أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
تعجبنا كلنا رحلة الابن المُسرف التي قام بها من الكورة البعيدة، أرض مذلته وتعاسته، متجهًا إلى بيت أبيه (لو15)، لأنها صورة مؤثرة لرجوع الخاطئ التائب، تحت عمل وإرشاد الروح القدس، إلى الله. على أنه توجد في الإنجيل رحلة أخرى تختلف عن رحلة الابن المُسرف اختلافًا كُليًا، أو بالحري تتناسب معها تناسبًا تبادليًا مَحضًا. ونعني بها رحلة ذاك المجيد الذي أتى من السماء، من عند الآب، متجهًا إلى الكورة البعيدة. مفتشًا عن ضالته في عالم الخطاة. إنه ـ تبارك اسمه ـ هو الذي نراه قائمًا بتلك الرحلة الثانية، فنراه يذهب إلى السامرة النجسة، التي هي صورة لهذا العالم المرفوض، إذ إنها كانت كالأبرص، منفصلة انفصالاً كاملاً عن أرض البر والقداسة، ومُعتَبرة
 
 
عدد أبريل السنة 2008
لماذا جدعون بالذات
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

تُرى لماذا استخدم الرب جدعون من بين آلاف الشباب المعاصر له ليخلِّص الشعب من كف مديان؟ ولماذا لم يختر غيره؟
لا شك أن أي مؤمن حقيقي يتمنى أن يكون ذا نفع للرب ولقطيعه.  ولكن من هو ذلك الشخص الذي ينتقيه الرب من بين مجموعة المؤمنين لكي يكون إناءً نافعًا له؟ لماذا يختار الرب بعضًا من المؤمنين ليأتمنهم على خدمته دون الآخرين؟
إذا كنت تريد أن تكون أنت ذلك الإناء النافع للسيد، ولا تريد أن تنقضي حياتك دون أن تخدم الرب وتكرمه، فتأمل معي قصة جدعون كما وردت في قضاة 6.

نقرأ: «وعمل بنو إسرائيل الشرَّ في عيني الرب، فدفعَهُمُ الربُّ لِيَدِ مديان سَبعَ سِنِينَ» (قض6: 1)
كان المديانيون ذوي قرابة لإسرائيل لأنهم نسل قطورة زوجة إبراهيم الثانية.  وفي العديد من المرات كان هناك احتكاك بينهم وبين إسرائيل.  وفي سفر العدد25: 16 نسمع قول الرب لموسى، وهو زوج صفورة ابنة كاهن مديان: «ضَايِقُوا المديانيين واضرِبُوهُم، لأنهم ضَايقُوكُم بمكايدهم التي كَادُوكُم بها».

والآن المديانيون هم داخل الأرض، داخلها دون العبور بالأردن خلف التابوت.  وها هم يضايقون الشعب بشدة «فَذَلَّ إسرائيل جدًا من قِبَلِ المديانيين. وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب» (قض6: 6).  وكان لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بسبب المديانيين، أن الرب – في رحمته - أرسل لهم نبيًا ليستحضر ضمائرهم المثقلة بالخطية أمام الله (قض6: 7-10)، ثم أرسل مَلاَكُه ليفرز له مُخلِّصًا من بين الشعب (قض6: 11).

ولكن لماذا جدعون بالذات؟ ولماذا ليس غيره؟
دعونا نتأمل هذا الشخص البسيط ومؤهلاته:
أولاً: كان يخبط حنطة.  وماذا يعني خبط الحنطة؟ يعني التغذي على المسيح، والشبع به، والاعتشار بشخصه الكريم.  إن الرغبة المخلصة في الخدمة لا تكفي، بل لا بد أن يكون هناك اختبار قلبي، وشبع حقيقي بشخصه الكريم.  لا بد أن تكون هناك الشركة الحلوة، والصلة الحميمة مع شخص الرب.  إنه حبة الحنطة (يو12: 24)، وهو أيضًا خبز الحياة (يو6: 35)، ولذا فهو شبعنا، وهو كفايتنا.

إن الشركة في الخفاء، من وراء الستار، وبعيدًا عن أعين الناس، هي ينبوع كل المؤهلات الأخرى للخدمة.  هكذا كان يوسف في السجن بعيدًا عن الكل، منفردًا مع الله.  وهكذا كان موسى في البرية، وبولس في العربية، وآخرون لا نعرفهم كان لا بد لهم أن يجتازوا هذا الاختبار.  فهناك في خلوتي مع الله، وبعيدًا عن أعين الناس، منفردًا مع الله وحده، أتعلم هذا الدرس: أتعلم أنه ليس ساكنٌ فيَّ، أي في جسدي، شيءٌ صالح (رو7: 18)، وأتعلم أن الله هو كل كفايتي، ولي فيه وحده ملء البركة والنعمة والغنى.  ولن أكون أبدًا إناءً مناسبًا لاستخدام السيد، ما لم أتعلم هذا الدرس الهام.

