وقوته؛ ذات الروح، وذات القوة، ولكن رسول جديد.
ولقد أنكر يوحنا أنه كان إيليا (يو١: ٢١). ولقد حيَّر ذلك السامعين، حيث أن الرب يسوع دعا يوحنا مرتين: «هذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ» (مت١١: ١٤؛ ١٧: ١٠-١٣). ولكن كان هذا في تمام الموافقة مع شخصية المعمدان المتضعة، التي تأبى أن تلعب دورًا لافتًا للأنظار. كان مُدركًا للضجة التي سيُثيرها إذا ادعى أنه إيليا ، أحد أبرز وأشهر أنبياء شعب الرب. وقد لمع تواضع المعمدان في مواضع مختلفة. مثلاً في يوحنا ٣: ٢٥-٣٠، حيث رأى تلاميذه، وآخرون، أن ثمة منافسة عتيدة أن تقوم بين الرب يسوع ويوحنا، من جهة أن كليهما كان يُعمد تلاميذ. رفض يوحنا فكرة المقارنة أو المنافسة قائلاً قولته المشهورة: «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ (الرب يسوع) يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يو ٣، ٢٢، ٣٠).
ولكن يوحنا قبِل بملء السرور أن يضطلع بالدور الذي رسمته له نبوة إشعياء، مُستخدمًا كلمات إشعياء، فأجاب المُرسَلين إليه من قِبَل قادة اليهود: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ» (يو١: ٢٣؛ إش٤٠: ٣). كان صوتًا له غرض وحيد: أن يُعلن صاحب المجد الحقيقي، المسيا الموعود. بل إنه أعلن على الملأ أنه ليس مُستحقًا حتى لأدنى خدمة للشخص الذي يتكلَّم عنه، فقال: «هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» (يو١: ٢٧؛ لو٣: ١٦).
لا يخشى المواجهة:
على النقيض من تواضعه، كان أسلوب يوحنا في المواجهة ذا طابع تصادمي، ولم يكن لمنافس مهما بلغت شهرته أن يقهره! وهذا لم يكن من أجل كسب الشهرة أو الشعبية! وها حياته البسيطة تُعبِّر عن دعوته ورسالته. هوذا يدعو الفريسيين والصدوقيين الذين أتوا إلى معموديته ”يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي“ (مت٣: ٧). وكانت تلك إهانة لاذعة، ولكنها مُرتبطة بالتحدي التالي الذي كان ينتظر يوحنا؛ فقوله لهم: ”يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي“، متصل بتحذيره: «مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟»؛ فالأفاعي تفر من جحورها قبل نشوب الحرائق في الْمُرُوج (مت٣: ٧؛ لو٣: ٧).
بيد أن المُخلِصين من الشعب، أتوا إلى المعمدان، مُتجاوبين مع حق لله في إرسالية يوحنا. فسلوكه المُتضع زكَّاه لديهم، تمامًا كما كان الحال مع الرب يسوع في بساطته وتواضعه وقُربه من كل مَن يطلبه بإخلاص. ولا يمكننا أن نكون شهودًا ورسلاً أفضل مما كنا عليه عندما نقتدي بيسوع.
ويقول يوحنا البشير بشأن يوحنا المعمدان: «هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ» (يو١: ٧). يا له من سجل مُحزن عن حالة شعب الله الذي جاء يوحنا. كان ظلامهم الروحي حالكًا، حتى إنهم احتاجوا أن يأتي شاهد ليُشير لهم إلى النور! في عالم الطبيعة، لا يُمكن تصوّر أن نورًا ساطعًا في الظلام، بحاجة لأن يلفت أحد الانتباه إليه.
