أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2011
داود وأبشالوم 9 - رجلاً حسب قلب الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة


داود وأبشالوم

أبشالوم هو الابن المفضل لداود، إلا أنه كان عاصيًا، وكان أبشالوم فخورًا بجماله، وخاصة بشعره (2صم14: 26، 26). وكان من أكثر شخصيات الكتاب المقدس فسادًا وشرًا. فلا توجد أية إشارة توحي بأن الله كان له مكان في تفكيره. لقد كان شرسًا، متعجرفًا، عنيدًا، بلا إحساس. فقتل أخاه (غير الشقيق) أمنون، وأشعل النار في حقل يوآب، وتآمر على أبيه سرًا حتى أبعده عن أورشليم واستولى على القصر، وأخذ يخطط كيف يمحو جيش داود. إلا أن داود كسب المعركة، وقُتل أبشالوم نائلاً ما يستحقه من عقاب «سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ» (تك9: 6).


أبشالوم يقتل أمنون

كان لأبشالوم وثامار وأمنون أب واحد، ولكن أمنون كان له أم مختلفة. واشتهى أمنون أخته ثامار وفعل معها الشر عنوة. وكانت هذه الخطية الكريهة في بيت داود جزءًا من عقاب الله الذي عانى منه داود بسبب خطيته مع بثشبع. فبدأ كلام الله يتحقق: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ» (2صم11: 12).

أبغض أبشالوم أمنون بسبب فعلته، ولكن داود لم يوبخه. وإذ قرر أبشالوم قتل أمنون بسبب فعله الشر مع أخته، دعا أبناء الملك لوليمة، وعندما سكر أمنون، أمر رجاله بقتل أمنون (2صم12: 28). ولم يعاقب داود أمنون عندما فعل الشر، ولا عاقب أبشالوم عندما قتل أمنون. ولكن كان على أبشالوم الهرب بعد أن دبر قتل أمنون.

أبشالوم يخطط للانقلاب

لم يشعر أبشالوم بالامتنان لأبيه بعدما سمح له بالرجوع لأورشليم. بل خطط كيف يعزله عن المُلك، فكان يقف في أكثر الأماكن ازدحامًا، وحظيَ بتأييد الشعب باستماعه لشكواه وتظاهره بالتعاطف معه (2صم15: 5، 6). لقد كان سياسيًا ماهرًا ومخادعًا. وبالتأكيد كان داود على علم بكل ما يخططه ابنه، إلا أنه لم يقم بأية محاولة لإيقافه. إذ كان داود يدلل ابنه، وكان هذا أحد الأمور التي أظهر فيها داود فشلاً كبيرًا. كان داود يعلم أن أبشالوم يعظم نفسه، وأن الجسد هو الذي يحركه، ورغم علمه أيضًا أن الله قد سبق وعين سليمان ليكون الملك القادم (1أخ22: 9؛ 2صم7: 12؛ 12: 25)، مع كل ذلك فإنه لم يفعل شيئًا ليوقف أبشالوم.

وبعد هذا بعدة سنوات، قال أبشالوم لِلمَلِكِ: «دَعْنِي فَأَذْهَبَ وَأُوفِيَ نَذْرِي الَّذِي نَذَرْتُهُ لِلرَّبِّ فِي حَبْرُونَ ... قَائِلاً: إِنْ أَرْجَعَنِي الرَّبُّ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَإِنِّي أَعْبُدُ الرَّبَّ» (2صم15: 7، 8). كان أبشالوم يكذب، ولكن داود لم يناقشه، وذهب أبشالوم إلى حبرون لكي يبدأ الانقلاب. فأرسل جواسيس في كل إسرائيل قائلاً: «إِذَا سَمِعْتُمْ صَوْتَ الْبُوقِ، فَقُولُوا: قَدْ مَلَكَ أَبْشَالُومُ فِي حَبْرُونَ» (2صم15: 10). وفي هذا تحذير للآباء حتى لا يفترضوا أن أبناءهم يعرفون الرب دون أن يبحثوا عن ثمار تبرهن حقيقة هذه العلاقة. فما فعله أبشالوم من تمرد على أبيه جدير بأن نعطيه أهمية كبيرة.

