أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2012
دبلوماسية الإنسان وتأديب الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

 

إنها لحقيقة لافتة أن يُوصف يعقوب بأنه إنسان “بسيط (Plain)”، أو كما تُترجَّم في مكان آخر بأنه رجل “كَامِل” (تك25: 27).  والكلمة تُعبِّر – بحسب اعتقادنا – عن مسار وغرض حياته الكامن العميق الذي كان يُمَيِّزه.  على السطح كانت حياته تموج بدوامات ومسارات متشابكة: فليس أحد من معشر الآباء البطاركة سارت حياته على هذا النحو.  إلا أن الملمح الأساسي الذي ميَّزه منذ بواكير حياته، أنه كان يطمح إلى البركة الإلهية المرتبطة بحقوق البكر.  وهذه البركة – التي من المحتمل أنه لم يدرك منها إلا نذرًا يسيرًا – قد تمركزت في المسيح المزمع أن يأتي.  ومن ثم فقد احتفظ يعقوب بطابع السائح الغريب الساكن في خيام، في حين دمغ عيسو طابع الأمور التي وصمت “نِمْرُود” من قبل (تك10: 9)، وهكذا صار “صيادًا محتالاً”.

ونلمح في هذا الصدد المقارنة، بل قل المباينة بين يعقوب وداود.  وتقوم هذه المقارنة على أساس أن داود أيضًا – كما يُظهر مزمور132 – كان لحياته غرض عميق كامن منذ سني حياته الأولى.  لقد تبنى هذا الغرض منذ أيام صباه في أفراتة، ولم يتخلَّ عنه طوال فترة معاناته.  كان هذا الغرض أن يَجِد «مَقَامًا لِلرَّبِّ، مَسْكَنًا لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ» (مز132: 5).  ولا شك أن ذلك كان سببًا عظيمًا، أو السبب الأعظم، لدعوة داود: “رجلاً حسب قلب الله”.  وموضع التضاد والمباينة أنه بينما كان غرض داود أن يجد “مقامًا للرب”، فإن غرض يعقوب كان حصوله على البركة لنفسه.  صحيح أن البركة التي سعى إليها يعقوب كانت بركة الله، وكانت على الأقل جزءًا من قصده تعالى حيال عبده، ومن ثم، وبهذا المعنى، كان يعقوب إنسانًا كاملاً.
ومن بين الآباء البطاركة، وبين كل الشخصيات التي رسمها المكتوب، يقف يعقوب باعتباره الدبلوماسي الماهر.  ومجاله في هذا الصدد ليس شؤون الدول والأمم، بل في أدق الأمور المتصلة بحياته وحياة ذويه.  وإن كان أسلوب العمل في الحالتين واحدًا.  إن كلمة “دبلوماسية” – كما يوضح القاموس – مشتقة من كلمة يونانية معناها الأولي: “ورقة مثنية إلى قسمين”.  وعليه فهي تعني – إلى اليوم – الإدارة أو المناورة الفنية، حيث يعرض المرء قضيته بورقة مثنية بحيث لا يستطيع الطرف الآخر، أو الخصم، أن يرى كل ما هو مدون فيها.  وهذا يتضمن بالضرورة سعيًا جهيدًا أنانيًا، يدمغ كل أنشطة المرء.
هكذا كان حال يعقوب منذ مقتبل عمره.  كان دبلوماسيًا بارعًا حتى قرب نهاية حياته: دائمًا يخطط، دائمًا يسعى إلى غاياته بطرق ماهرة.  ومن ثم نرى الله يؤدبه، ليستحضره إلى وضع حد لذكائه ومهارته، وأخيرًا يأتي به إلى الغاية المرغوبة؛ الغاية التي قصدها الله نفسه، وهي تفوق أي شيء مما كان يعقوب يصبو إليه.
ولا شك أن سردًا مختصرًا لدبلوماسية يعقوب سيكون نافعًا لتعليمنا، حيث إن جميعنا لنا ذات طبيعته التي تحب التخطيط للحصول على مآربنا الخاصة، رغم أننا قد نكون نفتقر إلى قدرته.
