أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2016
ببراهين كثيرة قاطعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ» (لو٢٤: ٢٨)

وصل تلميذا عمواس إلى مقصد رحلتهم بأسرع مما توقعوا، وفي الحقيقة بأسرع مما رغبوا. والآن تصرَّف الغريب الذي كان يُصاحبهم كمن يرغب في استمرار رحلته، رغم أن حلول الغسق قد أوشك. ولمن من بين الناس كان له الحق في بيتهم ومائدتهم؟ فلو لم يدعياه للبقاء معهم لذهب في الغسق. فيا للمشاعر الحساسة! وهكذا كل شيء متعلق به مُحبَّب وكامل الجمال* «وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ» (نش٥: ١٦). ولكن هل قدروا أن يدعوه يذهب في طريقه!

«فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: امْكُثْ مَعَنَا، لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ» (لو٢٤: ٢٩). وبلا شك أن اهتماماتهما كانت منصبة نحو هذا الغريب بكل أمانة وانتباه. ولكن – فوق كل شيء آخر – كانت رغبتهما أن يتمتعا بصحبته لمدة أطول، ولذلك “أَلْزَمَاهُ”. لقد أوقفاه، وسدا عليه طريق الاستمرار**. وكم فرح هو داخليًا إذ أَلْزَمَاهُ. وبنفس هذه الكيفية ليدية بائعة الإرجوان ألزمت خدام الرب أن يأتوا ويدخلوا بيتها، بعد أن «فَتَحَ الرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ» (أع١٦:١٤، ١٥).

أيها القارئ العزيز: ما هي استجابتك للرب إذ تقرأ هذا؟ ألا تُحبّ أنت أيضًا أن تقف في طريقه لكيلا يتجاوزك؟ أم أن قلبك مملوء بأشياء أخرى، مثلما كانت الحالة مع أهل كورة الجدريين، الذين كانت خنازيرهم النجسة تعني لهم أكثر مما فعل الرب يسوع، حتى «ابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ» (مر٥: ١٧).

والرب لا يُقحم نفسه على أحد. ولكنه لا يقدر أن يُقاوم إلحاح التلميذين «فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا» (ع٢٩). وإلزامهما جعل من الممكن أن يُكمل الرب ما أراد أن يفعله في قلبيهما.

وها هو الغريب قد دخل بيتهما وأصبح على مائدتهما. ولكن الشيء الجدير بالملاحظة أنه وهو الضيف المدعو، قد أخذ منذ البداية وضع المُضيف ورب البيت. وإذ اتَّكَأَ مَعَهُمَا على المائدة «أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا» (لو٢٤: ٣٠).

والآن نأتي إلى المشهد الثالث لهذه الدراما الصغيرة، وكل من تفاصيلها الثمينة تصل إلى قلوبنا. وكل شيء الآن يتركز على هذا الغريب. ونحن بالطبع نعلم اليوم أن أهلٌ تمامًا للموقع الذي أخذه بينهما. ولكنه جاء كمفاجأة كبرى لهذين التلميذين.

كيف أمسك بالخبز بطريقة لا يمكن تقليدها؟ وكيف باركه هكذا؟ مَن يستطيع أن يُقدّم شكرًا قلبيًا مثل هذا من أجل هذه العطية من الله؟ لا أحد كان يُمكنه أن يُقدّم بهذه الكيفية سواه. لا بد أنهما حملقا في هذا الغريب بدهشة هادئة. فهكذا بالضبط قد وزع الخمسة الأرغفة، وكذلك السبعة الأرغفة للجموع الجائعة. وهكذا أيضًا أعطى الخبز الذي قال عنه أنه جسده في ذلك الاجتماع الذي لا يُنسى في العلية (مت١٤: ١٩؛ ١٥: ٣٦؛ ٢٦: ٢٦).

«فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ» (لو٢٤: ٣١). ومن المؤكد أنهما لم ينسيا قط تلك اللحظة. فمثلما كشفت نبرة صوته عن شخصه لمريم المجدلية، إذ كان واقفًا من ورائها، هكذا رُفع الحجاب عن أعين هذين التلميذين عند رؤية يديه هنا عندما بارك الخبز وناولهما. لقد عرفا حقًا أن الرب نفسه هو الذي اقترب إليهما على الطريق، وعلَّمهما بطريقة فريدة من كلمة الله.

وهل كانا يحتاجان المزيد ليعرفا؟ حقًا إنما كان يفعل كالمعتاد في أيامه في هذا الأمر (أع٢٧: ٣٥). وهذا المشهد لم يتضمن شيئًا غريبًا مثلما في عشاء الرب، ومع ذلك فما كان بالإمكان ألا يذكرهما كسر الخبز بموته. فالذي مات ها هو يُعلن نفسه كالحي والذي قام من الأموات. وإذ انفتحت أعينهما اختفى كل الحزن وخيبة الأمل، إذ نظرا “الحي من بين الأموات”.

