أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
تعجبنا كلنا رحلة الابن المُسرف التي قام بها من الكورة البعيدة، أرض مذلته وتعاسته، متجهًا إلى بيت أبيه (لو15)، لأنها صورة مؤثرة لرجوع الخاطئ التائب، تحت عمل وإرشاد الروح القدس، إلى الله. على أنه توجد في الإنجيل رحلة أخرى تختلف عن رحلة الابن المُسرف اختلافًا كُليًا، أو بالحري تتناسب معها تناسبًا تبادليًا مَحضًا. ونعني بها رحلة ذاك المجيد الذي أتى من السماء، من عند الآب، متجهًا إلى الكورة البعيدة. مفتشًا عن ضالته في عالم الخطاة. إنه ـ تبارك اسمه ـ هو الذي نراه قائمًا بتلك الرحلة الثانية، فنراه يذهب إلى السامرة النجسة، التي هي صورة لهذا العالم المرفوض، إذ إنها كانت كالأبرص، منفصلة انفصالاً كاملاً عن أرض البر والقداسة، ومُعتَبرة
 
 
عدد أبريل السنة 2008
ومن فم الرب لم يسألوا - ومن فم الرب لم يسألوا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

كان داود رجل الله يستشير الرب عادة، ولو أنه في بعض الأحيان لم يستشر الرب. وفي هذا العدد سنتحدث عن المرة السابعة التي فيها استشار داود الرب

 (7)

"ثمَّ عاد الفلسطينيين فصعدوا أيضًا وانتشروا في وادي الرفائيين. فسأل داود من الرب، فقال: لا تصعد بل دُر من ورائهم وهلمَّ عليهم مقابل أشجار البُكا، وعندما تسمع صوت خطواتٍ في رؤوس أشجار البكا، احترص، لأنه إذ ذاك يخرج الرب أمامك لضرب محلَّة الفلسطينيين. ففعل داود كذلك كما أمره الرب، وضرب الفلسطينيين من جبع إلى مدخل جازر"  (2صم5: 22-25)

إن كنَّا نتعجب من روعة داود في شغفه الدائم لمعرفة فكر الرب، وفي أنَّه لا يمل على الإطلاق من الدخول إلى الرب في كل مناسبة ليسأله، فإنَّ تعجبنا يزداد في هذا الموقف بالذات، فإنَّ المشهد الذي أمامه هو متكرر، ولا يوجد فيه أي حدث جديد، فها هم الفلسطينيون ذاتهم يصعدون للقائه مرّة ثانية، وقد سبق وسأل الرب بصدد ذلك، وكانت إجابته واضحة وصريحة، ولقد استجاب داود لأمر الرب، وكانت النتيجة رائعة وعظيمة، فلقد ضرب الفلسطينيين وأحرز انتصارًا عظيمًا، فلا يوجد أي موجب يدعو داود الآن بأن يعود مرَّة أخري ليسأل الرب. غير أن سؤال داود للرب، يُعبِّر عن منهاج حياة الرجل الروحي.
 إنَّه لا يسأل الرب كمجرَّد مظهر شكلي، ليظهر للناس كالرجل الحريص على فكر الرب، كما افتعل ذلك شاول الملك مرَّة (1صم14: 16-20).  ولا هو يسأل الرب كروتين يومي، كعمل يؤديه دون وعي أو تركيز، وكأنَّ الصلاة بالنسبة له ليست سوى تُميمة حظ، الأمر الذي أشار إليه الرب، وهو يتكلم عن الأمم الذين يُقدِّمون عبادة جامدة بلا قوَّة أو حياة، إذ في صلاتهم يكرّرون الكلام باطلاً، أي بلا فهمٍ أو وعي (مت6: 7).  ولا هو يُقدِّم صلاته للرب كمن بذلك يُضيف إلى رصيد برّه الكثير، كما ظنَّ ذلك الفريسي، والذي دخل متباهيًا في محضر الرب، يُعدّد ما يفعله (لو18: 9-12).  لقد كان داود بحق يشعر على الدوام بعجزه عن اتخاذ أي قرار بمفرده. إنَّه يُدرك أنَّ السبيل الوحيد للأمان والبركة هو أن يسأل الرب.

 وكم هو معزٍ لنا أن نُدرك أنَّه ليس مضيعة للوقت- حاشا - في أن نعوِّد أنفسنا أن نسأل الرب في كل أمور حياتنا.  والعجيب أن إجابات الرب لنا ليست دائمًا واحدة، فهو “الإله الحكيم وحده” (1تي1: 17)، والذي «عنده الحكمة والقدرة، له المشورة والفطنة» (أي12: 13؛ انظر أيضًا أمثال8: 14).

ففي الموقف الذي أمامنا نجد أنَّ الرب أعطى لداود إجابة مختلفة، رغم تشابه الموقفين كما ذكرنا!! وكأنَّ الرب - تبارك اسمه - أراد أن يُكافئ عبده داود، على حرصه الشديد في أن يسأله. فهذه هي المرَّة الوحيدة التي فيها ينزل الرب بنفسه ليُحارب أمام داود!! فعند أشجار البُكا، تُسمَع خطوات الرب، حيث يضرب محلَّة الفلسطينيين!

وما أروع هذا المشهد بما يحمله من معانٍ رائعة ودروس غنية! ألا نرى في المشهد صورة لأعظم معركة شهدتها السماء، والتي كانت بين الرب - تبارك اسمه - والشيطان رئيس سلطان الظلمة؟

إنَّنا نرى في صوت خطوات الرب، صوره لتجسد الرب يسوع، فصوت الخطوات لا تُسمع سوى من أرجل إنسان، وهذا ما يُعلنه الرسول: «عظيم هو سر التقوى الله: ظهر في الجسد» (1تي3: 16).  إنه دخل المعركة مع الشيطان كإنسان.  لقد أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في2: 7، 8).

ونرى في أشجار البُكا، والتي يسيل منها قطراتٍ كالدموع عندما تُجرح، صليب الخشب، وربّ المجد مُعلَّقًا عليه، والذي عندما طُعن بالحربة سال من جنبه دم وماء.

ونرى في ضرب الفلسطينيين والنصرة العظيمة التي تمَّت، نصرة الرب الحاسمة على الشيطان «إذ جرَّد الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه )أي في الصليب(» (كو2: 15). فما أروع إلهنا! والذي يحقّ لنا أن نفخر ونعتز به، ونتسابق جميعًا أن نجلس أمامه رافعين عيوننا نحوه، وموجهين آذاننا إليه، مردّدين قول داود: «نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل» (مز34: 5).

(يُتبَع)

عاطف إبراهيم