أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2012
خواطر فى سفر هوشع 13 - خواطر في سفر هوشع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
خواطر في سفر هوشع (13)وقفنا في المقالاتِ السابقةِ، نُشاهدُ بحسرةٍ وألمَ، أربعة تشبيهاتٍ مُحزِنةٍ ضمن عديدٍ، اتصفت بها الأسباط العشرة، فبدت مُتَّشِحةً بثوبِ تاريخِها الأسود، الذي طالما ما استمسكت بهِ، فاستكملت طريقَها، حُتِمَ عليها مصيرُها الأوحدِ، أقصِدُ الإقصاء إلى بقاعٍ بعيدةٍ.  ولكن في مقالتنا هذه، سنقِفُ أمام وعودٍ بالبركةِ المستقبليةِ، تُطلِعنا على معرِضٍ لسياسةِ اللهِ وقصدِه الأمجد.
إن القارﺉ لنبوةِ هوشع، يستطيع أن يُلاحظَ وبسهولةٍ, أن أسلوبَ كاتِبها يتصفُ بالتوترِ والانتقال المفاجئ من فكرةٍ إلى أخرى: فقد تقرأ عن غضبٍ وبيلٍ ووعيد، يتلوه بركاتٌ غامرةٌ متدفقةٌ بالمواعيد، أو قد تقرأ عن ماضٍ في زيغانٍ شديد، يتلوه مستقبلٌ فوَّاحٌ بالعطرِ، صدَّاحٌ بالنشيد.
وأوَّدُ يا قارئي أن تأخذ في الاعتبار، أن هذه العبارات التي أستخدمُها، ليست لحُسن الصياغةِ اللفظية، ولا حتى لإيجادِ رنينٍ عذبٍ، يقفِزُ لحنُه من بين السطورِ، ولكن لكلِ كلمةٍ منها تأييدًا من آيات السفر.  فعندما أكتُبُ عن غضبٍ وبيلٍ ووعيد، نقرأ: «ثُمَّ فَطَمَتْ لُورُحَامَةَ وَحَبِلَتْ فَوَلَدَتِ ابْنًا، فَقَالَ: ادْعُ اسْمَهُ لُوعَمِّي، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ شَعْبِي وَأَنَا لاَ أَكُونُ لَكُمْ» (هو1: 8، 9).  
ثم نقرأُ بعد ذلكَ مُباشرةً عن بركاتٍ ومواعيد: «لَكِنْ يَكُونُ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يُكَالُ وَلاَ يُعَدُّ، وَيَكُونُ عِوَضًا عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: لَسْتُمْ شَعْبِي، يُقَالُ لَهُمْ: أَبْنَاءُ اللَّهِ الْحَيِّ.  وَيُجْمَعُ بَنُو يَهُوذَا وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مَعًا وَيَجْعَلُونَ لأَنْفُسِهِمْ رَأْسًا وَاحِدًا، وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ، لأَنَّ يَوْمَ يَزْرَعِيلَ عَظِيمٌ» (هو1: 10، 11).  وكأنَّ الفاصلَ الزمني الذي يتوسط الغضب والبركة قد انتفى!
وعندما نكتُبُ عن ماضٍ في زيغانٍ شديد، نجد: «تُجَازَى السَّامِرَةُ لأَنَّهَا قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلَهِهَا.  بِالسَّيْفِ يَسْقُطُونَ.  تُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ، وَالْحَوَامِلُ تُشَقُّ» (هو13: 16).  ولكننا نعود فنستمع في الأصحاح الذي يليه مباشرةً إلى صدحٍ وغناءٍ بل ونشتَمُّ عبيرًا ذكيًا لشعبٍ ترعرع في تُربتِهِ بعد إقصاء:
«أَكُونُ لإِسْرَائِيلَ كَالنَّدَى.  يُزْهِرُ كَالسَّوْسَنِ، وَيَضْرِبُ أُصُولَهُ كَلُبْنَانَ.  تَمْتَدُّ خَرَاعِيبُهُ، وَيَكُونُ بَهَاؤُهُ كَالزَّيْتُونَةِ، وَلَهُ رَائِحَةٌ كَلُبْنَانَ.  يَعُودُ السَّاكِنُونَ فِي ظِلِّهِ يُحْيُونَ حِنْطَةً وَيُزْهِرُونَ كَجَفْنَةٍ.  يَكُونُ ذِكْرُهُمْ كَخَمْرِ لُبْنَانَ.  يَقُولُ أَفْرَايِمُ: مَا لِي أَيْضًا وَلِلأَصْنَامِ؟ أَنَا قَدْ أَجَبْتُ فَأُلاَحِظُهُ.  أَنَا كَسَرْوَةٍ خَضْرَاءَ.  مِنْ قِبَلِي يُوجَدُ ثَمَرُكِ» (هو14: 5-8).  
