أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2016
مريم أم الرب يسوع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ» (لو١: ٢٨)

لو لم يكن الكتاب المقدس كُلّه «مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ» (٢تي٣: ١٦)، لكان المرء يخشى التصدي لموضوع مثل موضوعنا: “الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! ... المُبَارَكَةٌ فِي النِّسَاءِ” (لو١: ٢٨). وسبب آخر قد يبرز، يحض على تجنب المؤمنين لدراسة هذا الموضوع، أعني: “شخصية وامتيازات المُطوَّبة مريم”، هو التشويه لهذا الأمر الناشئ جراء الوثنية الخاطئة المقيتة من جانب ملايين المسيحيين المُعترفين، إذ جعلوها موضوعًا للعبادة، الأمر الذي يُحزن روح الله، ويُهين اسم الرب نفسه.

ودعونا نتناول بعض الاعتبارات والملحوظات بشأن هذا الإناء المختار، والذي تضمنه الإنجيل وحفظه لنا، لعلنا نفهم بأكثر وضوح، وبحسب تعليم الروح القدس، نعمة الله الغنية في اختيار هذه الامرأة الفقيرة، لهذا الشرف العظيم. ومن ثم نأتي إلى ثمار هذه النعمة التي تظهر في ثقة المُطوَّبة مريم البسيطة وغير المتزعزعة في الرب، كما تظهر في حياتها المُكرَّسة والمتواضعة.

ولعله من الملاحظ أن إنجيلي لوقا ويوحنا فقط هما اللذان سجلا كلمات وتصرفات مريم. وتذكر في إنجيل متى بتفاصيل كثيرة بالارتباط مع أحداث ولادة الرب يسوع في هذا العالم، ولكن عدا ذلك يصمت إنجيل متى. يوسف بالأحرى هو الذي يتصدر المشهد في هذا الإنجيل. فقد ذُكرت سلسلة ميلاد الرب يسوع، باعتباره ابن داود، مرورًا بيوسف (مت١: ١٦، ٢٠). إلا أن مريم تظل هي الإناء المختار من الله والمُعد من الله لامتياز صيرورتها الإناء الذي قدَّم عن طريقه الرب يسوع إلى وسط إسرائيل؛ قدَّم الشخص المُزمع أن يُخلِّص شعبه من خطاياهم. وهكذا يُكتب في الإنجيل: «وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِلِ: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا» (مت١: ٢٢، ٢٣). وها قد تمت هذه النبوة، ووُلد الابن، ولم يكن مُمكنًا إلا أن بهاء أشعة مجده يواري مريم إلى الظل. ومن ثم يُذكر في الأصحاح التالي خمس مرات تعبير: «الصَّبِيّ وَأُمَّهُ»، لا “الأم وصبيها” (مت٢: ١١، ١٣، ١٤، ٢٠، ٢١). وما هو معنى ذلك إلا أن يكون المولود ليس أقل من كونه «عِمَّانُوئِيلَ... اَللَّهُ مَعَنَا»؟

إذا قدَّرنا هذه الحقيقة كما ينبغي أن تُقدَّر، ستُطفئ فينا كل رغبة لأن نُعظّم مريم فوق ابنها، كما علَّم الرب نفسه في مناسبة أخرى، عندما ارتفع صوت من بين الجمع قائلاً: «طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا». فما كان منه إلا أن أجاب: «بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لو١١: ٢٧، ٢٨). نعم لم تكن المرأة “الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا والمُبَارَكَةٌ فِي النِّسَاءِ” هي التي تسحق رأس الحيَّة، بل “نسل المرأة” كان هو المُعيَّن ليسحق رأس الحيَّة؛ الشخص المُتمم لكل مشورات الله، والذي أعلنها وأكملها. إنه هو إذن – ابن الله الحبيب – وليس مريم، هو الذي يملأ قلوب شعب الله. هو المستحق التسبيح والعبادة.