وأكثر من هذا إنني عندما أتغذى على المسيح في الخفاء، فلست فقط أتعلم هذا الدرس، ولكنني أستمد القوة اللازمة للخدمة متأثرًا بجمال وروعة وحلاوة المسيح الذي تغذيت عليه وشبعت به. 

إن التغذي على المسيح في الخفاء هو الإحتياج الدائم والمستمر لأرواحنا.
ثانيًا: القلب المُتدرّب: «فظهر له ملاك الرب وقال له: الرب معك ياجبار البأس. فقال له جدعون: أسألك يا سيدي، إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين: ألم يصعدنا الرب من مصر؟ والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان» (قض6: 12, 13). 

ونقصد بالقلب المتدرب هو أن يتحد الشخص نفسه بشعب الرب، أن يحمل أثقالهم، ويشعر بمشاعرهم، ويحسّ بذلهم وانكسارهم وجوعهم.  كانت الحنطة متوفرة لدى جدعون، ولكنه كان يشعر بما يشعر به شعبه، ولم يفصل نفسه عنهم.  واسمعه يقول: «لماذا أصابتنا كل هذه؟» (قض6: 13).  هكذا كان الحال مع نحميا (نح1)، ودانيآل (دا 9)، بل وبالأولى كان هذا هو حال ربنا المعبود في أيام جسده؛ فعندما رأى الأصم الأعقد، وقبل أن يشفيه، أنّ في نفسه، ثم شفاه قائلاً له: «إفَّثَا» (مر7: 31-35).  وقبلما أقام لعازر بكى يسوع، وأنّ في قلبه (يو11: 35).  وفي متى 8: 17 نقرأ «هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا». لقد كان – تبارك اسمه- يئن ويتوجع بسبب أسقامنا وأمراضنا.  وفي الصليب نرى أروع مثل لهذه الحقيقة، عندما حمل هو في جسده خطايانا على الخشبة.

وهكذا يظل هذا المبدأ قائمًا: أنه بمقدار شعورنا باحتياج الآخرين، تكون قوتنا لخدمتهم.  وبمقدار ما ننوح على حالتهم المحزنة بمقدار مانمد لهم يد المعونة.

ولهذا فبمجرد أن كشف جدعون حالة قلبه وتدريباته أمام الله، حتى قال له الرب: «اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان.  أما أرسلتك؟» (قض6: 14)

ثالثًا: والآن نأتي إلى المؤهل الثالث والهام جدًا؛ ألا وهو الشعور بعدم شيئيتنا.  فنرى جدعون يسأل هذا السؤال: «أسألُك يا سَيِّدِي، بماذا أُخلِّصُ إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذُّلَّى في منسَّى، وأنا الأصغرُ في بيتِ أبي» (قض6: 14).
هنا نرى جدعون في ذلك المركز والوضع الذي تستقر عليه كل قوة الله ونعمته، وهو عين المركز الذي وصل إليه الرسول بولس بعد الشوكة التي أُعطيت له في الجسد.  إن أعظم مكان للقوة هو ذلك الوادي؛ وادي الإتضاع، حيث يبحث الإنسان في داخله وفي إمكانياته فلا يجد شيئًا يستند عليه على الإطلاق، وعندئذٍ يختبر القول الرائع: «تكفيك نعمتي، لأن قوَّتي في الضعف تُكمَلُ» (2كو12: 9)، فيتحول المؤمن بعيدًا عن نفسه وعن إمكانياته وعن معوناته الخارجية، ليعرف أن كفايته هي من الله (2كو3: 5)، فيكون السؤال الذي يشغله ليس: “من هم المديانيون؟” ، ولكن “من هو الله”. ولهذا فقد قال له الله: «إني أكون معك، وستضرب المديانيين كَرَجُلٍ واحدٍ» (قض6: 16).

رابعًا: أما المؤهل الرابع فهو السلام؛ سلام الله، وسلام مع الله.  فعندما خاف جدعون إذ رأى ملاك الرب وجهًا لوجه، جاءه هذا التأكيد الرائع والمؤهل الحلو للخدمة، وهو قول الرب له: «السلام لك لا تخف. لا تموت».  (قض6: 23). 

ولا يمكن أن تكون هناك خدمة حلوة وفعالة في غياب السلام والإطمئنان اللذين يملآن القلب.  لذلك فعندما كان التلاميذ خائفين والأبواب مُغَلَّقَةً، جاءهم الرب بهذه العبارة الحلوة «سلامٌ لكم!»، ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه، ثم قال لهم الرب أيضًا: «سلامٌ لكم! كما أرسلني الآب أُرسلُكُم أنا» (يو20: 19-23).  وهنا نرى الارتباط الوثيق بين السلام والخدمة.