ولكن لماذا هذا الأسلوب الذي يبدو متوتِرًا كما قلنا، والذي قد يبدو لقارئِهِ وكأنَ الكاتبَ ينتقِلُ من توجُهٍ إلى نقيضِهِ دونَ تعليل، مع أنه ليس الأبسط إلى الذهن في الفهم؟ التفسير لذلك منطقي وجميل جدًا:
 كان النبي هوشع آن كتابةِ السفرِ، أمامَ كارثةٍ دهماء، وشيكةٍ أن تَحُلَّ بالأسباط العشرة بعد قليلٍ، بسبب شرِهِم المُفرِط ورداءةِ مسلكهم أمدًا طويلاً، وبعد هذه الكارثة، كانت هناك كأسٌ مريرةٌ، ستلحَقُ بالأوَلِ، لا ليجرعَهُ الأسباطُ العشرة بل السبطان: «وَأَنْتَ أَيْضًا يَا يَهُوذَا قَدْ أُعِدَّ لَكَ حَصَادٌ، عِنْدَمَا أَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي» (هو6: 11).  ولفهمِ هذه العبارة يُمكِن أن تُقرأَ هكذا: “وأنت أيضًا يا يهوذا، قد أُعِدَّ لك حِصادٌ (مرير)، (وبعده) أرُدَ سبيَ شعبي”.  وها النبي بأسلوبِهِ، الذي قد يبدو وكأنه متوترًا، يعكس سياسة الله وقلبَه من نحو شعبِهِ.  فو إن ذَخَرَ “بروقًا ورعودًا وأصواتًا” تخرُجُ من عرشِهِ (رؤ4: 5)، استنكافًا من الشرِ وإعلانًا لقداستِهِ، فالأرضُ لن تُعدَمَ إعلانًا عن رحمتِهِ وصدقِهِ وأمانتِهِ متمثلاً في “قوسِ قُزَحَ حولَ العرشِ في المنظرِ شبه الزُّمُرُّد” (رؤ4: 3).  أَليست هذه هي الرحمة التي تُذكرُ في الغضبِ؟ (حب3: 2).  وعلى ذاتِ القياس، بالرغمِ من أن سفرَ هوشع في طابعِهِ العام هو سفرٌ ينطِقُ بالقضاءِ مجسَّمًا ولكنه يفيض بالوعود وبالبركات المستقبليةِ نذكر:
«وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي
إِلَى الأَبَدِ.  
وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي
بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ.  
أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي
بِالأَمَانَةِ فَتَعْرِفِينَ الرَّبَّ»
(هو2: 19، 20).
قارئي، أود أن أُذكرك بحقيقةٍ هامة، وهي أن هذه التي يتجه إليها يهوه بهذا الوعد، ليست هي الكنيسة على وجه الإطلاق، وليست هي “العذراء العفيفة” كما نقرأ في 2كورنثوس11: 2.  المذكورة في هذه الأعداد سوف لا يتم خطبتها للمرةِ الأولى بموجب الوعد المذكور أعلاه، ولكن هي البقية من شعب إسرائيل, التي سترجع إلى مسيَّاها بعد اختطاف الكنيسة، وهذا الشعب في مجموعهِ كأمةٍ قد سبق له فارتبط بيهوه، لا على أساس الخطبةِ فقط بل بالاقترانِ أيضًا، ولكنه ضلَّ زانيًا فطُلِقَ.  والآيات الكتابية تشرح لنا هذه الفكرة كثيرًا في نبوات العهد القديم, كما في سفر هوشع بالتبعية:
«اذْهَبْ وَنَادِ فِي أُذُنَيْ أُورُشَلِيمَ قَائِلاً: هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ ذَكَرْتُ لَكِ غَيْرَةَ صِبَاكِ، مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ، ذِهَابَكِ وَرَائِي فِي الْبَرِّيَّةِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَزْرُوعَةٍ» (إر2: 2).  