داود يهرب من أورشليم

عندما سمع داود أن «قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ صَارَتْ وَرَاءَ أَبْشَالُومَ» (2صم15: 13)، اضطر أن يهرب هو وعبيده من أورشليم، فهو لا يريد أن يرى المدينة التي يحبها تتحول إلى ساحة قتال. كما أنه كان يحب أبشالوم وكان لا يريد أن يؤذيه. لقد فهم داود أن كل هذا كان جزاء خطيته حينما زنى وقتل. فلقد سبق وأعلن الرب أن الشر سوف يأتي من بيته. وهو ما تحقَّق عندما قام ابنه المُفضَّل بالثورة. وبالرغم من ذلك تعلق داود بالرب في وسط كل هذا التأديب، وذلك حينما كتب المزمور الثالث، حيث نقرأ عنوان المزمور «مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ حِينَمَا هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ ابْنِهِ»، واستطاع أن يثق بالرب بالرغم من مخاوفه «أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتُرْسٌ لِي. مَجْدِي وَرَافِعُ رَأْسِي ... لاَ أَخَافُ» (مز3: 3، 6).

وعندما انضم أخيتوفل – أحد مشيري داود المعتبرين - إلى صف أبشالوم، صلَّى داود أن يُحمِّق الرب مشورته (2صم15: 31). وبالفعل استجاب الله لهذه الصلاة، إذ أشار أخيتوفل على أبشالوم أن يفعل أمرًا بغيضًا قائلاً: «ادْخُلْ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيكَ اللَّوَاتِي تَرَكَهُنَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ، فَيَسْمَعَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ أَنَّكَ قَدْ صِرْتَ مَكْرُوهًا مِنْ أَبِيكَ، فَتَتَشَدَّدَ أَيْدِي جَمِيعِ الَّذِينَ مَعَكَ» (2صم16: 21). فهذه الفعلة سوف تكون إعلانًا وقحًا بأن كل ما يملكه داود أصبح ينتمي الآن لأبشالوم. وكان هذا أيضًا جزءًا من تأديب الله الذي قال لداود: «آخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجِعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الشَّمْسِ. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ» (2صم12: 11). وهذا ما تم بالحرف عندما ترك داود عشر نساء سراري لحفظ البيت «فَنَصَبُوا لأَبْشَالُومَ الْخَيْمَةَ عَلَى السَّطْحِ، وَدَخَلَ أَبْشَالُومُ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيهِ أَمَامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ» (2صم16: 22).

بعدما ترك داود وعبيده المدينة، وكل الشعب وراءه، ظهر إتاي – رفيق داود المخلص- الذي طيب قلب داود بإظهار إخلاصه الشديد. وعندما قال له الملك بأن يرجع لأبشالوم، أجابه أنه يريد أن يكون مع سيده الملك سواء كان للحياة أو للموت. وفي إخلاصه والتصاقه بداود نرى فيه تشبيهًا مباركًا لمن يظهرون ولاءً وتكريسًا حقيقيًا للرب في زمان رفضه (2صم15: 19-22).

كان هناك بكاء كثير أثناء عبور داود وادي قدرون. وكانوا يحملون التابوت. فقال الملك لصادوق: «أَرْجِعْ تَابُوتَ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُرْجِعُنِي وَيُرِينِي إِيَّاهُ وَمَسْكَنَهُ. وَإِنْ قَالَ هَكَذَا: إِنِّي لَمْ أُسَرَّ بِكَ. فَهَأَنَذَا، فَلْيَفْعَلْ بِي حَسَبَمَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (2صم15: 25، 26). فكان داود يقدر التابوت (الذي يشير لحضور الله) أكثر من أي شيء آخر، حتى رفض أن يُعرضه للاحتقار المحتمل حدوثه من أبشالوم ورجاله. لقد علم داود أنه تحت التأديب، فحَسِب نفسه غير مستأهل أن يرافقه التابوت، ورفض أن يزعم وجود الله في صفه.

