أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
يتكلَّم الكتاب المقدس عن ثلاث مراحل للعالم. ومن المعروف أن كلمة “العالم” ترد في الكتاب المقدس بمعانٍ مختلفة يُمكن فهم كلٌّ منها بسهولة من القرينة. فأحيانا تعني “الكَوْن”، أي الخليقة، كما جاء في عبرانيين ١١: ٣ «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ»، وفي قوله عن المسيح: «الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ» (عب١: ٢). وأحيانًا تعني الجنس البشري، كما جاء في الآية الشهيرة: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦). وأحيانًا تعني أسلوب ونظام هذا العالم ومبادئه، أي الجنس البشري في موقفه إزاء الله وإزاء الوجود على هذه الأرض. هذا هو “العالم” الذي يقول عنه الرسول يوحنا: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ... لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ» (١يو٢: ١٥، ١٦). وهذا الموضوع يتعلَّق بتاريخ الإنسان على هذه الأرض، كما يراه الله وليس كما يراه المؤرخون البشر. بخصوص هذا العالم، أي تاريخ الإنسان على الأرض، يتكلم كتاب الله المقدس عن ثلاث مراحل: أولاً: عالم ما قبل الطوفان: يقول عنه الرسول بطرس: «اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦). ثانيًا: العالم الكائن الآن: أي منذ الطوفان، وإلى أن يأتي المسيح ليملك على هذه الأرض. وهو العالم الذي يصفه الوحي المقدس بأنه «الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ» (غل١: ٤). ثالثًا: العالم الآتي: يقول عنه الكتاب: «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ الْعَالَمَ الْعَتِيدَ (في المستقبل) الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ» (عب٢: ٥). ويُخبرنا أنه سيُخْضَع ليسوع الذي «نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ» (ع٩). وهذا العالم العتيد يبدأ بمجيء المسيح الثاني ليملك كملك الملوك ورب الأرباب، وينتهي بالقضاء النهائي على الشر، وطرح إبليس في جهنم النار ودينونة العرش العظيم الأبيض، ثم الحالة الأبدية. أما بخصوص العالم الماضي، أو العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان، وهو العالم الذي «فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦)، فقد ابتدأ تاريخ ذلك العالم بآدم وحواء اللذين بهما «دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو٥: ١٢). ووُلِد لآدم وحواء ابن اسمه قايين وآخر اسمه هابيل «وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ» (تك٤: ٨). من ذلك نرى أن العالم الذي هلك بالطوفان اتصف بالعصيان والإجرام من أوله. وازداد الشر جدًا، «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ» (تك٦: ٥، ٦). إن الله ليس إلهًا لا يُبالي. فهو خلق الإنسان على صورته وكشبهه. ولكن الخطية شوّهت هذه الصورة. وبعد أن كان الرب قد سلَّط الإنسان على الأرض والبحر، أصبح الإنسان غير صالح لهذا الأمر، وغير نافع «فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ» (تك٦: ٧). ومع ذلك فإن الله لم يهلكه في الحال، بل أعطى الإنسان مدة ١٢٠ سنة كان فيها نوح، الذي وجد نعمة في عيني الرب، يكرز للناس وينذرهم. ولكن للأسف لم ينجُ إلاّ ثمانية أشخاص. ولمدة ١٢٠ سنة كان نوح «كَارِزًا لِلْبِرِّ» (٢بط٢: ٥). ولكن ماذا كان الناس يعملون؟ «كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ» (مت٢٤: ٣٨، ٣٩). بعض صفات العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان؛ أولاً: اتصف ذلك الدهر بطول الأعمار كما هو واضح في تكوين ٥. إذ كانوا يعيشون مئات السنين، فعاش بعضهم ٨٠٠ أو ٩٠٠ سنة أو أكثر. وقد يندهش البعض من هذا، ولكنه كان أمراً لازمًا لسببين على الأقل: السبب الأول هو لتتميم الهدف الإلهي أن يُثمروا ويكثرُوا ويملأُوا الأرض (تك١: ٢٨). وعلَّق البعض على هذا بالقول: إن هذه هي الوصية الوحيدة التي أطاعها الإنسان، فلم يكونوا فقط طوال الأعمار، ولكنهم ولدوا بنين وبنات خلال مئات السنين التي عاشها كلٌّ منهم كما يخبرنا في تكوين ٥. والسبب الآخر الذي من أجله أعطاهم الله الأعمار الطويلة هو لكي تنتقل الشهادة شفويًا من جيل لآخر، أي لكي يشهد الجيل الأول مرارًا كثيرة - خلال السنين الطويلة التي عاشوها - بما رأوه وسمعوه للأجيال التي تليه. فمثلاً، كان متوشالح مُعاصرًا لآدم حوالي ٢٠٠ سنة، كما كان معاصرًا لسام ابن نوح لحوالي ١٠٠ سنة. ومات متوشالح قبل الطوفان مباشرة، أما سام فعاش بعد الطوفان ٥٠٠ سنة (تك١١: ١١)، وكان معاصرًا لإبراهيم خليل الله طوال حياة إبراهيم (تك١١: ١٠-٢٦). ولهذا كله أهمية واضحة، إذ لم يكن عندهم وحيٌ مُدوَّن، أي لم يكن أي جزء من الكتاب المقدس قد كُتب بعد، فكانت الشهادة الشفوية بواسطة شهود عيان لازمة جدًا. لذلك نجد في الآثار قصة الطوفان عند شعوب وثنية، ولعل أشهرها ما جاء في الآثار البابلية، إذ فيها شَبَهٌ كبير للحقيقة مع بعض التشويش. ثانيًا: لم يكن ذلك العصر بدون حضارة كما يظن البعض. فبعد أن طُرد قايين من وجه الرب وصار «تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ» (تك٤: ١٤)، أنجب ابنًا اسمه “حَنُوكَ” «وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ» (تك٤: ١٧). وبناء مدينة هو لا شك لازم للحضارة. وجاء من سلالته من قاموا بالنجارة والصناعة والموسيقى (تك٤: ٢٠-٢٢). ثالثًا: جاء تعدد الزوجات بواسطة “لاَمَك” الذي من نسل قايين، وازداد الشر إلى أن بلغ أقصى حدوده في أيام نوح، حتى قرر الله أن يُرسل الطوفان ليُهلك الأشرار، ولكن ذلك العالم اتصف بعدم المبالاة كما ذكرنا. وكان الأجدر بالجنس البشري، أن يجد في الطوفان عِبرة، ولكن للأسف الشديد دخلت الخطية مرة أخرى بعد الطوفان مباشرة. وتجاهل الناس حادثة الطوفان أو تناسوها، أو أنكروا حقيقتها. فكانت النتيجة ما نراه في عالمنا الحاضر الشرير.
 