ويا لها من لحظة في يومنا هذا حينما يُمسك أحد المؤمنين بهذه الحقيقة! ويا لها من لحظة إذ ننتقل من الإيمان إلى العيان! وعندئذٍ «سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يو٣: ٢)؛ هو الذي سار معنا بأمانة كل الطريق، والذي لم يكف قط عن أن يُرشدنا ويُشجعنا من خلال سلطان كلمته. وحقًا إننا لسنا هناك معه بعد، ولكن من الخطأ أن نظن أننا لا نقدر بالفعل أن نذهب في طريقنا بكامل الفرح.

وبالنسبة للتلاميذ، لم تكن هذه اللحظة قد جاءت بعد. وكما حدث مع مريم، كان لهم أن يروا السَيِّد وهو “يخْتَفَى عَنْهُمَا” (ع٣١). ولكن الرجال والنساء الذين تبعوه، لم ينوحوا إذ غادرهم، ولم يجأروا بالشكوى عندما ارتفع عنهم إلى السماء بعد أربعين يومًا، مثلما اكتشف الوزير الحبشي أن فيلبس قد خطفه روح الرب، ولكنه «ذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحًا» (أع٨: ٣٩). وهكذا فإن قلبي هذين التلميذين امتلأ بالفرح إذ استطاعا أن يمضيا بغير حضوره الجسدي، فالآن قد علما يقينًا أنه حيّ. وتعاليمه وكلماته والذكريات عنه والطريقة التي كان ينظر بها إليهما، كلها ظلت باقية. وبدلاً من أن تصيبهما ثانية خيبة الأمل «قَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟» (لو٢٤: ٣٢).

وهذا ما يحتاجه اليوم قديسوه؛ أن قلوبنا تلتهب فينا بالكلمة. هذا ما يُثبتنا كمرساة في وسط عواصف الحياة اليوم. وهناك أيضًا – مع ذلك – نوع آخر من النار يلتهب في قلوبنا، حينما نقمع الحق الذي نعرفه، بدلاً من أن نتبعه. ويُكلمنا الكتاب عن هذا النوع من النار الملتهبة في مزمور٣٢: ٣، ٤؛ ومزمور٣٩: ٢، ٣؛ إرميا٢٠: ٨، ٩. وكثيرًا ما وقعت أصوات في قلوبنا لتجعلها تشتعل فينا، وتحرقها بدلاً من أن تُدفئها. ولكن مع هذين التلميذين اللذين كانا على الطريق إلى عمواس، فقد التهبت النار فيهما، وأدفئت قلبيهما بدلاً من أن تحرقهما. ويا له من اختبار منعش للقلب عندما يحدث لنا مثل هذا كثيرًا. والأصوات الغريبة الكثيرة من حولنا لا تُحدث هذا الاختبار الجميل، ولكن بالأحرى صوت الراعي الصالح المعروف لنا جيدًا، والذي كلماته «رُوحٌ وَحَيَاةٌ». وقال بطرس مرة لنفس الراعي: «يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ» (يو٦: ٦٣، ٦٨). ويا للأسف، كثيرًا ما نجلس لنسمع الفقاقيع بدلاً من كلام الحياة الأبدية.

«فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ» (لو٢٤: ٣٣). والآن قد أصبح قلباهما مشغولين بشخص الرب المُقام، ومن ثم لم يكن لهما أن يظلا هناك بعد أن أزال عنهما الشك واليأس. وبدون تردد «قَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ»، ولم يُلقيا التفاتًا إلى الرحلة الطويلة المُتعبة التي أمامهما، كما لم تُعيقهما عتمة الليل، فقلباهما الملتهبان كانا مشتاقين للشركة مع الأحباء، ومتعطشين لأن يقصا الأخبار المجيدة المُفرحة عن قيامة سَيِّدهما.

ولكن الرب في الوقت نفسه كان يعمل بالنعمة أيضًا فيمن ظلوا هناك في أورشليم. فما أن وصل التلميذان من عمواس إلى حيث الآخرين، حتى صافحت آذانهم الأخبار «إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!»* (ع٣٤). ومن ثم ابتدءا هما يرويان ما حدث «وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ» (ع٣٥).

«إِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ» (مت١٢: ٣٤)، ولذا فمن قلوبنا التي “تلتهب” بانشغالنا بالرب تأتي الأقوال والأفعال التي تُمجد وتُعظّم اسمه الذي هو فوق كل اسم.

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إن كلمة “تَظَاهَرَ” لا تعني مطلقًا أنه شرع في شيء غير صحيح أو غير جاد. وعسل المجاملات البشرية غير الجادة أبعد ما يكون عنه، مثلما كان الخمير مستبعدًا من “قربان الدقيق” الكامل الذي يُشير إلى حياة الرب (لا٢: ١١).

** الكلمة اليونانية “أَلْزَمَاهُ” تعني ضمنًا استخدام القوة. وهذا التعبير مُماثل للتعبير “يُغْصَبُ” أو “يَغْتَصِبُ” الذي جاء في إنجيل متى١١: ١٢ وإنجيل لوقا١٦: ١٦.

فريتز فون كيتسل