إرسالية هادفة مُركزة:
بلغت أيام يوحنا ذروتها حين تمّم دعوته بالإعلان: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!». بيد أنه في اليوم التالي، ارتقى إلى ذروة أعلى، عندما أشار مُجدَّدًا إلى ”حَمَل اللهِ“. فتركه اثنان من تلاميذه ليتبعا الرب يسوع (يو١: ٢٩، ٣٥-٣٧). وهنا برزت مناسبة جديدة، تستدعي روح المنافسة أو الغيرة: لقد تركه اثنان من تلاميذه ليتبعا الرب يسوع. ولكن يوحنا لم يأبه، ولم يعترض، بل تمَّم إرساليته في حمل الشَّهادة للنُّورِ «لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ» (يو١: ٧). وهكذا قال: «مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ» (يو٣: ٢٩).
كان انتباه يوحنا، وطاقاته، مُركزة بلا تردد على إرساليته لِلشَّهَادَةِ لِلنُّورِ، فارتفع فوق كل حيرة وارتباك. كان فرحه - باعتباره ”أَعْظَم الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ“ (لو٧: ٢٨) - هو أن يشهد لمجد ورفعة ربه؛ العريس، ويلفت انتباه كل أحد إليه. لم يكن لديه وقت لأجندة شخصية تخدم مصالحه الذاتية. ويا له من درس لنا!
ويبدو أن يوحنا لم يكن يعرف أن قريبه، يسوع، حتى جاء إليه ليعتمد. كان يوحنا قد بقى إلى تلك اللحظة أمينًا لدعوته، واستمر يُبشر ويُعمِد، بصبر وانتظار. ولم يُدرك حقيقة هوية يسوع، إلا عند معموديته، ورؤية الروح القدس نازلاً ومُستقرًا عليه، وهذه كانت العلامة المُعطاة له. واسمعه يقول لسائليه:
«أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ ... وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ! هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ. وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلاً: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ» (يو١: ٢٦-٣٤).
قريب يسوع:
ربما يكون يوحنا عرف الرب يسوع باعتباره أحد أقربائه. أُماهما كانتا ابنتي عمومة، قريبتين من بعضهما. إذًا يُحتمل أن يكون الصبيان تعارفا خلال فترة النشأة. إلا أن الرب يسوع تربى في الناصرة، بينما يوحنا - وهو ابن كاهن خادم في الهيكل - نشأ في اليهودية. وهكذا لم يكونا لصيقين أو جارين. وواضح من الآيات عالية، أن يوحنا لم يكن يعرف أن يسوع هو المسيا، إلى حين لحظة المعمودية. ولكن يبدو أنه كان لديه بعض المعرف، بواسطة الروح القدس، بحقيقة هوية يسوع الحقيقية. وقد بدا ذلك في قوله للرب: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» (مت٣: ١٤). لقد كانت معرفته بيسوع كافية لأن يُدرك أنه إنسان قدُّوسٌ، لا يحتاج إلى توبة. كما أدرك تفوق يسوع الروحي، كما يُفهم من قوله: : «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ».
وعندما أجاب يسوع وقال: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ»، خضع يوحنا وعمَّده «فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت٣: ١٣-١٧).
سواء كان ليوحنا لمحة مُسبقة أن يسوع هو المسيا، أو لا، إلا أنه انتظر ظهور العلامة المُعطاة له كاملة، للتعرف على ابن الله. وفي هذا درس مفيد لنا. قد يكون لدينا بعض الفهم لقيادة الله، ولكن علينا الانتظار لتأكيد الله، ودعمه من خلال كلمته. نحن كثيرًا ما ننساق وراء أول إشارة، دون الانتظار الأحرى للإعلان الواضح. لقد بقي المعمدان أمينًا لدعوته الأولى: أن يُعِّمد بالماء (يو١: ٣٣)، رغم أنه - على الأرجح - لم يكن يعرف أن من خلال هذه المعمودية، سيُستَعلَن المسيا. لقد ظل يقظًا منتظرًا ظهور العلامة المُعطاة له، وعندما لاحت، أمسك بها.
مات شهيدًا:
انتهى مسار خدمة يوحنا عندما أثار غضب هيرودس، بتحديه وتوبيخه إزاء علاقته النجسة بزوجة أخيه. وباعتباره ملك على اليهود، كان ينبغي أن هيرودس يلتزم بناموس موسى الأدبي والأخلاقي. لكنه وضع يوحنا في السجن، وبذلك أنهى خدمته العلانية.