ويسجل لنا تكوين 25 صفقة بين يعقوب وبين عيسو مقابل طبق من العدس.  كانت حقوق البكورية هي موضوع هذه الصفقة التجارية.  وقد كشف عيسو النقاب عن نفسه باعتباره شخصًا مستبيحًا (عب12: 16)، إذ قال: «هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ، فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ؟ (أو وما فائدة البكورية بالنسبة لي؟)» (تك25: 32).  بينما كشف يعقوب النقاب عن شخصه الذي لئن كان يُقدّر البكورية، إلا أنه يعتبرها مادة للمقايضة، يشتريها بأرخص الأسعار.  احتقر عيسو البكورية وفقدها.  ولكن من الناحية الأخرى ليس ثمة دليل على أن يعقوب حصل عليها بهذه الحيلة البارعة، ولكنه بالأحرى حصل عليها بالرغم منها.
ويسجل تكوين 27 الحيلة الماهرة التي دبرها يعقوب بتوجيه من أمه، ليخدع أباه الأعمى، ويختلس بركة أخيه.  لقد كذب بكلام فمه، وكذا بفعله.  وهذه الحادثة تُرينا كيف رتب الله الأحداث ليُقنع عيسو بغباء استباحته، وعواقبها المُرَّة التي لا تُلغى.  أما بالنسبة ليعقوب، فيقينًا قد حصل على البركة الأبوية، والتي تتضمن – كما يُرينا عبرانيين11: 20 – عنصر الإيمان، والتي كانت موافقة لقصد الله.  إلا أنه لم يحصل على البركة الإلهية بهذه الدبلوماسية الضارة، بل بالأحرى جلب على نفسه سلسلة من النتائج الوخيمة الصعبة التي لازمته طوال حياته.  لقد وقع عليه تأديب الله.
أول أثر لهذا التأديب كان هجره لبيته ليذهب طريدًا إلى حاران.  ورغم معاناته في هذا السبيل إلا أن الله تعامل معه إذ ظهر له في حلم (تك28)، وكذلك يعقوب كان له معاملاته مع الله.  كانت معاملات الله مع يعقوب بالنعمة الخالصة، إذ كشف له أنه سيقف لجواره ويعمل لحسابه (تك28: 13-15).  أما معاملات يعقوب مع الله فكانت على أساس الدبلوماسية الأنانية: فإذا كان الله معه، ورزقه من خيرات هذه الحياة، فهو بدوره سيخدم الله (تك28: 20-22).  كان الله بالنسبة له لا يزال مصدر الإمداد بالطعام والثياب، والحماية والعناية التي يحتاجها.
يبدو أننا على استعداد لأن نرجم يعقوب بالحجارة.  ولكن أَ ليس هذا هو حال الآلاف من المسيحيين اليوم، الذين تنحصر مسيحيتهم في أن الله صالح بالنسبة لهم، وأنهم يجدون التعزية في يسوع، وسط التجارب والأعواز وصروف الحياة، وفي النهاية يتوقعون الذهاب إلى السماء بعد الممات؟!
وتسجل لنا الأصحاحات29-31 من سفر التكوين سنوات تغرُّب يعقوب في حاران، والتي شهدت سجالاً من الدبلوماسية بين يعقوب ولابان خاله.  وطبقًا لحكومة الله، وجد يعقوب نفسه بين يدي إنسان يفوقه في الأنانية.  وقد ظهر تأديب الله له في مسألة زواجه، فقد خُدع بين ابنتي لابان الاثنتين، تمامًا كما خُدع إسحاق بين ابنيه الاثنين.  فقط كان إسحاق أعمى بفعل الشيخوخة، في حين عَمِيَّ يعقوب بفعل عادات الزواج الخاصة بالشرق.
