أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2018
الإفلاس الروح
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«انْقَطَعَتِ التَّقْدِمَةُ وَالسَّكِيبُ عَنْ بَيْتِ الرَّبِّ. نَاحَتِ الْكَهَنَةُ خُدَّامُ الرَّبِّ. تَلِفَ الْحَقْلُ، نَاحَتِ الأَرْضُ لأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ الْقَمْحُ، جَفَّ الْمِسْطَارُ، ذَبُلَ الزَّيْتُ. خَجِلَ الْفَلاَّحُونَ، وَلْوَلَ الْكَرَّامُونَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَعَلَى الشَّعِيرِ، لأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ حَصِيدُ الْحَقْلِ. اَلْجَفْنَةُ يَبِسَتْ، وَالتِّينَةُ ذَبُلَتْ. الرُّمَّانَةُ وَالنَّخْلَةُوَالتُّفَّاحَةُ، كُلُّ أَشْجَارِ الْحَقْلِ يَبِسَتْ. إِنَّهُ قَدْ يَبِسَتِ الْبَهْجَةُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ» (يؤ ١: ٩-١٢)

في يوئيل ١: ٩-١٢ نرى صورة للشعب وهو تحت القصاص، يجني حصاده المرير نتيجة لزيغانه عن الرب، وغياب البركة التي وعدهم بها الرب لو أنهم قد سمعوا لقوله. فحين لا يكون الرب راضيًا فالنتيجة الحتمية هو الإفلاس والبؤس. لم يكن هذا هو ما قصده الرب لهم؛ لقد أعطاهم الرب أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً، لكن - بسبب عصيانهم له - حرموا أنفسهم من خير الأرض «وَثَمَرَة أَرْضِكَ: قَمْحَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ» (تث ٧: ١٣). لكننا هنا نرى صورة معاكسة «لأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ الْقَمْحُ، جَفَّ الْمِسْطَارُ، ذَبُلَ الزَّيْتُ!» (يؤ ١: ١٠).

في سفر هوشع نرى الرب يُذكّر شعبه بإحسانه إليهم بإعطائهم ثمر الأرض لكنهم خانوه خيانة «وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ أَنِّي أَنَا أَعْطَيْتُهَا الْقَمْحَ وَالْمِسْطَارَ وَالزَّيْتَ» (هو ٢: ٨). بينما وعدهم الرب أنه سيُبرىء أرضهم بعد رجوعهم إليه في المستقبل «وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنِّي أَسْتَجِيبُ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَسْتَجِيبُ السَّمَاوَاتِ وَهِيَ تَسْتَجِيبُ الأَرْضَ، وَالأَرْضُ تَسْتَجِيبُ الْقَمْحَ وَالْمِسْطَارَ وَالزَّيْتَ» (هو ٢: ٢١)، «وَيَجْرُونَ إِلَى جُودِ الرَّبِّ عَلَى الْحِنْطَةِ وَعَلَى الْخَمْرِ وَعَلَى الزَّيْتِ وَعَلَى أَبْنَاءِ الْغَنَمِ وَالْبَقَر. وَتَكُونُ نَفْسُهُمْ كَجَنَّةٍ رَيَّا» (أر ٣١: ١٢).

ولكن في يؤئيل ١: ٩-١٢ نجد هذه الصورة الحزينة الرمزية التي تصف بصورة بليغة وموجزة حالة الضعف التي يمر بها المؤمن، عندما يسلك في عناده وتيهانه بعيدًا عن سَيِّده، فيضع نفسه تحت نير عبودية لسَيِّد آخر، ويكون حينذاك كأنه في حالة سبي. وفي هذه الحالة يكون هناك خسارة مزدوجة: جوع وجفاف في حياة الفرد، وتراجع وانطفاء في الشهادة الجماعية لله، لخصهما يوئيل في سؤالين متتاليين في آية واحدة «أمَا انْقَطَعَ الطَّعَامُ تُجَاهَ عُيُونِنَا؟ الْفَرَحُ وَالابْتِهَاجُ عَنْ بَيْتِ إِلهِنَا؟» (يؤ ١: ١٦).