ومن هذا نفهم أنها خُطبت قبلاً بالفعل.
«هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَيْنَ كِتَابُ طَلاَقِ أُمِّكُمُ الَّتِي طَلَّقْتُهَا، أَوْ مَنْ هُوَ مِنْ غُرَمَائِي الَّذِي بِعْتُهُ إِيَّاكُمْ؟ هُوَذَا مِنْ أَجْلِ آثَامِكُمْ قَدْ بُعْتُمْ، وَمِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ طُلِّقَتْ أُمُّكُمْ» (إش50: 1).  
ومن هذا نفهم أن الأمة في مجموعها, سبقت فاقترنت بيهوه بالاقتران, ولكنها طُلِقت لعلة الزنى.
ونفس هذه الفكرة نقرأ عنها في نبوة هوشع:
«لأَنَّ أُمَّهُمْ قَدْ زَنَتِ.  الَّتِي حَبِلَتْ بِهِمْ صَنَعَتْ خِزْيًا» (هو2: 5).  
ولكن هذا الوعد بالبركة المستقبلية يرينا قلب ذاك الذي يصفح عن الخَطا بلطفِه البديع، الذي لا يذكُرُ شرَّ الخَطا، وينسى كُلَّ ما مضَى.
فها الوعدُ ينسابُ جديدًا ومؤكَّدًا، فترِدُ الكلمة “أَخْطُبُكِ” ثلاثَ مراتٍ (هو2: 19، 20).
فتخيل معي شهمًا واقفًا أمامَ مَن ناحت بعدَ جفاءٍ، وآبت بعد إقصاءٍ، ورذلت عاشقيها بإباءٍ، فأخذ يؤكدُ لها: «أَخْطُبُكِ ... أَخْطُبُكِ ... أَخْطُبُكِ» (هو2: 19، 20).  ولكني أود أن أؤكد لك يا قارئي، أن هذا العريس الفياض بالمشاعر التي لا تنساب إلا على أساس البر، سوف لا يَضُم هذه البقية له مُعاملاً إياها بإذلالٍ ومهانة لما اقترفته الأمة ماضيًا.  ولكن بالرغم من كل ما حدث، سيقترن بها في أروع مناظر التقدير والبهجة.  ولتدعيم هذه الفكرة، أسوق لك مسلسلاً بديعًا من الآيات، يُرينا هذه المنظومة المؤثرة؛ أقصد: الزيغان- العفو- العودة إلى المكانة الرفيعة – الخطبة - الاقتران.
«اِنْصِبِي لِنَفْسِكِ صُوًى.  اجْعَلِي لِنَفْسِكِ أَنْصَابًا.  اجْعَلِي قَلْبَكِ نَحْوَ السِّكَّةِ، الطَّرِيقِ الَّتِي ذَهَبْتِ فِيهَا.  ارْجِعِي يَا عَذْرَاءَ إِسْرَائِيلَ.  ارْجِعِي إِلَى مُدُنِكِ هَذِهِ.  حَتَّى مَتَى تَطُوفِينَ أَيَّتُهَا الْبِنْتُ الْمُرْتَدَّةُ؟ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ خَلَقَ شَيْئًا حَدِيثًا فِي الأَرْضِ.  أُنْثَى تُحِيطُ بِرَجُلٍ» (إر31: 21، 22).
في هذه الأعداد نقرأ عن حنين من هو كثير الإحسان والوفاء، من يحفظ الإحسانَ إلى ألوفٍ، لأن يعفو ويصفحَ، وبينما نقرأ عنها أنها “الْبِنْتُ الْمُرْتَدَّةُ” ولكنه يظل يُطلق لقلبها نداء ملؤه التقدير: “يَا عَذْرَاءَ إِسْرَائِيلَ” وكأنه يلوِّح لها بأفراح الخطبة ولكن ها مقاصده تتخطى موكب الخطبةِ فنراها “أُنْثَى تُحِيطُ بِرَجُلٍ”، ولكن لا ننسى أن كُلَّ هذا في الأرض، لكن مجد السَّماويات شيءٌ، ومجد الأرضياتِ آخر (1كو15: 40).
بطرس نبيل«
بطرس نبيل