أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2012
اخنوخ والسير مع الله - للمتألمين
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ» (تك5: 24)
معنى اسم “أَخْنُوخ” “مُتدرِّب” أو “مُتعلِّم” كما قد يعني أيضًا “مُعلِّم”.  فمن خلال سيره مع الله اكتسب بصيرة ليعرف أفكار الله وخططه، وقد مكَّنه ذلك أن يُعلِّم الآخرين، وأيضًا أن يتصرف كنبي لله في وسط عالم شرير.  فقد أُخبرنا في رسالة يهوذا أن أخنوخ تنبأ، وكانت نبوته عن مجيء الرب ليدين الفجار (يه14، 15).  نعم، فالله يكشف خططه لعبيده الأنبياء، كما نقرأ في سفر عاموس: «إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْرًا إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ» (عا3: 7).
إن غرض قلب الله أن يُشارك خاصته في أفكاره، كما نرى في حياة إبراهيم: «فَقَالَ الرَّبُّ: هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ» (تك18: 17).  ولكن ذلك يتطلب معرفة حقيقية بالله، وسيرًا في رضاه.  فكيف يتسنى لإنسان خاطئ، متغرب عن الله، أن يُحْضَر إلى مركز قريب من قلب الله، ليتعلَّم أسراره الحميمة؟ لن يمكن له إدراك ذلك إلا بميلاد جديد وسكنى الروح القدس فيه، الأمرين اللذين يجعلان الإنسان في انسجام مع الله.  فعندما نُولد من الله، نعرف أن الله لا يُخفي شيئًا عن أولاده الأعزاء.  وهكذا نقرأ في 1كورنثوس2 أنه بسكنى الروح القدس، وبواسطة الكلمة المُوحى بها، نعرف أفكار الله الحميمة، ومقاصد ومخططات محبته: «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (1كو2: 9).
وهذا هو امتيازنا الحاضر كأولاد الله، بينما نعيش في عالم بلا إله وبلا رجاء.  هل نختبر هذه العلاقة والشركة الحلوة معه؟ هل نحن ننمو في معرفته وفي معرفة خططه ومشوراته؟ دعونا نفحص أنفسنا إذا ما كنا نسير حقًا مع الله.
كان السير مع الله امتياز آدم في جنة عدن، ولكنه خسره بسقوطه.  كان الله يسير مع آدم، في الجنة، في سكون النهار، ولكن بعد سقوط آدم وحواء أخفيا أنفسهما من حضرة الرب الإله.  على أية حال أضحى ذلك امتياز أخنوخ الذي تمتع به إلى أن أُخذَّ من هذا المشهد، وامتياز نوح الذي اجتاز بأمان مياه الطوفان وصولاً إلى عالم جديد (تك5: 22، 24؛ 6: 9)، لأن «سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ» (مز25: 14).
واختطاف أخنوخ من الأرض، بعد عدة سنوات من السير مع الله، هو رمز لاختطاف الكنيسة.  بينما نرى في نوح رمزًا للبقية المؤمنة من إسرائيل، والتي يتعين عليها أن تجتاز في مياه الضيقة العظيمة.
ونحن معشر المسيحيين نتلمس معرفة الله بواسطة إعلانه عن ذاته، في الكلمة التي أوحى بها روحه، ونتعرف عليه كمن هو إلهنا وأبونا، بواسطة الرب يسوع المسيح.  كما أننا – من خلال الكلمة - نتعرف على أنفسنا، سواء حالنا بالطبيعة أو مقامنا في المسيح.  نحن كاملون فيه؛ في المحبوب.  كما نتعلَّم أيضًا أفكار الله بخصوص العالم في حالته الراهنة، تحت سلطان رئيس هذا العالم، كما في حالته المستقبلة تحت حكم المسيح.  كما نتعلَّم أفكاره بشأن نصيبنا المستقبلي مع المسيح؛ مجيئه لأجل خاصته، واختطافه لقديسيه، ودخولهم إلى مجد بيت الآب.  كما نتعلَّم أيضًا قصده من جهة دورنا في الملك الألفي عندما نملك مع المسيح على الأرض بعد ظهوره بالمجد والقوة.  ولكن علينا أن نسير مع الله، وهذا فقط ما يجعلنا نفهم هذه الأمور.