يا لها من خسارة فادحة! فالأمر لا يقتصر على حالة الفراغ والإفلاس الروحي والبؤس النفسي على المستوى الفردي، لكن الخسارة الأعظم تتعلق بمجد الله وحالة الجماعة. هل نتصور ما تعنيه هذه الكلمات الصعبة: “انقطاع الفرح عن بيت إلهنا”؟ هذا معناه انقطاع كل ما يجلب السرور لقلب الرب، وبالتبعية حرمان العابدين من هذا الفرح المجيد الذي يُميز حضور الرب. هل سبق وشعرنا بالكدر في ذات المكان الذي طالما ابتهجت فيه قلوبنا؟ ألا يقودنا هذا الحال أن نفحص أنفسنا أمام الرب باتضاع وقلب منكسر؟

تقدم هذه المحاصيل الثلاثة مؤشر دقيق لحالة الشعب بالارتباط بالله والناس. لقد وبخ نحميا اليهود الذين في أورشليم، الراجعين من السبي الذين أقرضوا إخوتهم بالربا فقال لهم: «رُدُّوا لَهُمْ هذَا الْيَوْمَ حُقُولَهُمْ وَكُرُومَهُمْ وَزَيْتُونَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ، وَالْجُزْءَ مِنْ مِئَةِ الْفِضَّةِ وَالْقَمْحِ وَالْخَمْرِ وَالزَّيْتِ الَّذِي تَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ رِبًا» (نح ٥: ١١). واضح أن العناصر الضرورية لحياة الإنسان ممثلة في هذه المحاصيل الثلاثة (قارن رؤيا ٦: ٦).

وقد تعلَّم الشعب بعد رجوعه أن يُكرم الرب ويُطيع وصاياه فقرروا أن يُقدّموا للرب باكورة حصيدهم، من أجل تقدمة الرب الدائمة، وخبز الوجوه «لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي لاَوِي يَأْتُونَ بِرَفِيعَةِ الْقَمْحِ وَالْخَمْرِ وَالزَّيْتِ إِلَى الْمَخَادِعِ» (نح ١٠: ٣٩ قارن ٢أخ ٣١: ٥؛ عز ٦: ٩، ١٠).

وهذه المحاصيل مرتبطة بالله والناس إذ أنها لا تُستخدم لإطعام الشعب فقط، ولكنها أيضًا تُستخدم لإكرام الرب، وهذا ما نتعلَّمه من المثل الذي قاله يوثام بن جدعون عن موقف الكرمة والزيتونة، كيف أن دهن الزيتونة يُكرَّم به الله والناس، كما أن مسطار الكرمة يُفرح الله والناس (قض ٩: ٩، ١٣). كما نعرف أن المسيح يُرمز إليه بِحبَّة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت لكي تأتي بالثمر الكثير (يو ١٢: ٢٤)، ودسم لُبّ الحنطة أيضًا يُشبع ويُفرح الله والناس (تث ٣٢: ١٤).

فزيت الزيتونة يُكرَّم به الله والناس: وعندما نأتي بالروح ككهنة، فنحن نُكرم الرب بتقدمات سجودنا.

ومسطار الكرمة يُفرح الله والناس: عندما نستقي الفرح والهنا من ذات النبع الذي يستقي منه إلهَنَا.

وأيضًا دسم الحنطة يشبع الله والناس: عندما نُطعَم على شخص المسيح؛ ذات طعام الله الذي يشبع به دائمًا.

مؤشرات الضعف على مستوى الجماعة:

(١) ضعف السجود والعبادة: «انْقَطَعَتِ التَّقْدِمَةُ وَالسَّكِيبُ عَنْ بَيْتِ الرَّبِّ»، والنتيجة «نَاحَتِ الْكَهَنَةُ خُدَّامُ الرَّبِّ» (ع٩).

(٢) ضعف وتلف الشهادة: «تَلِفَ الْحَقْلُ، نَاحَتِ الأَرْضُ لأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ الْقَمْحُ، جَفَّ الْمِسْطَارُ، ذَبُلَ الزَّيْتُ»، والنتيجة «خَجِلَ الْفَلاَّحُونَ. وَلْوَلَ الْكَرَّامُونَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَعَلَى الشَّعِيرِ لأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ حَصِيدُ الْحَقْلِ» (يؤ ١: ١٠، ١١).

(٣) ضعف وجفاف الشركة: «اَلْجَفْنَةُ يَبِسَتْ وَالتِّينَةُ ذَبُلَتْ. الرُّمَّانَةُ وَالنَّخْلَةُ وَالتُّفَّاحَةُ كُلُّ أَشْجَارِ الْحَقْلِ يَبِسَتْ»، والنتيجة «إِنَّهُ قَدْ يَبِسَتِ الْبَهْجَةُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ» (ع١٢).

مؤشرات الضعف على مستوى العلاقة الشخصية للمؤمن الفرد بالرب:

«تَلِفَ الْقَمْحُ» معناه:

  • فقد الشهية لكلمة الله، وهجر المخدع، وحلول الهزال.
  • غياب حياة المسيح (الدقيق الأبيض) عن عيون المؤمن، وهو أساس التقدمة، وقلب السجود.
  • تشوه صورة الرب بسبب جلب العار على اسم الرب، وإعثار الآخرين.
  • الشعور بالفراغ، ومحاولة سد الجوع بطعام العالم الذي لا يُشبع.
  • تعب ونشاط في الخدمة وإلقاء بذار لكن بدون إثمار لغياب التقوى.