كان داود خاضعًا تمامًا لإرادة الله، فرأى يدي الله في كل مصاعبه. هل يمكننا فعل هذا؟ الإيمان في الله يرى دائمًا يد الله في وسط كل المآسي. ففي هذه الظروف القاتمة التي قام فيها أبشالوم بالثورة، رأى داود يد الله التأديبية، وهذا ما حفظه من الشعور بالمرارة تجاه الله كما حفظه من خوف الإنسان. فكلما استطعنا تمييز يد الله المسيطرة في كل ظروفنا، استمتعنا بسلام الله الذي يفوق كل عقل. (في4: 7).

«وَأَمَّا دَاوُدُ فَصَعِدَ فِي مَصْعَدِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ. كَانَ يَصْعَدُ بَاكِيًا وَرَأْسُهُ مُغَطَّى وَيَمْشِي حَافِيًا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ مَعَهُ غَطُّوا كُلُّ وَاحِدٍ رَأْسَهُ، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ وَهُمْ يَبْكُونَ» (2صم15: 30). يا له من مشهد! فالملك صاعد إلى جبل الزيتون باكيًا، حافيًا، مُغَطَّى الرأس! لقد كانت عصا الله التأديبية ثقيلة، وكان المظهر الخارجي لداود يدل على انكساره وتواضعه، وحكمه على ذاته، وندمه على خطاياه.

يذكرنا داود هنا بالمسيح الذي صعد جبل الزيتون وبكى (لو19: 37، 41). وكما عبر داود وادي قدرون، هكذا فعل المسيح (يو18: 1). وكما كان داود صاعدًا كالملك المحتقر المرفوض، كذلك كان المخلص وهو ذاهب لجثسيماني. وكما كان داود محاطًا بأحبائه المخلصين، كذلك كان المسيح (لو23: 27). وكما تركه المشير الموثوق به أخيتوفل وانضم إلى عدوه، هكذا خان يهوذا المسيح وانضم لأعدائه (لو22: 47). وكما كان الشعب الذي يرافق داود حزينًا، هكذا كان التلاميذ الذين تبعوا المسيح إلى بستان جثسيماني (لو22: 45). ولكن بالرغم من كل هذه المشابهات دعنا لا ننسى الفرق القاطع، فآلام داود كانت نتيجة خطاياه الشخصية، بينما المسيح تألم من أجل خطايانا نحن.

«وَأُخْبِرَ دَاوُدُ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَخِيتُوفَلَ بَيْنَ الْفَاتِنِينَ مَعَ أَبْشَالُومَ» (2صم15: 31). وكان هذا الأمر هو الأشد مرارة في كأس أحزان داود بعد تمرد ابنه مباشرة. فأخيتوفل كان صديق داود ومشيره الأمين. وهو لم يكتف بأن يترك داود بل انضم لعدوه. وصف داود رفقتهم لبعض قائلاً: «الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ» (مز55: 14). وشعر بخيانته الشديدة «أَيْضًا رَجُلُ سَلاَمَتِي، الَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ!» (مز41: 9)، وأضاف قائلاً: «لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي» (مز55: 12، 13). وكان داود يخشى مشورة أخيتوفل لأبشالوم أكثر من الثورة نفسها، فهو كان رجل سياسي مخضرم، آراؤه صائبة «وَكَانَتْ مَشُورَةُ أَخِيتُوفَلَ ... كَمَنْ يَسْأَلُ بِكَلاَمِ اللَّهِ» (2صم16: 23).

فصلى داود «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31). ونحن علينا أن نحذو حذوه في أن نصلي لكي يُحبط الله كل خطط الشرير، ولنا الوعد بأن «طِلْبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا» (يع5: 16). واستجاب الله صلاة داود «فَإِنَّ الرَّبَّ أَمَرَ بِإِبْطَالِ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ الصَّالِحَةِ، لِيُنْزِلَ الرَّبُّ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ» (2صم17: 14).