ويبدو أن نقطة التحول في حياة أخنوخ كانت ولادة ابنه «وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَتُوشَالَحَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ» (تك5: 22).  ربما يكون قد تأثر بسلطان الله كالخالق القدير، أو أُسر بصلاح الله وبركته اللذين اختبرهما في تكوين عائلته، فاقتاده ذلك إلى حياة جديدة، ومسيرة حقيقية مع الله، ومن ثم ثابر على السير مع الله لفترة ثلاث مئة سنة، وهي فترة طويلة من الزمن.  وأتجاسر على القول إنه لم يمر يوم، خلال تلك السنين الطوال، ترك فيه أخنوخ الله جانبًا، ورفض أن يسير معه.
عندما نتقدم في العمر، بعد مسيرة سنين حسنة مع الرب، نميل لأن نتحول عنه ونتبع طرقنا الخاصة؛ مثل سليمان الملك الذي عبد آلهة غريبة عندما تقدَّم به العمر.  ولكن أخنوخ التصق بالرب، مثلما التصق أليشع بإيليا، وراعوث بنعمي.  ولقد اُختتمت حياته بطريقة مجيدة، فقد أُخذ فجأة.  ونحن المسيحيين ننتظر ذات المستقبل المجيد.
والآن أُريد أن ننظر سويًا في ثلاثة وجوه لحياة أخنوخ نتجت عن سيره مع الله:
أولاً: من جهة أنفسنا: نتعلَّم من أخنوخ أن بمقدورنا السير في شركة سارة مع الله، وشركة حلوة مع ابنه، وسنتبارك بحضور الرب بينما ننتظر رجوعه من السماء، ليأخذنا إليه، ويقبلنا في مجده (1تس1: 9، 10؛ 4: 15، 18).  نعم لدينا هذا الرجاء المبارك أننا لا نرى الموت، ولكن نُختطف من الأرض في لحظة في طرفة عين، لنقابل الرب في الهواء (1كو15: 52).
وتأتي نهاية حياة أخنوخ في تكوين5 على النقيض من نهاية الآخرين الذين تكرر عنهم القول مرارًا: «وَمَاتَ».  وعلى هذا المنوال، سنكون نحن استثناءً عظيمًا في هذا العالم الذي لا يزال خاضعًا للموت والفساد.
نحن الأحياء الباقون ننتظر مجيء الرب، ولن نرى الموت، لكن سنُخطف لنقابل الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين معه.  وحينئذٍ سيُباركنا في حضرته.  وبينما نحن نسير معه خلال البرية المُجدبة، نقوم بدورنا ككهنة في حضرته في القدس (تث10: 8)، ونتكئ في حضن يسوع مثل يوحنا في العلية (يو13: 23).
ثانيًا: سيرنا مع الرب: كم سيكون هذا مُلّذًا له، لأنه سيكون وفق مشيئته وأفكاره! وبهذه الطريقة سيجد الله عمليًا مسرته الصالحة في بنيه (أف1: 5).  والمسيح ذاته هو مثالنا الأعظم في هذا الصدد، لأن الله وجد سروره التام فيه (مت3: 17).  وفي الترجمة السبعينية، والمُقتبسة في عبرانيين11 تُرجمت الكلمات المُعبّرة عن سير أخنوخ مع الله أنه «قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عب11: 5).
وتتضاد حياة أخنوخ بشدة مع حياة نسل قايين، الذي خرج من محضر الرب، ورفض السير مع الله (تك4: 16، 17).  هذا وإن أهم ملمح يُميز حياة السير مع الله هو الإيمان، لأنه «بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ» (عب11: 6).  لقد تبررنا بالإيمان، وبه أصبح لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح (رو5: 1)، ولكن علينا كمسيحيين أن نستمر في العيشة بالإيمان، لأن “الْبَارُّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا”، لا بالعيان (2كو5: 7؛ عب10: 38).
ثالثًا: سنكون شهودًا أمام هذا العالم؛ أعني مِن جهة أمور عتيدة، عن الدينونة المزمع أن تنصب على العالم.  وكذلك أمام العالم الديني؛ أي المسيحية الاسمية (يه14، 15).  علينا أن نُحذِّر العالم من خلال التبشير بالإنجيل، عالمين مخافة (رعب) الرب (2كو5: 11).
ونحن الذين نعيش عصر النهاية علينا أن نعلن بوضوح ما ينتظر هذا العالم، تمامًا كما تنبأ، منذ قرون عديدة، «أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ، لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمُِ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ» (يه14، 15).  فالرب قد أوشك على المجيء، ليُجري دينونة على الكل: كل رافضي الإيمان، والعالم المتمرد، والمسيحية المرتدة.  حينئذٍ يرسي البر الحقيقي، والسلام والسعادة على الأرض.
دعونا إذًا نسير مع الله، بينما ننتظر ابنه من السماء، شاهدين لاسمه في عالم شرير.

هـوجو بوتر