أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2013
المسيحى والسياسة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
هل للمسيحي أن يكون سياسيًا؟! هذا هو السؤال الذي نريد أن نفحصه.  ولكي يكون البحث واضحًا؛ لنذكر بعض نقاط توضِّح ماهية السياسي والصفات الخاصة به.

السياسي - كما نفهم - شخص له اهتمام كبير، ومستمر، بشئون حكومة بلاده على الأخص، وحكومات العالم الخارجي على وجه العموم.  فهو يمتدح الحكام متى رأى أنهم يستحقون المدح، وينتقدهم عندما يراهم مخطئين في شأن من الشئون.  وهو يرفع صوته بالاحتجاج ضد الظلم والغدر، الخيانة والغش والفساد وتقييد الحريات، وما إلى ذلك.  فهو يقاوم الشر قدر المستطاع في حدود القانون، ويستعمل كل حق مدني مخوَّل له للتأثير على حكومة بلاده.  وإذا قُدِّمت له الفرصة، يشترك في الوظائف ذات النفوذ والسلطان في العالم، ويستخدم مركزه لخير مواطنيه. 

المسيح مثالنا
والآن كيف يُمكننا أن نحكم إذا كان يجوز للمؤمن أن يفعل هكذا أم لا؟ الطريقة الوحيدة هي أن ننظر للمسيح كمثالنا، لأن حياته الطاهرة قد دُوِّنت في الأناجيل لهذه الغاية «تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1بط 2: 21)، فكل ما فعله كان مُرضيًا للآب «لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (يو8: 29؛ مت17: 5).  وبما أن كل كمال كان في الرب يسوع؛ فما لم يفعله هو، أو يأذن به، لا شك أنه غير مُرضٍ لله.

نسأل إذًا: هل كان ربنا - في أيام تجسده على الأرض - سياسيًا؟ هل كان له أي اهتمام بالحكم السياسي لبلاده؟ هل أوقع الحكم، أو ثار ضد الحكّام المدنيين لبلاده، فلسطين، أو على طريقتهم في الحكم؟ هل دافع عن المظلومين سياسيًا أو وبَّخ الظالمين؟ هل أظهر سلطة من أي نوع في الأمور المدنية؟

نجيب عن هذه الأسئلة فيما يلي:

(1) لقد كان تصرفه على النقيض تمامًا من تصرفات السياسيين.  لو كان سيدنا سياسيًا لتحرَّكت مشاعره السياسية بواسطة حالة أمته في العصر الذي عاش فيه.  ففي ذلك الوقت، زال كل ظل للحرية اليهودية، وكانت بلاده تئن تحت ظلم يد روما الحديدية.  هذه الحالة كانت كفيلة ولا شك لإيقاد الحماسة في صميم قلب الوطني الغيور الذي يحب الحرية.  ولكننا لا نستطيع من الأناجيل أن نقف على التغييرات السياسية التي حصلت في البلاد إلا بواسطة إشارات بعيدة جدًا ذُكرت عَرَضًا في سياق تدوين حوادث الحياة المقدسة لسيدنا الكريم.

(2) عندما كانت تُعرض على الرب فرص سانحة لأن يُظهِر الشخص السياسي نفسه، كان المخلِّص - له المجد - يرفض تلك الفرص على الدوام.  فمرة سأله أحد سامعيه أن يطلب إلى أخيه أن يُقاسمه الميراث (لو12: 13)، ولكن السَيِّد رفض أن يستمع إلى القضية، أو أن يتخذ لنفسه ذلك المركز المتواضع؛ مركز القاضي قائلا: «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟».  فلو كان واجب المسيحي أن يتخذ مركز الفصل في الأمور المدنية، لكان الرب يسوع - مثالنا الكامل في ما هو حق - اتخذ لنفسه هذا المركز، ولكنه بكل حزم استبعد العنصر السياسي من الموضوع، واكتفى بتحذير تلاميذه من الطمع.

(3) لقد قُتل يوحنا المعمدان، مُهيئ طريقه وأعظم المولودين من النساء؛ قتله ملك شرير، بحيلة أميرة زانية!  فكيف قابل الرب يسوع تلك الحادثة؟ هل رفع صوته بالاحتجاج ضد الظالم والقاتل؟  كلا.  لقد سُجِن يوحنا، ولكن الرب لم يتكلَّم بشيء عن ذلك الظلم.  ثم قُتل يوحنا، ولم ينطق الرب بكلمة أيضًا ضد ظلم هيرودس وقساوته.  ثم تقدَّم تلاميذ يوحنا «وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ.  ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ.  فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدًا» (مت14: 12، 13).  فالقضية عُرضت عليه بواسطة أتباع يوحنا، ولكنه ظل صامتًا كما كان، لأن المُخلِّص لم يكن سياسيًا.