غيَّر لابان أجرة يعقوب – طبقًا لكلام الأخير – عشر مرات (تك31: 7).  ولكن يعقوب استرد ماله بواسطة حيلة ماكرة، إذ جعل الغنم تتوحم.  وحسب شكوى أبناء لابان، أن يعقوب «أَخَذَ ... كُلَّ مَا كَانَ لأَبِينَا» (تك31: 1).  وهكذا استمر النزاع إلى أن افتقد الله يعقوب بحلم، وأعلمه أنه هو، لا استراتيجيات يعقوب، هي التي جعلت المواشي تعبر إليه من لابان، ودعاه للخروج من هذه العمليات السخيفة رجوعًا إلى كنعان (تك31: 12-14).
واستحضر ذلك يعقوب إلى أصل المشكلة: غضب عيسو وانتقامه.  ويُسجل أصحاحا32، 33 من سفر التكوين دبلوماسيته الماهرة في مواجهة هذه المشكلة الطارئة.  كما يُظهر هذان الأصحاحان أن يعقوب لم يكن بحاجة إلى هذه الخطط، لأن الله الذي حَذَّر لابان الأرامي ألا يمس يعقوب، هو الذي تَقدَّمه مُجدَّدًا، ولَيَّن قلب عيسو.
وبالارتباط بهذه التجربة، بلغ الله الذروة في معاملاته مع يعقوب.  حيث ظهر ملاك الرب في هيئة إنسان، وصارعه حتى طلوع الفجر.  وقاوم يعقوب إلى أن صار يخمع.  وعندما فرغ من قوته الخاصة ودهائه، فإن ملاك الرب، عوضًا عن أن يُصارعه، «بَارَكَهُ هُنَاكَ» (تك32: 24-31).  وبلغة الرمز كان هذا هو الدرس العظيم المستفاد.  وهناك اكتنف يعقوب نور هذه الحقيقة: أنه لا مصارعة سواء دبلوماسية أو جسمانية، يمكن أن تبلغ النتائج التي يُحصّلها الاعتماد على الله وقدرته.  
وأما أن يعقوب قد بدأ يتعلَّم هذا، فواضح في نهاية أصحاح33 من سفر التكوين، حيث نجده يبني مذبحًا ويدعوه: «إِيلَ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ» (تك33: 20).  إذ كان فكره ما زال يميل للأنانية.  فما كان يشغله هو: ما هو الله بالنسبة إليه شخصيًا، وإن كان ما هو الله بالنسبة له باعتباره أمير الله الذي يغلب بواسطة الضعف والاتكال، ولذلك فهو قد سمَّى المذبح «إِيلَ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ»، لا «إيل إله يعقوب».
عودة إلى طرق يعقوب الدبلوماسي.  فإذا امتحناها سنقتنع أن طابعًا واحدًا يدمغها جميعًا؛ كانت كلها موصوفة بالفشل.  حتى حيث يكون الهدف في حد ذاته رخيصًا ولا يستحق، والطرق المُتبعة ليست خاطئة، فما زالت هذه الخطط – كما تبرهن – عناء غير ضروري؛ لأن الله كان معه، سائرًا أمامه، وينحاز إلى جانبه.  
من هذه النقطة فصاعدًا، خبت دبلوماسية يعقوب، ولكن متاعبه لم تنتهِ.  ففي حكومة الله كان عليه أن يحصد ما زرعه إلى ساعته الأخيرة.  وإن كان يعقوب يُقابل هذه المعاملات التأديبية بروح أخرى.  ولاحقًا، في تكوين 35، عندما دعاه الله أن يصعد إلى بيت إيل، أظهر أنه الآن لديه الإحساس بقداسة هذا المكان الذي أصبح بيت الله.  ويدعو المذبح الذي دعاه هناك: «إِيلَ بَيْتِ إِيلَ»، أو “الله إله بيت إيل”، أي “إله بيت الله”.  فالآن يذكر يعقوب الله، ليس بالارتباط بنفسه – حتى ولو كإسرائيل – ولكنه الله بالارتباط مع بيته (تك35: 1-7).