خامسًا: ثم نأتي مباشرة بعد السلام إلى المؤهل الخامس والمرتبط ارتباطًا كبيرًا بالسلام، ألا وهو السجود.  «فبنى جدعون هناك مذبحًا للرب» (قض6: 24).  ولايمكن أن يكون هناك سجود حقيقي بدون السلام: سلام مع الله، وسلام الله.  ولا يمكن أن تكون هناك خدمة حقيقية بدون السجود.  خدمة بدون سجود هي خدمة غير معبرة عن ذلك الشخص المخدوم.  هي خدمة مستمدة مادتها من الجسد ليس إلا، ومهما حاولنا تجميلها، فهي أبدًا لن تكون فعالة. 

ليتنا نتحذر من اندفاعنا إلى خدمة غير مؤسسة ومدعمة بسجود حقيقي.

سادسًا: ثم الطاعة.. الطاعة الكاملة والخضوع التام لقول الرب، فقد جاء وقت استخدام جدعون، ولكن كان يجب أن يبدأ ببيت أبيه، ولم يكن هذا بالأمر الهين على جدعون. 

«وكان في تلك الليلة أن الرب قال له: خذ ثور البقر الذي لأبيك، وثورًا ثانيًا ابن سبعِ سنين، واهدم مذبح البعل الذي لأبيك، واقطع السارية التي عنده» (قض6: 25). 

كان هذا، وما زال، هو مبدأ الله: ابدأ بنفسك ومن بيتك أولاً.  كان الشر مرتبطًا ببيت أبيه، ولذلك كان يجب أن يطهِّر البيت أولاً.  هل تظن أن الله يستخدمك وقلبك ليس كاملاً أمام الله.  لا، لا يمكن.  فالطاعة هنا أمر ضروري، والخضوع أمر واجب، والبداية من النفس ومن البيت. 

إن الطاعة والخضوع لله هما الدرع الواقي من كل سهام العدو.  وهكذا كان الأمر مع جدعون.  كان يجب أن يطيع وأن يطهر بت أبيه من الأوثان قبل أن يستخدمه الله ذلك الإستخدام البطولي الرائع. 

كم من المرات بكينا ونحنا بسبب ضعف الشهادة وانعدام القوة، وتناسينا أن نفحص قلوبنا ونحكم في خضوع كامل على كل شر وكبرياء وعناد فينا.  لقد هاجم الشيطان الرب في البرية، ولكن الرب أظهر خضوعًا كاملاً للكلمة.  فكانت الإجابة دائمًا هي ”مكتوب“.  وهكذا دُحر الشيطان وهُزم تمامًا. 

«وعمل (جدعون) كما كلَّمه الرب» (قض6: 27).  كان هذا مؤهلاً قويًا لاستخدام الرب له، وهزيمة أتباع البعل.  فمقاومة الشيطان بالطاعة للرب تعني هزيمة الشيطان المؤكدة.

سابعًا: الآن أصبح جدعون إناءً مقدسًا نافعًا للسيد، وهنا نرى إكليل المؤهلات كلها، إنه القوة التي يمنحها الله. 
فما أن أصبح الإناء مُعدًا حتى نقرأ القول: «ولبس روح الرب جدعون فضرب بالبوق، فاجتمع أبيعزر وراءه» (قض6: 34).  الشيطان لا يَهزم الله أبدًا. عندما كان الله يعد جدعون للعمل، كف المديانيون عن غاراتهم، وعندما تم إعداد جدعون جمعهم الله لإهلاكهم.  لقد صفوا الجيوش لمحاربة إسرائيل، فلبس روح الرب جدعون، والآن فإن الله نفسه يواجههم.

آه يا إخوتي الأحباء، ليتنا نتحذر من مواجهة العدو بدون روح الرب.

وهناك ملاحظة أخرى: بمجرد أن لبس روح الرب جدعون حتى ضرب بالبوق.  هذا – جدعون – الذي كان يتوارى ليخبط حنطة في المعصرة، ليهربها من المديانيين، نراه الآن واضعًا البوق في فمه، مبوقًا في شجاعة وتحدٍ للمديانيين، تمامًا كما تحول بطرس – الخائف أمام جارية– إلى ذلك الشخص الجريء الذي  يتكلم في وجه رؤساء الشعب، متهمًا إياهم - بشجاعةٍ نادرة - بقتل المسيح (أع3: 13-15).  ونقرأ أن الرسل الذين امتلأوا بالروح القدسن كانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرةٍ (أع4: 31).

ليت كل من يريد أن يخدم الرب ويشهد له يتزود بهذه المؤهلات السبعة اللازمة للخدمة خاصة في هذه الأيام الأخيرة.

إدوارد دينيت