أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
تعجبنا كلنا رحلة الابن المُسرف التي قام بها من الكورة البعيدة، أرض مذلته وتعاسته، متجهًا إلى بيت أبيه (لو15)، لأنها صورة مؤثرة لرجوع الخاطئ التائب، تحت عمل وإرشاد الروح القدس، إلى الله. على أنه توجد في الإنجيل رحلة أخرى تختلف عن رحلة الابن المُسرف اختلافًا كُليًا، أو بالحري تتناسب معها تناسبًا تبادليًا مَحضًا. ونعني بها رحلة ذاك المجيد الذي أتى من السماء، من عند الآب، متجهًا إلى الكورة البعيدة. مفتشًا عن ضالته في عالم الخطاة. إنه ـ تبارك اسمه ـ هو الذي نراه قائمًا بتلك الرحلة الثانية، فنراه يذهب إلى السامرة النجسة، التي هي صورة لهذا العالم المرفوض، إذ إنها كانت كالأبرص، منفصلة انفصالاً كاملاً عن أرض البر والقداسة، ومُعتَبرة
 
 
عدد أبريل السنة 2008
موت المسيح - محاكمة المسيح أما بيلاطس (2) - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لقد ذكرت البشائر الأربع  محاكمة المسيح أمام بيلاطس. ونلاحظ أنه في هذه المحاكمة لا يذكر أحد البشيرين سموًا للمسيح نظير السمو الذي يوضحه البشير يوحنا. ولا غرابة، فهذا هو إنجيل ابن الله. ولهذا ففيه وحده نقرأ أن المسيح قال لبيلاطس إنه أتى (من السماء) ليشهد للحق، وأن كل من هو من الحق يسمع له (يو18: 37).  ويوضح البشير يوحنا أنه ليس لأجل تهمة سياسية ملفقة ضد المسيح صدر الحكم عليه بالصلب، بل إن التهمة التي كتمها اليهود عن الحاكم حتى النهاية، وانفرد البشير يوحنا بتسجيلها هي أن المسيح قال عن نفسه إنه “ابن الله”.  ويعلق البشير على ذلك بالقول إن بيلاطس لما سمع هذا القول إزداد خوفًا.  لاحظ أنه لا يقول عنه إنه خاف، بل ازداد خوفًا.  وبشعور خفي أمام سمو شخصه سأل يسوع: «من أين أنت؟». إنه لم يسأله عن شخصه “من أنت؟”  بل عن أصله؛ وليس عن أصله الجسدي، فهو كان قد عرف أنه من الجليل، ولذا أرسله ليحاكم أمام هيرودس.  وأخيرًا ينفرد البشير يوحنا بتسجيل قول المسيح لبيلاطس: «لم يكن لك عليَّ سلطان البتة، لو لم تكن قد أعطيت من فوق» (19: 7 – 11).  ثم يستطرد موضحًا أن خطية بيلاطس عظيمة، وخطية اليهود أعظم (19: 11). لكأن المسيح هنا ليس هو المتهم الذي يترقب سماع الحكم عليه، بل إذ هو يعرف أنه سيُصلب، ينطق - باعتباره القاضي - بالحكم الذي سيسمعه بيلاطس منه في اليوم الأخير!

ولكننا لا نقرأ في هذه البشارة عن سمو شخص المسيح فحسب، بل أيضًا باعتباره “النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان” (يو1: 9)، فلقد كشف شر اليهود وخبثهم، كما فضح زيف بيلاطس وضلاله.

شر اليهود
لقد سبق لليهود الأشرار بحسب ما ورد في هذا الإنجيل، أن حاولوا رجم المسيح ثلاث مرات، عندما أعلن مساواته بالله (في الأصحاحات 5؛ 8؛ 10).  في أول مرة يقول البشير إنهم طلبوا أن يقتلوه، ليس فقط لأنه نقض السبت، بل لأنه قال إن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله (يو5: 18). وهنا، في آخر مرة، نراهم يصرون على استصدار الأمر بصلبه قائلين لبيلاطس: «لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ» (ع7).

على أننا نعلم أن المسيح لم يجعل نفسه ابن الله، بل إنه هو بهاء مجد الله، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، لكنه قَبِل في حبٍ عجيب وتواضع فائق أن يصير إنسانًا، ليصنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا (عب1: 3)!

ولقد أخرج بيلاطس يسوع إلى اليهود بعد أن أمر بجلده، وكان تبارك اسمه حاملاً إكليل الشوك، وقال لهم: «هوذا الإنسان!». كأنه يقول لهم: بعد أن أُذل ذلك الناصري إلى هذا الحد، وبعد أن صار وجهه كذا مفسدًا أكثر من الرجل، فلا خطر منه عليكم. إن أحدًا لن يعود يلتفت إليه، أو يحفل به!  آه، لو علم بيلاطس ماذا سيكون عليه ذلك الوجه عن قريب جدًا، عندما يُستعلن المسيح من السماء مع ملائكة قوته!  بل لو علم كم هذا الوجه مجيد من الآن! وكم رآه الملايين بالإيمان، مكللاً بالمجد والكرامة!  نعم، لو علم كم يرى القديسون في هذا الوجه الذي قد أُفسد جمال التواضع والخضوع، جمال المحبة والتضحية، تعجز أية ريشة أن ترسمه، وقلم أن يعبِّر عنه!!