    «جَفَّ الْمِسْطَارُ» معناه:

  • حزن الروح القدس بسبب وجود خطية.
  • انقطاع الفرح المقدس عمومًا، والتلهف على مصادر السعادة الوقتية.
  • عدم القدرة على الترنيم والتسبيح وسط الجماعة أو حتى فرديًا.
  • غياب ابتسامة وجه الرب التي تملأ القلب سرورًا في الحياة.
  • عدم التمتع بحلاوة الشركة مع المؤمنين، أو التعزية بالايمان المشترك.

    «ذَبُلَ الزَّيْتُ» معناه:

  • إطفاء الروح القدس بسبب عدم الطاعة.
  • عدم القدرة على الصلاة.
  • غياب النور والتخبط في القرارات والتوجهات.
  • عدم تقديم سجود بحرارة الروح وبقوة الروح.
  • العجز عن الشهادة القوية المؤثرة.

    وضعف جانب من جوانب حياة الإيمان يكون له تأثيره المباشر على الجانب الآخر؛ ”فتَلِف الْقَمْح“ يؤدي الى ”جَفَاف الْمِسْطَار“ ثم ”ذَبُولَ الزَّيْتُ“. فبدون التغذي على الكلمة يغيب الفرح «وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي» (إر ١٥: ١٦)، وغياب الفرح يؤدى بدوره لغياب القوة «لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ» (نح ٨: ١٠).

    وهل يمكن أن يتغير هذا الوضع وتشفى الأرض وتعود للإثمار وتجود بالقمح والزيتون والمسطار؟ نعم، بالرجوع القلبي إلى الرب باتضاع حقيقي «فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ» (٢أخ ٧: ١٤).

    وكيف يرجع الشعب عن طرقه الرديئة ويطلب الرب باتضاع إن لم يرجعوا كأفراد أولاً؟! إن كل النهضات التي نقرأ عنها في كلمة الله التي رجع فيها الشعب كجماعة بدأت برجوع أفراد أمناء شعروا بالحالة؛ أتقياء مُفكّرين في اسمه. أولئك الأمناء لم يهنأ لهم نوم بعد ان نُخسوا في قلوبهم بتوبيخ مباشر من أقوال الله، كما حدث في أيام ملاخي النبي، فكلَّم كل واحد قريبه. فالأتقياء يلتقون وموضوع حديثهم هو اعتبارات مجد إلههم.

    النهضة الحقيقية تبدأ بأفراد توَّجعوا بسبب زوال المجد، وحرمانهم من حضور الرب ورؤية محياه البسام في وجوههم. بالنسبة للمؤمن الأمين فالعذاب بعينه ليس في آلام الجسد ولا سهام المضطهد، بل في غياب المجد.

    التغيير يحدث عندما ندرك حقيقة الحالة ونتوب باتضاع حقيقي أمام الرب.

    والطامة الكبرى التي تبتلى بها جماعة إن فقدت هذا النوع من الوجع العميق وعدم الرضا على الحالة، بسبب اعتيادهم على الضعف واعتبارهم أن الهزال والسطحية من سمات هذه الأيام، فيقبلون الوضع ويستمروا في “الروتين القاتل” الذي يضيف إلى حالة الفتور - يومًا بعد يوم - بلادة وبؤسًا، فتخرج الصلوات جامدة كالثلج وجافة كالحطب، وتُفرغ العبارات من قوتها وتأثيرها، مما يجعل روح العبادة باردة وعليلة، والخدمة عقيمة وثقيلة، وبلا ثمر!

    إن كل النهضات سبقتها صرخات وصيحات للنهوض بعد إدراك حقيقي لسوء الحال، فقرر بعض الأمناء أن يرجعوا للرب من كل القلب، فسكبوا قلوبهم بانكسار وتذلل كثير أمام الرب؛ كلَّموا إخوتهم باتضاع لكي تنهض الجماعة كلها. هكذا فعل صموئيل ويوشيا وعزرا ونحميا.

    فما أحوجنا إلى الحواس المُدرَّبة التي تُميز حالتنا، فنرجع إلى الرب بقلوب متضعة ونفوس ضارعة، فتتولد فينا الغيرة المقدسة أن نقف في صف الرب ضد كل أمر لا يتفق مع اعتبارات مجده، ونحكم على الشر بلا هوادة، ونرفض حياة الفتور والبلادة، ونطالب الرب بمواعيده. حينئذ يعود ويحيينا فننهض، ويُبرئ أرضنا فنُثمر له، نقترب منه فنشبع ونبتهج فنسجد، ثم نخرج لنشهد.

أيمن يوسف