 
عدد نوفمبر السنة 2021
أعمدة يعقوب الأربعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

عمود يعقوب الثالث: عمود الثقة في الله الحي

ثُمَّ قَالَ اللهُ لِيَعْقُوبَ: قُمِ اصْعَدْ الَى بَيْتَ ايلَ وَاقِمْ هُنَاكَ وَاصْنَعْ هُنَاكَ مَذْبَحا لِلَّهِ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ حِينَ هَرَبْتَ مِنْ وَجْهِ عِيسُو اخِيكَ.فَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَيْتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ: «اعْزِلُوا الْالِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَابْدِلُوا ثِيَابَكُمْ. وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ الَى بَيْتِ ايلَ فَاصْنَعَ هُنَاكَ مَذْبَحا لِلَّهِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِي فِي يَوْمِ ضِيقَتِي وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبْتُ فِيهِ».فَأعْطُوا يَعْقُوبَ كُلَّ الْالِهَةِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي ايْدِيهِمْ وَالاقْرَاطَ الَّتِي فِي اذَانِهِمْ فَطَمَرَهَا يَعْقُوبُ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي عِنْدَ شَكِيمَ.

ثُمَّ رَحَلُوا. وَكَانَ خَوْفُ اللهِ عَلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَهُمْ فَلَمْ يَسْعُوا وَرَاءَ بَنِي يَعْقُوبَ.فَأتَى يَعْقُوبُ إلَى لُوزَ الَّتِي فِي أرْضِ كَنْعَانَ (وَهِيَ بَيْتُ ايلَ) هُوَ وَجَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَعَهُ.وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا وَدَعَا الْمَكَانَ «إيلَ بَيْتِ إيلَ» لأنَّهُ هُنَاكَ ظَهَرَ لَهُ اللهُ حِينَ هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أخِيهِ.وَمَاتَتْ دَبُورَةُ مُرْضِعَةُ رِفْقَةَ وَدُفِنَتْ تَحْتَ بَيْتَ إيلَ تَحْتَ الْبَلُّوطَةِ فَدَعَا اسْمَهَا «الُّونَ بَاكُوتَ».وَظَهَرَ اللهُ لِيَعْقُوبَ ايْضا حِينَ جَاءَ مِنْ فَدَّانِ أرَامَ وَبَارَكَهُ.وَقَالَ لَهُ اللهُ: «اسْمُكَ يَعْقُوبُ. لا يُدْعَى اسْمُكَ فِيمَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إسْرَائِيلَ». فَدَعَا اسْمَهُ إسْرَائِيلَ.وَقَالَ لَهُ اللهُ: «أنَا اللهُ الْقَدِيرُ. اثْمِرْ وَاكْثُرْ. أمَّةٌ وَجَمَاعَةُ أمَمٍ تَكُونُ مِنْكَ. وَمُلُوكٌ سَيَخْرُجُونَ مِنْ صُلْبِكَ.وَالارْضُ الَّتِي اعْطَيْتُ ابْرَاهِيمَ وَاسْحَاقَ لَكَ أعْطِيهَا. وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أعْطِي الارْضَ».