أو لعل بيلاطس قصد وهو يعرض على اليهود رجل الأحزان، وهو حامل إكليل الشوك وثوب الأرجوان، أن يهدئ ثائرتهم فيتنازلون عن رغبتهم في موته.  لكن الشيطان كان قد تملَّك قلوبهم وعقولهم، وما كان يكفيهم رؤيته داميًا، ولن يهدأوا إلا أن يروه مصلوبًا، ولن يقبلوا بأقل من موته!  ففشل بيلاطس أن يثني عزم قادة الأمة على صلبه، إذ كانت قلوبهم صخرية لا تلين.
وفي محاولة أخيرة ضعيفة حاول بيلاطس تغيير قصد رؤساء الأمة من جهة صلب المسيح، «فقال لليهود: هوذا ملككم. فصرخوا: خذه خذه اصلبه. قال لهم بيلاطس: أ أصلب ملككم؟ أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك إلا قيصر» (19: 14، 15). وأولئك الذين رفضوا مُلك الله عليهم أيام صموئيل (1صم8)، رفضوا مُلك ابن الله عليهم عندما أتى إليهم في ملء الزمان!

فضح شر بيلاطس:
لقد تصرف بيلاطس تصرفًا مشينًا عندما داس على ضميره، وأراد أن يحكم على المسيح بالموت، ثم يطلقه هدية العيد؛ وهو ما نقرأه في ختام الأصحاح الثامن عشر. ثم يفتتح الأصحاح التاسع عشر من الإنجيل بالإشارة إلى جلد بيلاطس للمسيح، فيقول: «فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ».  ويا للأسف أن بيلاطس بعد أن سمع جانبًا من عظمة يسوع، إذ عرف أنه أتى من السماء ليشهد للحق، فإنه أمر، أو على أقل تقدير سمح بإهانة شخصه من كل الكتيبة!  رغم أن بيلاطس بحسب هذا الإنجيل شهد ثلاث مرات أنه لم يجد فيه علة واحدة. مرة قبل جلده (18: 38)؛ ومرتين بعد الجلد (19: 4، 6). 

وما كان أقسى الجلدات التي أوقعها البشر القساة على الرب يسوع!  وبيلاطس عندما أمر بجلده فقد برهن على أنه ليس من الحق، فلم يسمع للمسيح.

يلي ذلك الإشارة إلى إكليل الشوك حيث يقول الوحي: «وَضَفَرَ الْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ».  يا للعار! أ يصل تملق الأشرار، إلى حد تعذيب البار!؟  وهذا كله يتم في ساحة العدالة، وفي حضور وعلم الوالي المُقام من الإمبراطورية الرومانية التي تفتخر بأنها نصير العدالة.  فإذا كان هذا عدل الإنسان، فماذا يكون ظلمه؟!

وفي الأناجيل الإزائية يرد هذا الحادث ضمن الحفلة التنكرية التي عملها الجنود الأشرار للاستهزاء بحمل الله القدوس، وفيها أفرغ عسكر الرومان كراهيتهم لليهود في جسده الكريم.  ونحن نقرأ أنهم وضعوا عليه إكليل الشوك، ولم يُذكر أن أحدًا رفعه عنه، ولهذا فلا يُستبعد أن ظل هذا الإكليل فوق رأس المسيح حتى وهو معلق فوق الصليب!

وعندما سأل بيلاطس المسيح: “من أين أنت؟”  (19: 9)، فإن المسيح لم يعطه جوابًا. ويمكننا أن نرى سببين لهذا:

أولاً: لأن بيلاطس لم يستفد من كلام الرب السابق معه.  فلماذا يعطيه كلامًا جديدًا؟
والسبب الثاني: لأنه أمر بجلد المسيح وهو يقر بأنه بار، ليرضي أناسًا أشرارًا.  فاستحق لذلك نفس معاملة المسيح لهيرودس «لم يعطه جوابًا»!

لكن عدم إجابة الرب على بيلاطس أدهشت الوالي الذي لم يعتد أن يحاكم شخصًا مثل هذا، فكل من سبق أن حاكمهم كانوا يتمنون رضاه.  ولهذا سأله بلهجة الغضب والدهشة معًا قائلاً: «أما تكلمني؟  أ لست تعلم أن لي سلطانًا أن أصلبك وسلطانًا أن أطلقك؟»  وبهذا حكم بيلاطس على نفسه دون أن يدري.  فمن يملك السلطان على فعل الصواب، فإنه إن لم يفعله صار مذنبًا وحمل ذنبه. 