إرسالية الْمَلاَك جِبْرَائِيل إلى مريم:

إذ نأتي إلى إنجيل لوقا، نجد أن صورة مريم تتبوأ الصدارة في قصة ولادة الرب يسوع. أما سيرة يوسف فلا يُذكَّر عنها سوى أن مريم كانت «عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ» (لو١: ٢٧). وبينما مريم تعيش في الناصرة*، جاء إليها “جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ” مُرسَلاً من الله، فيما كانت في البيت، كما نفهم من الكلمات «فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ (And the angel came in unto her)» (لو١: ٢٨).

وتلقت مريم تحية الملاك: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». إن “ جِبْرَائِيل الْمَلاَك الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ” (لو١: ١٩)، كان على علم بالسر الإلهي بخصوص العذراء المُختارة، كما يتضح من طبيعة تحيته، إذ كان يُقدِّر الامتياز العظيم والنعمة الفائقة التي ميَّزت مريم بين سائر النساء، والتي أسبغها الله عليها. ولم تكن كلماته إلا تعبيرًا عن سروره في توصيل فكر الله من جهتها.

ولكن إذ رأت مريم “جِبْرَائِيل الْمَلاَك”، والذي بلا شك ظهر في صورة إنسانية (قارن مع لوقا ٢٤: ٤)، «اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ: مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّحِيَّةُ!». وهذا يعني أنها تساءلت في نفسها عن طبيعة كلمات جِبْرَائِيل: ماذا كان مغزاها ومعناها؟ وبوسعنا أن نفهم ذلك إذا ذكرنا شخصيتها ووضعها. كانت مريم تقية، امرأة تخاف الله. وبغض النظر عن سلسلة نسبها، كانت تعيش في ظروف ضنك. وكانت علامات وملامح حياتها الروحية الواضحة: الوداعة والتواضع والإيمان. ومن ثم كان لا بد أن تضطرب عند سماعها هذا القول. ليس لسبب الشك النابع من الذهن الطبيعي، بل بالأحرى بسبب حيرة النفس بخصوص مدلول خطاب الملاك.

ونتيجة بصيرة روحية إلهية من جانب مريم، اطمأنت إلى كلام الملاك الذي هدأ من روعها، وجهزها لاستقبال الرسالة الهائلة التي يحملها، مؤكدًا لها أنها وجدت نعمة لدى الله. ونقول “جهزها” لاستقبال الرسالة، لأن النفس لا يمكن أن تتعامل مع الأمور الإلهية ما لم يتوافر لها السلام والحرية (قارن دانيال ١٠: ١٩).

وتعليقًا على الآية ٢٨، لاحظ أحدهم أن التعبيرين: «الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا»، «وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ»، ليسا مترادفين. فعلى المستوى الشخصي وجدت مريم نعمة عند الله، فلم يكن ثمة داع للخوف، ولكن الله أسبغ عليها نعمة فائقة وإحسانًا عظيمًا بصيرورتها أم الرب يسوع. وفي هذا وُجِدت مريم غرضًا لإحسان إلهي عظيم.

ويُمكننا أن نُضيف «وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ» نظرًا لحالتها الروحية السامية. بينما يتحدث التعبير «الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا» بالأحرى عن كونها إناء الله المختار لولادة الرب يسوع. ولكن الأمرين – يقينًا – مرتبطان.

ويا لها من رسالة حملها جبرائيل: «هَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هَذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لو١: ٣١-٣٣).

ولا يقع ضمن غرضنا في هذه العجالة شرح سر التجسد العظيم لربنا ومُخلِّصنا المُبارك، أو أن نتطرق إلى الألقاب العديدة والأمجاد اللامعة التي يُختص بها، وتفوقه في هذا الصدد على مريم نفسها، والتي هي موضوع تأملاتنا. ومع ذلك لا بد أن نقول أن مجد شخصه يقينًا مُتضمَّن في اسمه؛ “يَسُوع” الذي يعني “الرب المُخلِّص”. ثم ثانيًا: إن جميع الألقاب المُعطاة هنا مرتبطة – بشكل أو بآخر – بالأرض، وبالمقام السامي الذي سيتبوأه الرب باعتباره “ابْن الْعَلِيِّ” و“ابْنِ دَاوُدَ” والذي سيملك إلى الأبد على “بَيْتِ يَعْقُوبَ”، باعتباره وارث لحقوق داود الملكية، ولكنه أيضًا كرب داود كما هو ابن داود، هو مُقدّم هنا.