ثُمَّ صَعِدَ اللهُ عَنْهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ تَكَلَّمَ مَعَهُفَنَصَبَ يَعْقُوبُ عَمُودا فِي الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ تَكَلَّمَ مَعَهُ عَمُودا مِنْ حَجَرٍ وَسَكَبَ عَلَيْهِ سَكِيبا وَصَبَّ عَلَيْهِ زَيْتاوَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ تَكَلَّمَ اللهُ مَعَهُ: بَيْتَ ايلَ (تك٣٥: ١-١٦).

هنا نجد ذروة وقاع متميزين جدًا فى تاريخ يعقوب. إننا نرى عمودين مميزين بل مرتبطين نصبهما يعقوب في هذا الأصحاح أولهما (الثالث ليعقوب) بناه في ذات المكان الذي بنى فيه الأول، في بيت إيل، بمناسبة خروجه حيث نذر بأن يعطي عشرًا من كل شيء اقتناه لله وأن يكون الله هو إلهه. كان هذا هو عمود الاتكال على الذات؛ الاتكال على الجسد.

أما العمود الثاني فكان عمليًا على النقيض إذ قد نصبه بعد أن افترق عن لابان فى غير توافق وضيق. يحدثنا هذا العمود عن عدم نفع الجسد. كان عليه أن يتعلم هذا الدرس، وكان قد تعلمه بقدر معين إلى أن وصل إلى العمود الثالث. لا يمكن الاتكال على الجسد بأي حال بل علينا أن نتعلم أن نتكل على الله الحي وليس على ذواتنا من أي جهة.

كان على يعقوب أن يتعلم هذا الدرس بالاختبار وكذلك نحن أيضًا علينا أن نتعلمه بالاختبار. فنحن لا نتعلمه بالسمع عنه فقط. إنه درس يجب أن يعمل عميقًا في النفس ويمكن لله أن يضع نفوسنا في المياه العميقة والألم والمعاناة والضيق حتى يعلمنا إياه. بلا شك كان بطرس من أقوى الأمثلة على ذلك. عادة أسأل عن أسوأ أمر فى حياة بطرس: هل ثقته في ذاته أم الخطية التي ارتكبها عندما أنكر الرب يسوع. أعتقد أن الأولى هي الأسوأ. إن ثقته في ذاته كانت أسوأ من تلك الخطايا التي ارتكبها علنًا. وكان الله يعلم ذلك فكان عليه أن يضرب على ثقة بطرس في ذاته، لذلك سمح له أن يسقط علنًا بأن ينكره، حتى يمكنه أن يرى ألا يتكل على ذاته أيضًا. هذا ما يمكن أن يحدث معنا إن كنا نتكل على الجسد بأي صورة؛ سيتدخل الله ويدخلنا في ظروف معينة بها نفقد الثقة في ذواتنا. وهذا حسن لنا.

قال الله ليعقوب أن يصعد إلى بيت إيل. وكان الله قد ظهر له قبلًا في وقت مماثل عندما كان ثمة احتكاك بين بيته وبيت لابان. لما رأى يعقوب أن وجه لابان لم يعد مرحبًا به كما كان من قبل، قال له الله أن يرحل. سيأتي الله بالظروف إلى الحد الذي يكون فيه لزامًا علينا أن نرحل. لكن يعقوب مال إلى سكوت ثم إلى شكيم حيث اشترى فدان حقل. كان هذا جزءًا من العالم الذي أراد أن يستقر فيه بدلًا من المضي إلى بيت إيل كما قال له الله. لهذا السبب تعرض للحادث المؤلم الذي جرى مع ابنته دينا، حينما خرجت لتنظر بنات الأرض وتورطت مع واحد من أبناء الأرض. فتصرف إخوة دينا بوحشية مفرطة وخديعة. ولما كان أهل شكيم غير قادرين على الحرب، قتل شمعون ولاوي كل ذكر منهم. وكما قال أبوهما أن ما فعلاه كان انتقامًا، لكن بلا شك أنه كان أمرًا رديئًا جدًا وغاية فى الشر. ربما تتساءل: لماذا لم يقم الله بفعل أي شيء لردعهما فى هذا الموضوع؟! ألم يكونا مذنبين فى تلك الجريمة النكراء؟! نعم، كانا مذنبين، لكن لم يحدث أي قصاص وقتئذ. وكان رعب على شعب الأرض، ووقع خوف الله عليهم، فلم يستطيعوا فعل أي شيء. فها جريمة تمت ولم يُفعل شيء لتصحيح هذا الوضع. لا تظن لبرهة أن الله سيسمح لابني يعقوب أن يفلتا من العقاب على تلك الفعلة فيما بعد، بل لا بد لهما من مواجهة النتائج. كان شمعون هو قائد هذه الفعلة، وهو من أخذه يوسف فيما بعد، وقيده ووضعه في سجن.