وبهذه الكلمات  فضح بيلاطس أخلاقه، وانطبق عليه قول الوحي للقضاة: «حتى متى تقضون جورًا؟» (مز82: 2).  لقد اتضح أنه نظير ربوات الحكام التعساء الذين شاهدهم ذلك العالم البائس، من الذين يتبعون أهواءهم ومزاجهم.  كأنه يقول هنا: سواء كنت مذنبًا أوبريئًا، فإني إذا شئت أطلقك، وإذا شئت أصلبك؛ فأنا فوق القانون والمساءلة، وبوسعي أن أعمل ما يتراءى لي.  يا للهول! أإلى هذه الدرجة يسيء الإنسان الشرير استخدام السلطة الممنوحة له من الله؟! وهنا لم يسكت المسيح، بل تكلم لكي يضع الأمور في نصابها. فقال له: « لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ».  وكانت هذه الكلمات هي آخر كلمات الاعتراف الحسن الذي نطق به المسيح أمام بيلاطس الذي يمثل سلطة العالم الغاشمة (انظر 1تيموثاوس 6: 13).  ولم يسمع بيلاطس بعد ذلك شيئًا منه، ولن يسمع، حتى يأتي يوم الدينونة العظيم، فيقف بيلاطس أمام المسيح، ويحاكمه المسيح لا بحسب المزاج، رغم أنه هو الكلي السلطان، وهو وحده بحق فوق كل مساءلة، ولكن نظرًا لبره فإنه سيدينه بالعدل، ويا ويله!

المسيح هنا نراه واقفًا أمام كرسي الحاكم، وقريبًا سيقف بيلاطس أمام كرسي المسيح (الكلمة نفسها في اليوناني). سيحاكم على ما فعله في ذلك اليوم في أورشليم.  وكلمات الرب الخطيرة لبيلاطس تعني – كما ذكرنا قبلاً – أن خطية بيلاطس عظيمة، وخطية اليهود أعظم.  وهذه الكلمات تحمل معها تعليمًا خطيرًا، وهو أن هناك درجات في الذنب تتوقف على ما يلي:

  • أولاً: مقدار النور.  فلقد كانت خطية اليهود أعظم من خطية بيلاطس لأنه كان بين أيديهم التوراة، وكان بوسعهم أن يقرأوها فيجدوا النبوات الكثيرة والواضحة عن حقيقة كون يسوع هو المسيح ابن الله مخلص العالم.  وهكذا فإن كل من كان كتاب الله في متناول يده، ويهمل قراءته، أو يحرف كلماته البسيطة إلى غير قصدها الصريح الواضح، فخطيته أعظم.
  • ثانيًا: فرصة المعرفة.  فبيلاطس، على عكس اليهود وقادة الأمة، لم تكن له الفرصة ليُحاط علمًا بدخول المسيح الفريد إلى العالم، أو حياته القدسية، أو معجزاته العظيمة.  وعليه فكل من علم بشخصية المسيح الفريدة وأموره المجيدة، ثم يضرب بكل هذا عرض الحائط، فخطيته أعظم.
  • ثالثًا: ملابسات اتخاذ القرار.  فبيلاطس حكم على الرب يسوع في ساعات معدودة، وأعطى القرار الخطأ - إذ وضعه اليهود في مأزق - دون أن يتدبر الأمر.  ولهذا فإن كانت خطيته هو عظيمة، فإن اليهود الذين خططوا للأمر، ولم تكن جريمتهم بنت ساعتها، بل كانت نيتهم مبيتة، فخطيتهم أعظم.  وهكذا الآن من لديه المتسع من الوقت لقبول المسيح، ثم يرفضه، فخطيته أعظم.
  • رابعًا: المشاركة في الذنب. كان اليهود هم المخططون للجريمة، وكان بيلاطس المنفذ.  والرأس المدبرة مسؤوليتها أخطر من اليد المنفذة، وبالتالي عقوبتها أشد.

ويختم البشير يوحنا حديثه عن بيلاطس هذا بالإشارة إلى أنه صدق على الحكم بعد حدثين: الأول عندما أعلن المسيح له أن خطيته عظيمة، ولوح له أنه سيعطي حسابًا عنها أمام الله، بل سيعطي الحساب في الواقع لذاك الواقف الآن أمامه يحاكم!  ولكن أيضًا بعد أن سمع من اليهود أنك «إن أطلقت هذا فلست محبًا لقيصر» (19: 12)، بمعنى أن كرسيك سيكون في خطر. إذًا فبيلاطس سمع عن يوم الدينونة، كما سمع عن إمكانية خسارته لكرسيه الأرضي، فأحب مجد الناس أكثر من مجد الله (12: 43).

صحيح لم يكن هناك عداء شخصي بين بيلاطس والمسيح، مثل ذاك الذي كان بين رؤساء أمة اليهود والمسيح، ولكن المسيح لم يكن يعني شيئًا لبيلاطس. هب أنه بريء ويصلب، هذا أفضل ألف مرة من حدوث متاعب بينه وبين القيصر!

إن مأساة بيلاطس التي ليتنا نعيها جيدًا، لنأخذ لأنفسنا منها الدرس والعبرة، هي أنه أراد أن يخدم سيدين، وأن يرضي الناس والضمير.  لكن المسيح كان قد قال في أول عظة مسجلة له في البشائر: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين» (مت6: 24).

يوسف رياض