وتتجلى روح يعقوب الكسيرة عندما يحصد حصاد الخداع الذي زرعه مع إسحاق أبيه.  فقد خدعه أولاده خداعًا مرًّا بشأن يوسف.  وبعدها بسنوات عندما وصله الخبر السار بخصوص ابنه المحبوب، مع دعوة يوسف إليه للنزول إلى مصر، وقد صادق الله على هذه الدعوة، نراه ينزل بإيمان بسيط بالخبر الذي وصله، دون أدنى محاولة من جانبه ليضمن سلامته أو سلامة أملاكه (تك45: 25-28؛ 46: 1-4).  ومن ثم، وإذ أصبح واعيًا لبركة الله التي أسبغها عليه، استطاع أن يقف أمام فرعون العظيم، ويُباركه بدلاً من أن يطلب بركة منه (تك47: 7-10).
نصل أخيرًا إلى تكوين 48 حيث المشهد المؤثر المُشار إليه في عبرانيين 11: 21، حيث نقرأ: «بِالإِيمَانِ يَعْقُوبُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ابْنَيْ يُوسُفَ، وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ».  أغمض عينيه عن هذا العالم - الذي شهد الكثير من التخطيط من جانبه، والكثير من التأديب من جانب الله – وبعدها مات.  ومع ذلك فعينا إيمانه لم تكن أحدَّ منهما كما هي الآن.  فرأى الوضع الصحيح بشأن موقف أفرايم ومنسى.  ووضع يده اليمنى على رأس أفرايم الذي معنى اسمه “مثمر”، ووضع اليسرى على رأس منسى الذي معنى اسمه “نسيان”، وباركهما (تك48: 8-20).
وفي ضوء ما أُعلن بعد هذا الحدث، نرى في هذا التصرف من جانب البطريرك المائت معنى لم يكن هو ذاته يدركه:  ففي مثال كان “يَنْزِعُ الأَوَّلَ، لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ” – المثمر – وهو رمز للرب يسوع (عب10: 9).
ولكن لماذا يسجل الوحي أنه «سَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ»؟ أ ليس لكي نرى أنه في ضعف جسده – ومن ثم استند على دعامة خارجية – كان يُصَوِّر حالته الروحية الآن.  فأخيرًا قد أقرَّ بضعفه واستبدل بدبلوماسيته، الاتكال على الله.  ونتيجة لهذا الاستبدال البهيج، صارت شمس حياته تلمع بالمجد الأخاذ بعد يوم عاصف.
وهكذا كإنسان مائت، متكل، يملأ ناظريه “المُثمر”، صار ساجدًا.  لقد أدرك أخيرًا – كثمرة لتأديب الله – الغرض الذي قصده الله له.  ومن اللافت أنه في كل أصحاح 48 يُطلَق عليه “إسرائيل”، لأنه أخيرًا أظهر كل سمات “أمير الله”.  وفي تكوين 49 يُصبح يعقوب الساجد نبيًا لله، ويتكلَّم بصدد بركته لأولاده، عن أمور خاصة بالمسيح في آلامه وفي أمجاده.
القيمة العظمى لتاريخ يعقوب تكمن في الحقيقة إنه يرسم بأمانة الطبيعة البشرية الكائنة في قديسي الله.  فغباؤه هو غباؤنا.  وميله الدؤوب للتخطيط بالمهارة الدبلوماسية ليصل إلى غاياته، ويُحقق أهدافه المشروعة، والتي كانت جزءًا من قصد الله له – هو ذاته الميل الذي عندنا.  ومن ثم فإن معاملات الله التأديبية معه تُبين معاملاته معنا نحن أيضًا.
يا لغبطتنا نحن أيضًا إذا بلغنا النهاية التي انتهى إليها في موته! ويا لغبطتنا العظيمة، إذا بلغنا هذه النهاية إبان حياتنا وقبل أن نأتي إلى ساعة المنون.

ف. ب. هول

   


ف. ب. هول