كان الله يتعامل مع يعقوب بحيث استدارت أفعاله الخاطئة وواجهته، بطرق مختلفة، لكن أيضًا بطرق يستطيع يعقوب أن يميز بسهولة أنها نتائج عدم طاعته وإخفاقاته السالفة. إني متيقن أن هذا يحدث معنا مرارًا عديدة، وربما لا يتحدث الله بهذه الحدة لكن بالقدر الكافي الذي به نميز أنه يتعامل معنا بخصوص الماضي، وبلا شك أن هذا مؤلم. فيعقوب مثلًا خدع أباه وفيما بعد خدعه أولاده. لم يكن لديه تقديرًا لحقوق البكر واكتشف أن بصحبة لابان كانت لحقوق البكر أولوية فأخذ ليئة زوجة أولًا. كان الماضي الأليم يلاحقه. وهناك الكثير على غرار تلك الأمور حدثت في تاريخ يعقوب. أصدقائي الأعزاء، لا يمكننا الهروب من أي من أفعالنا، وأعتقد أن هذا مهم لنا جميعًا لنتذكره. إن الله يأخذ في اعتباره جيدًا تلك الأمور. هذه حقيقة، أننا لا يمكن أن نفلت مما نفعل.

دعني أسأل سؤالًا: هل يسرنا أن نفلت مما نفعل؟ هل نُسر بذلك عند كرسي المسيح؟ كلا، لن نسر بذلك. هل نريد إلهًا كهذا؟ كلا، لا نريده. إن المؤمن يريد إلهًا يواجه كل شيء كما هو. وشكرًا لله أنه كذلك. كما أن ذلك لن يحبطنا عند كرسي المسيح البتة؛ بل سنكون شاكرين لعناية الله بكل شيء بالطريقة الصحيحة وحينها سنرى التوازن الكامل في طرق الله. الأمر الذي لا نراه الآن. إن الحكم على العمل الشرير لا يجرى دائمًا سريعًا، إلا أن الله يلاحظ كل شيء، ورحى دينونته صغير جدًا. لقد اختبر يعقوب هذا الأمر، وبالرغم من أنه أتى إلى المكان الذي تباركت نفسه فيه جدًا، إلا أنه هناك تعلم الدرس الذي أراد الله أن يعلمه إياه وهو أن حكومة الله لن تتوقف هناك، بل بالحري تعلم يعقوب أن يخضع لحكم الله وفيما بعد وجد أن عليه أن يخضع للكثير من الألم، أما روح الخضوع التي تعلمها فكان جيدًا أن تُرى فيه فيما بعد.

قال الله أولًا: «قُمِ اصْعَدْ إلَى بَيْتَ إيلَ وَأقِمْ هُنَاكَ وَاصْنَعْ هُنَاكَ مَذْبَحا لِلَّهِ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ حِينَ هَرَبْتَ مِنْ وَجْهِ عِيسُو أخِيكَ».

كانت هذه تذكِرة ليعقوب. فقال له الرب: “أنت راجع إلى بيت إيل؛ المكان الذي بارحته، وهو المكان الذي قابلتك فيه قبلًا، والذي دعوته بيت إيل؛ بيت الله. كل تلك السنين كنت تائهًا، مهتمًا ببيتك، متصرفًا بخبث أيضًا. والآن حان الوقت لتعود إلى بيتي. أنت مشغول بظروفك وباهتماماتك، وماذا عن اهتماماتي الآن؟” إن لله بيت أيضًا، وكان لزامًا القول أيام حجى: «هَلِ الْوَقْتُ لَكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَسْكُنُوا فِي بُيُوتِكُمُ الْمُغَشَّاةِ وَهَذَا الْبَيْتُ خَرَابٌ؟» (حج١: ٤). من الضروري أن يكون لنا اهتمامًا حقيقيًا ببيت الله، وبيت الله اليوم هو «كنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته» (١تي٣: ١٥). هل نُحبّ تلك المبادئ التي تُشكّل اجتماع شعب الله، أم أننا مشغولون بأمورنا حتى أن اجتماع شعب الرب يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو حتى الأخيرة؟ إن اجتماع شعب الله له القيمة الفضلى، والله يُريد أن يجتذب النفوس إليه ليُريهم معنى الاجتماع حسب الحق الكتابي؛ حسب مبادئ بيت الله.