(4) خذ حادثة أخرى «وَكَانَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ» (لو13: 1)؛ هذا موقف يُشعل غضب السياسي بسبب تلك الإهانة القومية، ويجعله يُقاوم ذلك الاعتداء الديني باعتداء سياسي.  وهنا مجال فسيح للطعن في الحكام الرومانيين وقسوتهم، ولإثارة غضب اليهود ضد الظلم الذي امتهن كرامة الديانة الإلهية الحقيقية؛ شخص وثني ينتهك حرمة عبادة الله الحي الحقيقي بأيد ملطخة بالدماء!  افترض أن حادثًا كهذا جرى في أيامنا، ماذا كان يفعل سياسيو عصرنا الحاضر؟ لنفترض أن كتيبة من الجنود أطلقت الرصاص على اجتماع لمذهب مخالف لمذهب الحكومة، بينما كانوا يؤدون الصلاة والعبادة، وأوقعت بعض المصلين قتلى وهم جاثون على ركبهم، أما كان الشخص السياسي يعتبرها خيانة عظمى أن يسكت في وقت كهذا؟

ولكن ماذا كان جواب الرب؟ «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ».  فتجاوز الرب عن الناحية السياسية، وتناول الناحية الأدبية الروحية وحدها.  هذه حادثة فريدة لا شك أنها جعلت الدم يغلي في عروق كل يهودي وطني، أما الرب يسوع فلم ينطق بكلمة تحقير أو تشنيع ضد هذه الجريمة، ولا أثنى على أولئك الجليليين كشهداء في سبيل الوطن، لأن الرب يسوع لم يكن سياسيًا.

(5) الشخص السياسي يحافظ على حقوقه المدنية، ويقول لك إنه لا يحافظ عليها لأجل نفسه فقط، ولكن ليُعطي الحكام درسًا في عدم تخطي حدود العدل.  فإذا طُلب منه دفع ضريبة ما بغير وجه حق، يعتبر نفسه ملتزمًا بأن يعارض ذلك بكل قوته.  ولكن كيف تصرف الرب يسوع في حالة كهذه؟ لقد طُلبت منه الجزية (مت17: 24)، فأثبت أنه مُعفى من دفعها، ولكنه صنع معجزة وحصل على النقود ودفعها.

(6) أثار مواطنوه مسألة وعرضوها عليه ليأخذوا رأيه فيها فقالوا له: «أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» (لو20: 22)؛ هذه مسألة خطيرة يقوم لها السياسي ويقعد، لأنه يتضمن فيها حق الرومانيين في الحكم على اليهودية، وفرض الجزية عليها بإرادتهم.  وكان الرب يعلم ظلم الحاكم، لأن القيصر الذي كان يحمل الصولجان في ذلك الوقت كان فاسدًا وخليعًا وقاسيًا وقاتلاً، ومع ذلك أمر الرب اليهود أن يدفعوا الجزية لذلك الوثني الذي ربما استخدم تلك النقود في تدعيم الوثنية وفي حروب دامية.

مما تقدم نرى أن الرب يسوع لم يكن سياسيًا.  فإن كنت أنا تلميذه فلا يليق بي أن أكون سياسيًا «يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَالْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ» (مت10: 25)، وما دام سيدنا لم يتداخل في شؤون الحكومة المدنية، فلا شك أن التداخل ليس مُرضيًا لله.  والرب يسوع لم يتصرف كسياسي، ولا أجاز للآخرين أن يتصرفوا هكذا.  بناءً على ذلك، يكون الاشتغال بالسياسة - بالكلام أو بالعمل - ليس داخلَ نطاق واجباتي كمسيحي.  إن كمال المسيح هو مثالي، لذلك يليق بي أن أرفض - بكل حزم - التداخل في السياسة كما فعل هو، لأن هذه هي دعوتي أن لا أكون من العالم كما أنه لم يكن من العالم (يو17: 14).

*  *  *  *

ربما يعترض أحدنا بالقول: أ لم يحتج بولس بجنسيته الرومانية عندما قدَّموه للجلد بالسياط؟ أ لم يرفع دعواه لقيصر عندما أدرك أن حياته في خطر؟ هذا حق؛ ولذلك يجوز للمسيحي، عندما يُقدَّم للمحاكمة، أن يستعمل كل حق يخوِّله له القانون حتى ينجي نفسه من الموت أو القصاص، حين يكون شاعرًا بالظلم في شيء لم تقترفه يداه، شريطة أن يقدِّم الدليل على براءته.  ولكن استعمال هذه الحقوق لا يندرج ضمن الممارسات السياسية، والميزات التي يتميز بها السياسيين، والتي سبق لنا وصفها.
ولنستعرض أقوى مثل على ذلك، ألا وهو ما حدث مع بولس وسيلا عندما جرّوهما إلى الولاة في فيلبي، وأولئك وضعوا عليهما ضربات كثيرة وألقوهما في السجن، بدون أية محاكمة.  ماذا كان يفعل السياسي في حالة كهذه؟ أ لم يكن يعتقد أن من حقه - بناءً على جنسيته الرومانية - أن يرفع أمره إلى روما، ليجعل من هؤلاء الولاة الظالمين عبرة لغيرهم، فيعلم الناس في جميع أنحاء الإمبراطورية أن حقوق ذوي الرعوية الرومانية لا يمكن أن يُعتدى عليها؟ ولكن هل فعل بولس كذلك؟  كلا.  حقًا إنه لما أرسل الولاة الجلادين لكي يطلقوهما رفض بولس أن يُطرد هو وزميله سرًا، وطلب أن يأتي الولاة أنفسهم ويخرجوهما، ولكنه لم يحتج عليهم أو يُبلِّغ ضدهم عند سلطات أعلى، الأمر الذي لو كان بولس فعله لاعتُبر سياسيًا، ولكنه لم يفعل.  
تعليم الرسائل
نجد في الرسائل كثيرًا من المبادئ التي تعطينا رأيًا حاسمًا في هذا الموضوع: 