ولكن ليت القارئ لا ينسى أن كل هذه المواعيد تنتظر إتمامها، وأنها ستكمل لا محالة بقوة الله، ووفقًا لمشوراته الأزلية. قد يقوم ملوك الأرض ورؤساؤها ليتآمروا معًا ضد الرب وضد مسيحه. ولكن بالرغم من عجيج الأمم ورؤسائهم، فإن الله، وفق مقاصده الثابتة، قد أقام مَلِكَه على جبل صهيون المقدس (مز٢)، وسيملك حتى تُوضع جميع أعدائه تحت قدميه.

لما وعد الله إبراهيم بابن، ضحكت سارة في باطنها بارتياب، غير عالمة بقدرة صاحب الوعد القادر على كل شيء. زكريا أيضًا أظهر عدم إيمان عندما قَبِلَ الرسالة من الملاك جبرائيل الذي أعلمه أن زوجته أليصابات ستلد له ابنًا. بينما عقبت مريم على إعلان الملاك لها: «كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟» (ع٣٤). ورغم أن الأمر يفوق الترتيب الطبيعي، إلا أن سؤال مريم هذا ليس وليد الارتياب وعدم الثقة، كما هو الحال في المناسبات السابقة. والدليل على ذلك أن جبرائيل سُمح له أن يُجيب إجابة شافية وافية على تساؤل مريم. وهي إجابة تنم عن شيئين: الحبل المعجزي بربنا المُبارك. وأن “الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ يُدْعَى ابْنَ الله” (ع٣٥)؛ ابن الله المولود في هذا العالم وفقًا للمزمور الثاني*.

ولكن ليُقوي إيمانها المُعطى لها من الله، والموجود سلفًا، أرسل الله جبرائيل ليُعلمها بنعمة الله نحو قريبتها أليصابات أيضًا (ع٣٦). ولكي يثبت أساس كل إيمان، يُضيف جبرائيل: «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» (ع٣٧)، وإلا لم يعد الله هو الله. وأيضًا «كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ» (مر٩: ٢٣)، كما علم الرب نفسه.

كان هذا هو الدرس الذي تعلَّمته مريم في قرارة نفسها، كما يظهر من إجابتها: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (ع٣٨).

وليس فقط أن مريم تعلَّمت أن ليس شيء غير ممكن لدى الله، ولكنها بملء إرادتها، قدمت نفسها للرب – يقينًا بفعل قوة الروح القدس – لتتميم مشيئته المباركة، دون أدنى تحفظات. وعبر كل الكتاب لا نجد مثالاً لإيمان أقوى، وخضوع أكمل من تلكم التي أظهرتهما مريم. لم تكن مريم غافلة عن النتائج المحتملة، والتي كان يمكن أن تُصيبها في عالمنا. بل إننا نقرأ في إنجيل متى أنها صارت موضوع شك وريبة، حتى من جانب يوسف خطيبها. ولكن الإيمان لا يُجادل ولا يتحير. إنه فقط يُعوّل على الله، واثقًا أنه إذا دعا إلى خدمة، أو إلى السير في طريق ما، فهو سيرشد ويحفظ رغم التجارب أو الاضطهاد. إن هدوء النفس الذي يكتنف السالك في مشيئة الله لا يُوصف. وكان ذلك نصيب مريم في تلك اللحظة. كانت النعمة المنسكبة عليها غير محدودة. وليس أقل من النعمة الممنوحة لها لتمكنها من قبول الأمر بوداعة وروح هادئة. وفي هذا المقام، كما في كونها الإناء المُختار من الله لميلاد الرب يسوع، فإن جميع الأجيال تُطوِّبها.

كاتب غير معروف