لقد قيل ليعقوب أن يصعد إلى هناك وأن يُقم هناك. وكان يعقوب قد سبق وقال لشمعون ولاوي: «كَدَّرْتُمَانِي بِتَكْرِيهِكُمَا إيَّايَ عِنْدَ سُكَّانِ الأرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِيِّينَ وَأنَا نَفَرٌ قَلِيلٌ. فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ وَيَضْرِبُونَنِي فَأبِيدُ أنَا وَبَيْتِي» (تك٣٤: ٣٠). والآن قال يعقوب لبيته ولكل الذين معه: «اعْزِلُوا الْالِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَأبْدِلُوا ثِيَابَكُمْ. وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ إلَى بَيْتِ إيلَ فَأصْنَعَ هُنَاكَ مَذْبَحا لِلَّهِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِي فِي يَوْمِ ضِيقَتِي وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبْتُ فِيهِ».

كان مشغولًا ببيته، لكنه قال الآن لبيته: «انزعوا الآلهة الغريبة التي بينكم». كم من الوقت كانت معهم؟ الجواب منذ زمان طويل. لم يُطلب من يعقوب أن يفعل هذا، فلماذا قال ذلك؟! بمجرد أن فكر يعقوب في الذهاب إلى بيت الله علم أنه ليس مكان للأصنام هناك. ربما كان في بيت يعقوب متسع من المكان للأصنام، وأحيانًا يوجد في بيوتنا متسع من الأماكن للأصنام، لكن ليس من مكان للأصنام في بيت الله، ولا يمكن أن يتواجدوا هناك، وهذا ما كان يعلمه يعقوب تمامًا. ليس بإمكاني الإتيان بمنقولاتي إلى بيت الله. فإذا ما أتيت لزيارتك وقلت لك أنى أود أن أستبدل بعض من أثاثك بأثاثي، ربما أمرتني بالمغادرة. لكن الناس يفعلون ذلك مع الله، فهم يتكلَّمون عن مكان ما “كبيت الله” لكنهم يأتون بأثاثهم؛ بالشكل وبالترتيب الذي يُريدونه حسب أفكارهم الشخصية. هذا لا يُجدى نفعًا، فلا يُمكنك أن تدعو هذا بيت الله، ولا هذه مبادئ صحيحة لبيت الله، لأن لله مبادئه الخاصة. تخيل أن يأتي أحدهم إلى بيت سليمان حيث جميع خدامه يقفون بنظام وترتيب في أماكنهم الصحيحة، ويقول: “أعتقد أنه يجب أن نغير النظام هنا، لدى بعض الأفكار الأفضل من أفكارك”. إن الرب يسوع يعلم جيدًا ماذا يفعل في بيت الله، ونحن نجد هذا الترتيب مدون في الكتاب المقدس.

لقد كتب الرسول بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: «فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ اللهِ، الَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ». والعهد الجديد أولى هذا الموضوع اهتمامًا خاصًا.

ثم تقدم لنا الرسالة الثانية إلى تيموثاوس حقيقة أن البيت يجب أن يكون مُرتبًا في حين تنتشر الفوضى من حولنا، فليس لديَّ عذر ألا أكون «إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ، مُقَدَّسًا، نَافِعًا لِلسَّيِّدِ، مُسْتَعَدًّا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (٢تي٢: ٢١). في الوقت الذي فيه تموج المسيحية بثورة حقيقية ضد الحق الإلهي، فإنه لامتياز جميل أن نستطيع أن نناصر الحق. إن الله لا يُهزم بكل المشاكل التي في العالم، بل له طريقًا لقديسيه في وسط كل هذه الفوضى. علينا أن نكون شاكرين لهذا في أعماق قلوبنا، وعلى الطريقة التي يحفظ بها أتقياءه، ويحفظ بها شهادة الكنيسة الحقيقية في الوقت الذي فيه ينهار كل شيء من حولنا. وأما بالنسبة للفرد فيتعامل الله معه كما تعامل مع يعقوب حتى يصل به إلى معرفة ذلك.

(يتبع)


 
ل.م. جرانت