(1) ما هو مركز المسيحي؟ أَليس هو غريبًا ونزيلاً في الأرض (عب11: 13-16؛ 1بط2: 11)، لذلك ليس له ثمة حق في التداخل في الأمور السياسية.  ومجرد اعترافه بأنه مسيحي يُعتبَر تنازلاً عن هذا الحق، إذ: مَن الذين يتداخلون في شؤون الحكومة المختصة في البلد؟ أَليس هم المواطنون لا الغرباء؟ فماذا يعني الشخص المصري المقيم في بلد آخر من أمر حكومة ذلك البلد؟ على أن المسيحي ليس مقيمًا بل مسافرًا، فحقّه أضعف بكثير، لأنه إذا كان لا يصحّ للغريب أن يتداخل في سياسة بلد أجنبي، فمِن باب أولى لا يحق ذلك لشخص ليس هو غريبًا ومقيمًا، ولكنه سائح مجتاز بها في طريقه إلى بلد آخر.  على ذلك يكون تداخلنا في السياسة إنكارًا منا لمركزنا كغرباء ونزلاء في العالم.

(2) إنَّ تناول المسيحي للأمور السياسية يعمي بصيرته عن مركزه الحقيقي أمام الله، ويُعطِّل الشهادة التي يجب أن يؤدّيها للعالم.  وشهادة الروح القدس للعالم هي أن العالم شرير؛ لأنه لا يؤمن بالمسيح (غل1: 4؛ يو16: 8، 9)، وأنه موضوع تحت الدينونة مع رئيسه، ولكن تنفيذ هذا الحكم مُؤجَّل بسبب إمهال الله وطول أناته، والمؤمن مسؤول عن إظهار هذه الشهادة بحياته وبأقواله.  فالمؤمن مُطالَب أن يشهد بأن الرب يسوع آتٍ لينتقم من العالم من أجل شرِّه (2تس1: 7-9)، وأن يطلب من الناس أن يهربوا من العالم إلى المسيح.  وكل من يلجأ إلى المسيح يصير مِن قطيعه، ومِن كنيسته التي ليست مِن العالم بل قد جُمعت من وسطه. 

(3) وهنا نأتي إلى الناحية النبوية.  فأولئك الذين يعتقدون بأنه من واجب المسيحي أن يتصرف كمستوطن في الأرض، ويصرّون على ذلك، يتوهمون أن العالم آخذ في التحسن، وأن الإنجيل في الأيام السعيدة المُقبلة سينتصر في كل مكان بفضل الوسائل المستخدمة الآن.  ولكن هل هذا هو الحق؟ ماذا يقول الكتاب؟ ما هو عنوان التدبير الحاضر؟ «كَثِيرِونَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (مت20: 16؛ 22: 14)، «افْتَقَدَ اللهُ أَوَّلاً الأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْبًا عَلَى اسْمِهِ» (أع15: 14).  وما هي نهاية هذا التدبير؟ «فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ الإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ» (1تي4: 1) «فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ» (2تي3: 1)، وعندما يقول العالم «سَلاَمٌ وَأَمَانٌ، حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلاَكٌ بَغْتَةً، كَالْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى، فَلاَ يَنْجُونَ» (1تس5: 3)، فالعالم شرير وسيظل شريرًا إلى أن يأتي المُخلِّص ويقبض عليه متلبسًا بشره، ويخربه بدينوناته.

لذلك نحث كل مؤمن أن يعيش منفصلاً عن هذا العالم مثل سيده الذي قال عن تلاميذه للآب: «ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم» ( يو17: 14، 16)، وكما قال الرسول: «أطب إليكم كغرباء ونزلاء» (1بط2: 11).  إن العالم ينضج سريعًا للدينونة، وكل مجهوداتك لا يمكن أن تُحسِّنه في نظر الله.  فاجمع من شوارعه التي تحت القضاء أناسًا كثيرين بقدر ما يمكنك، ولكن اترك المدينة على حالها لأن لوطًا لا يُمكنه أن يُصلح سدوم، أما سدوم فيمكنها أن تفسد لوط بل قد أفسدته.

مقتبسة من المراعي الخضراء يونيو ويوليو 1938