«وَلَمَّا وَصَلَ دَاوُدُ إِلَى الْقِمَّةِ حَيْثُ سَجَدَ لِلَّهِ» (2صم15: 32). وهذا يعلمنا أنه يجب أن لا تعوق الصعوبات عبادتنا. فيمكننا أن نعبد الرب في الوادي كما نعبده على الجبل. وبالرغم أن داود كان بعيدًا عن خيمة الاجتماع إلا أن الوصول لله ظل ممكنًا. فلا يوجد شيء يجب أن يمنعنا عن عبادة الرب.

تضارب المشيرين

في 2صموئيل 17 أعطى مشيرو أبشالوم، أخيتوفل وحوشاي، مشورة متضاربة، وذلك في توقيت الهجوم على داود، وفي كيفية تنفيذ هذا الهجوم. فكانت مشورة أخيتوفل: «دَعْنِي أَنْتَخِبُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَأَقُومُ وَأَسْعَى وَرَاءَ دَاوُدَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَآتِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتْعَبٌ وَمُرْتَخِي الْيَدَيْنِ فَأُزْعِجُهُ، فَيَهْرُبَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَهُ، وَأَضْرِبُ الْمَلِكَ وَحْدَهُ. وَأَرُدُّ جَمِيعَ الشَّعْبِ إِلَيْكَ» (2صم17: 1-3). فإذا تم القضاء على داود، سوف تنتهي الثورة فورًا، ويُصبح أبشالوم ملكًا. وقوبل اقتراح أخيتوفل الدموي بقتل مسيح الرب بالاستحسان من أبشالوم ومن كل شيوخ إسرائيل (2صم17: 4). ولكن أخيتوفل لم يحسب حسابًا للرب الذي يحب داود.

عندما أخبر أبشالوم حوشاي بمشورة أخيتوفل، أفاد حوشاي أن أمر قتل داود ليس بالمهمة السهلة كما افترض أخيتوفل، لأن داود كان محاربًا جبارًا محاطًا برجال ذوي بأس، وأكمل حوشاي كلامه بأن داود لا بد أن يكون مختبئًا في مثل ذلك الوقت، فهو خبير في الهرب. فقال حوشاي: «لِذَلِكَ أُشِيرُ بِأَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْكَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ ... وَحَضْرَتُكَ سَائِرٌ فِي الْوَسَطِ» (2صم17: 11). فالاثنا عشر ألف رجل الذي تكلم عنهم أخيتوفل لن يكونوا كفاة في مواجهة داود ورجاله. فعلى أبشالوم أن يحشد كل رجال إسرائيل لكي يهزم أباه بقوة الكثرة العددية. ولنا هنا درس عملي: لا يجب أبدًا أن نقلل من قوة الأعداء الروحية، والبحث عن أفضل الوسائل في التغلب عليهم. فغالبًا ما يهاجم الشيطان فجأةً، وهو له 6000 سنة من الخبرة في تجربة الإنسان، منذ أن جرب والدينا في الجنة. فعلينا أن نخطو بحذر وإلا سوف يهزمنا.

عندما أشار حوشاي على أبشالوم بحشد هذه القوة الغفيرة، كان الهدف هو كسب الوقت. فكلما تأخَّر أبشالوم في المواجهة، تحقق هدف حوشاي الحقيقي بصورة أفضل، وهو أن يمنح داود وقتًا لكي يجهز صفوفه، ويختار أنسب الأماكن للقتال. وهذا كان عكس تمامًا خطة أخيتوفل: «أَقُومُ وَأَسْعَى وَرَاءَ دَاوُدَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ» (2صم17: 1). هذا بالإضافة إلى أن حوشاي اقترح على أبشالوم أن يذهب بنفسه للحرب «وَحَضْرَتُكَ سَائِرٌ فِي الْوَسَطِ» (2صم17: 11). وهذا ما أدى إلى مقتل أبشالوم في النهاية. فلو كان أبشالوم استمع لمشورة أخيتوفل، لَمَا ذهب إلى الحرب، وكان سيبقى آمنًا في أورشليم. ولكن بقبوله مشورة حوشاي بالذهاب بنفسه للحرب، فإنه ذهب لموته.