هيرودس نفسه يمثل دراسة مثيرة للاهتمام: لقد أراد أن يقتل يوحنا، ولكنه «خَافَ مِنَ الشَّعْبِ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ» (مت١٤: ٥). وفي إنجيل مرقس يقول: «لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ» - ضد رغبة هيروديا التي كانت تطلب رأس يوحنا - «وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيرًا، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ» (مر٦: ٢٠).
كان لدى هيرودس القدرة على قتل أي شخص يريد، لكنه كان رجلا مضطربًا موَّسوسًا ومُهدَّدًا وغير آمن، ومُمزَّقا باستمرار بين خوفه من رد فعل الشعب، وبين غضب المرأة التي يُحبها بشكل غير شرعي، ومُطالبتها برأس يوحنا، وانتقادات أقرانه الحاضرين حفلته، إذا تراجع عن وعده بإعطاء الفتاة الراقصة ما تشاء (مت١٤: ٦-١٢؛ مر٦: ٢١-٢٩). ولكن احترامه على مضض ليوحنا، كان شهادة على قوة يوحنا الأدبية.
وإذ أُلقي يوحنا في السجن، ابتدأ يشك. لقد كان دائمًا شجاعًا وأمينًا في إعلانه يسوع باعتباره المسيا. لكن أن يلعب دورًا محوريًا في التاريخ، ثم يُنسى في غياهب السجن، أمر زعزع ثقته. وهكذا أرسل يوحنا اثنين من تلاميذه ليسألا الرب: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» (مت١١: ٣).
قال الرب يسوع للمُرسَلين: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (مت١١: ٢- ٦؛ لو٧: ١٨-٢٣). إذًا فكل العلامات المسيانية قد تحققت. كان يوحنا «إِنْسَانًا تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا» (يو٥: ١٧)، وكان لديه الكثير ليُعلمنا إياه نحن معشر البَشَر.
وما أن غادر المُرسَلان، حتة أخذ الرب يسوع يمدح يوحنا، قائلاً إنه «أَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ»، وأيضًا: «لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ» (مت١١: ٧-١٥). إن ما يعنينا حقًا هو تقييم وتقدير الرب يسوع لدورنا، ومُصادقته علينا. ولقد نَعِم المعمدان بهذا، وفي هذا كل الكفاية.
لم ينقضِ وقت طويل حتى استشهد يوحنا على يد هيرودس، النجس الشرس، الذي حاول أن يسترضي زوجته غير الشرعية، التي تلاعبت به (مت١٤: ١- ١٢؛ مر٦: ١٤-٢٩؛ لو٩: ٧-٩). ولكنهم لقوا جزاءهم الأبدي جراء شرهم، في حين قَبِلَ يوحنا مكافأته الأبدية لقاء أمانته لإرساليته، ولِرَّبِه.
إتمام الإرسالية:
نجد في يوحنا ١٠: ٤٠-٤٢، تذييلاً مؤثرًا لخدمة يوحنا الناجحة: «وَمَضَى (يَسُوعُ) أَيْضًا إِلَى عَبْرِ الأُرْدُنِّ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ. فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً، وَلكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هذَا كَانَ حَقًّا. فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاكَ».
كان المعمدان الصوت الصارخ الذي رسم بشهادته صورة كلامية حيَّة وواضحة وجلية، بخصوص المسيا الآتي، حتى أنه عندما ظهر الرب يسوع بشخصه، كان من السهل على الجموع أن تتعرف عليه، على الفور. والآن، بعد فترة طويلة من إحباط يوحنا وموته، كان الشعب لا يزال يُقبِل إلى الرب يسوع، لأنهم رأوا فيه بالفعل التجسيد الواضح الدقيق، لكل ما سبق يوحنا، وبشَّر به.
نعم، كان يوحنا شاهدًا أمينًا وفعالاً
ويا ليتنا جميعًا هكذا!