أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يوليو السنة 2018
فَسَكَنَتِ الرِّيحُ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ 
فَسَكَنَتِ الرِّيحُ» (مر٦: ٥١)

دائمًا ما يكون الرب الأقرب إلينا حينما تكون الحاجة الأّمّس هي إليه. قد لا نُدرك ذلك دائمًا، ولكنه حق عظيم. لقد كان إلى جوار السفينة التي تقل تلاميذه التاعبين في مواجهة عاصفة هوجاء، وهو مجهول لديهم، أو على غير انتظار منهم. فلا نقرأ مثلاً أنهم صلوا ليحضر إليهم. ما أحضره إليهم هو محبته. كان تلاميذه أعزاء كرماء لديه. وهو كان هناك نظرًا لمحبته. وما يلزمنا هو أن نتلمس محبته. وضيقتنا تقوده إلى المجيء ليكون إلى جوارنا في أحرج اللحظات. وعندما أُحسُّ بانزعاجه عليَّ، واهتمامه المترفق بي، حينئذٍ أقبله في السفينة؛ أقبله في ظروفي، وهو نفسه يتداخل فيها. عندما أدركه، فهو يُقبِل إلى ظروفي، والنتيجة المُذهلة: «صَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ».

لاحظ تفاصيل الحادثة كما شرحها الوحي في مرقس ٦: ٤٥-٥٣. وفي الآية ٤٦ يُوَضِّح البشير ملاحظة جميلة: أن الرب بَعْدَمَا وَدَّعَ تلاميذه «مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ». ولتكن هذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى العظمى لتعزيتنا. ويقينًا كان لهؤلاء التلاميذ نصيب في صلاته هذه الليلة. كان يتشفع لأجلهم، فهم ظاهريًا قد تُركوا؛ تُركوا ليواجهوا بحرًا هائجًا، وأمواجًا عاتية. إلا أن الرب لم ينسهم، وكان يُصلي من أجلهم. ولماذا كان يُصلي مِن أجلهم؟ لأنه أحبهم. فهل انقطع عن أن يهتم بتلاميذه المُجرَّبين المنزعجين، والذين ظنوا أنهم قد تُركوا ليواجهوا البحر الهائج المرعب بمفردهم؟ كلا! إنه – في الماضي والحاضر والمستقبل - هو هو. واليوم، وهو على جبل المجد، بل في يمين الله، يُصلي مِن أجل خاصته، كما يذكر لنا الرسول بولس في رومية ٨: ٣٤ «الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا!».

ولقد قيل: عظيمة هي محبة الرب تجاهنا، حتى إنه لو استلزم الأمر فإنه سيأتي ثانية، من السماء، ليُقاسي آلام وموت الجلجثة المُرعب، لأجلنا. ولكن شكرًا للرب أنه لا يلزم ذلك قطعًا «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ» (عب١٠: ١٤). ولكن الأمر يستلزم حياته ليخدمنا بشفاعته. وهذا هو عين ما يفعله وما سيفعله إلى النهاية، لأن محبته التي تملأ جوانحه غير متغيرة، هي ذات المحبة التي دفعته ليُقدِّم نفسه ذبيحة على الصليب لأجلنا.

وينبغي أن ندرك بأكثر فاعلية هذه المحبة الحية، وخدمة ربنا الحية تلك لأجلنا، لأنها حتمية لخلاصنا اليومي. إنها خدمة مستمرة دائمة فعالة؛ فهو حيّ ليشفع لأجلنا.

هذا وبينما قلبه وصوته يصرخان من أجل تلاميذه فيما تلاطمهم العاصفة، إلا أن نظره لم يتحوّل عنهم. تخبرنا الآية مرقس ٦: ٤٨ أنه «رَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ». وكما كان، هكذا هو الآن؛ هو يُراقب خاصته. هو يُصلي لأجلهم. وهو يراهم. قد يكون ثمة أحد طريح فراش الألم، بلا رجاء في راحة فيما هو هنا، وآخر تطحنه تجربة ظروف تهدده بحرمانه من كل استنارة، وتُبدل أغانيه إلى تأوهات متصلة. وثالث يزحف وحيدًا، ويتعثر في طريق مظلم بارد موحش، والموت يقترب منه لينشب فيه أظافره. الرب يرى أولئك، فضلاً عن جميع القديسين الذين يعانون ويُقاسون، بل هو يعيش ليشفع لأجلهم، وليقترب إليهم في ضيقاتهم، ليجعلهم أعظم من منتصرين فيما هم يجتازونها.

«رَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ ... أَتَاهُمْ» ... فاحتياجهم ومحبته جمعتهم هناك. كان يجب أن يستنفدوا كل مجهوداتهم بغية الوصول إلى مرفأ آمن، قبل أن يصل إليهم يسوع. وعندما فرغت كل قوتهم، وفشلت مهارتهم كبحارة متمرسين، جاء إليهم يسوع. عندما ألقوا مجاديفهم جانبًا، وكفوا عن الصراع، جاء إليهم يسوع، ليدخل سفينتهم، وليجتاز معهم ظروفهم؛ يسكب عليهم سلامه، ويُقاسمهم إياه، وليقودهم إلى هدوء عظيم.

وهكذا الحال اليوم، فإن محبته تستحضره سريعًا ليُريحنا، ليس بالضرورة تتغيَّر الظروف، ولكنه يُغيّرنا نحن، ويُهدئ روعنا بحضوره، ويُصيّرنا أعظم من منتصرين بواسطة محبته. ولكن كثيرين من القديسين يفتقدون ذلك! لماذا؟ لأنهم يصرون على التجديف تاعبين؛ يصرون على مجابهة تجاربهم بقوتهم الخاصة، ومن ثم يرزحون - باعتبارهم آنية خزفية – تحت حمل الخوف من الأمواج المُزبدة، ومن رب هذه الأمواج آتيًا إليهم عليها (ع٤٩). ولكن معاناتهم أتاحت له الفرصة ليتدخل. وعندما أُعدموا القوة، صار هو قوتهم. وقد نالوا ذلك عند شعورهم بقربه منهم، وهذا غيَّر الموقف برمته: «فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ قَالَ لَهُمْ: ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا» (ع٥٠). وكان ذلك كافيًا لهم، كما هو كافٍ لنا الآن. فشفيعنا العظيم يُصلي لأجلنا، ويرانا، ولا يتوانى عن المجيء إلينا. وهكذا فإننا به ومن خلاله يمكن أن نُصبح أعظم من منتصرين، وذلك لأننا نعلم أن لا شيء يُمكن أن يفصلنا عن محبته «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟» (رو٨: ٣٥)، بل إن هذه جميعها تُقرّبه إلينا لأنه يُحبنا، ولأن الذين خلصوا بدمه، سيخلصون بحياته «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ!» (رو٥: ١٠). نعم، ولئن كنا نعبر وادي ظل الموت، إلا أننا نثق فيه ولا نتذمر عليه، بل نعبر رافعي الرأس منتصرين، لأنه موجود حيثما تحل أعظم تجربة، وسيظل هنا حتى نهايتها. إنه رئيس الكهنة العظيم، والشفيع، وقائد خاصته، الذي يُنادي: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ» (عب١٣: ٥).

ج. ت. ماسون