ولكن ليس حوشاي هو الذي استطاع هزيمة مشورة أخيتوفل، بل هو الرب «فَإِنَّ الرَّبَّ أَمَرَ بِإِبْطَالِ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ الصَّالِحَةِ، لِيُنْزِلَ الرَّبُّ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ» (2صم17: 14). فالرب هو الذي أعطى حوشاي المشورة، وهو الذي أقنع أبشالوم بها. فأنقذ الملك من خلال مؤامرة حوشاي الذي تصرف كجاسوس لصالح داود. والله كلي السلطان «يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» (أف1: 11). فـإن «الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ» (دا4: 17). حسنًا أن نعرف أن الله دائمًا يتدخل لأجل حماية شعبه وخيرهم. فالله استخدم مشورة حوشاي في إنقاذ داود. وبمجرد أن رأى أخيتوفل مشورته تُحتقر، وأنه لن يستطيع تنفيذ رغبته في قتل الملك، ذهب وخنق نفسه، ليذكرنا بيهوذا الإسخريوطي الذي هو أيضًا شنق نفسه (مت27: 5).

الحرب الأهلية

صارت هناك حرب أهلية. وقسم داود جيشه إلى ثلاثة مجموعات بقيادة يوآب وأبيشاي وإتاي. وكان داود على وشك الانضمام لرجاله في الحرب، ولكن الشعب رفض قائلاً: «لاَ تَخْرُجْ، لأَنَّنَا إِذَا هَرَبْنَا لاَ يُبَالُونَ بِنَا، وَإِذَا مَاتَ نِصْفُنَا لاَ يُبَالُونَ بِنَا. وَالآنَ أَنْتَ كَعَشَرَةِ آلاَفٍ مِنَّا. وَالآنَ الأَصْلَحُ أَنْ تَكُونَ لَنَا نَجْدَةً مِنَ الْمَدِينَةِ» (2صم18: 3). وأوصى داود قواده قائلاً: ««تَرَفَّقُوا لِي بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ» (2صم18: 5).

وقعت المعركة في الوعر، حيث كثير من الأودية العميقة. وفقد أبشالوم عشرين ألفًا من رجاله «وَزَادَ الَّذِينَ أَكَلَهُمُ الْوَعْرُ مِنَ الشَّعْبِ عَلَى الَّذِينَ أَكَلَهُمُ السَّيْفُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» (2صم18: 8). واستطاع أبشالوم الهروب، لكن شعره اشتبك بفروع البطمة حتى إنَّه «عُلِّقَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» (2صم18: 9). لم يستطع أول رجل رأى أبشالوم أن يفعل به شرًا لأنه سمع بنفسه وصية الملك. ولكن أحد قواد داود، يوآب عديم المشاعر «أَخَذَ ثَلاَثَةَ سِهَامٍ بِيَدِهِ وَنَشَّبَهَا فِي قَلْبِ أَبْشَالُومَ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ» (2صم18: 14). فتجاهل يوآب وصية داود بأن يترفق بأبشالوم؛ وألقوا جسده في حفرة، وأقاموا عليه رجمة من الحجارة كما يُفعل بالمجرمين.

وانتهت الثورة عندما مات أبشالوم، وهذا ما كان يعرفه يوآب. وكان داود جالسًا في باب المدينة مترقبًا الأخبار. وإذ سمع داود بمقتل ابنه ناح وبكى عليه ««يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا ابْنِي، يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي، يَا ابْنِي» (2صم18: 33). كان داود يحب ابنه، وكان في قمة الحزن على موته لأنه لم يكن متأكدًا من علاقة ابنه بالرب. كان داود ملكًا عظيمًا ولكنه كان أبًا فاشلاً، ولعل أبشالوم خير دليل على هذا الفشل!

موريس بسالي

العدد القادم: داود وشمعي

 

موريس بسالي