أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يوليو السنة 2011
هاجر والبئر - دروس ورموز
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
في تباين شديد مع حياة إبراهيم الرزينة العالية الهادئة، تبرز تلك القصة المؤسفة - قصة هاجر، تلك المرأة الجارية التي تُمثل الفرق بين جلال الإيمان في جو “الحرية” التي حررنا بها المسيح، وبين “العبودية” لمبادئ الناموس «لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ» (غل4: 25).
كان تدبير الناموس نظامًا لامتيازات مشروطة بالطاعة لكل وصية من وصاياه، وهو يقابل أورشليم الأرضية، وإسماعيل هو الرمز الذي يمثل العبودية؛ هو رمز لذلك النظام الناموسي.  ومن الجهة الأخرى كان إسحاق رمزًا لنظام روحي أسمى من جميع النواحي.  وُلد إسحاق ليس حسب الناموس الطبيعي، بل بوعد رغم شيخوخة إبراهيم ومماتية مستودع سارة، ولكن الإيمان صدَّق هذا الوعد.  إسحاق يُقابل أورشليم السماوية.  لكن رغم أن إسحاق جاء متأخرًا عن إسماعيل في زمان ولادته، لكنه كان هو المُتقدم على إسماعيل في مقاصد الله.  فإن الله أعطى الوعد بإسحاق قبل مولد إسماعيل بسنوات.
«فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ.  لَكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ.  وَكُلُّ ذَلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ (هاجر وسارة) هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ» (غل4: 22-24).  وإسماعيل يمثل أولاد عهد الناموس - تحت طاعة مشروطة، وفي عبودية.  وإسحاق يمثل أولاد عهد الإيمان؛ «الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ» (غل5: 6)، والذين يثبتُون «فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا» (غل5: 1).
أيضًا يمثل إسماعيل تدبيرًا جسديًا ماديًا، كما يمثل إسحاق تدبيرًا روحيًا «وَلَكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ» (غل4: 29).  وفحوى أقوال الرسول هو أن المؤمنين - الذين وُلدوا من الله بكلمة نعمته وبعمل الروح القدس - هم أولاد أورشليم السماوية المرموز إليها “بسارة”.  ولنقرأ ماذا يقول الكتاب: «وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ» (غل4: 29)، ولا علاقة لنا بالجارية ولا تربطنا بها أيّة رابطة أدبية، لا بالعبودية الناموسية ولا بالطاعة الشرطية.  وكان الأمر لإبراهيم هكذا: «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ.  إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ» (غل4: 30، 31).

الإيمان أساس التبرير

جميع الذين يتخذون لأنفسهم أساسًا للتبرير أقل من نعمة الله المُطلقة، وينظرون إلى دواخلهم بحثًا عن أساس الخلاص، ويخافون من نقائصهم وعيوبهم، إنما يتزمتون ويتعصبون ضد كفاية عمل المسيح المطلقة.  وكل الذين يرجعون إلى الناموس لأجل التبرير أمام الله، أو يتخذون منهاجًا للسلوك يضعونه لأنفسهم ليلتزموا بتنفيذه لإرضاء الله، فهؤلاء يقول لهم الرسول إنهم باختيارهم يطلبون أن يكونوا أولادًا لهاجر الجارية، ويرفضون سارة الأميرة أُمًّا لهم، ويطلبون أن يكونوا مواطنين في أورشليم الأرضية، مُفضلين إياها على أورشليم السماوية.
بالاختصار يرغبون في أن يكونوا يهودًا وليسوا مسيحيين.  لكن الكتاب حاسم وقاطع في هذا الأمر.  لأن هذا النصيب الذي يسعون إليه يدينهم بالطرد، إذ يقول الكتاب: «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا».
لقد كان الغلاطيون متورطين في هذه المبادئ الطبيعية والأركان البشرية.  والرسول يتوسل إليهم بكل لطف أن يخرجوا من هذه الأركان الضعيفة الفقيرة.  تلك المبادئ لم تكن في ذاتها ضعيفة أو فقيرة، بل هي كذلك بالمقارنة مع قوة ووفرة وغنى الإنجيل ومبادئه السماوية الروحية.  وإذًا فالرجوع إليها معناه تفضيل القيود على الحرية، والظل على الجوهر، أو تفضيل الهيكل العظمي على الجسد الحقيقي.  وهو تفضيل حياة إسماعيل الكادحة على حياة إسحاق الناعمة المُكرَّمة، وتفضيل هاجر الجارية كأُمّ على سارة الحرة كزوجة وأميرة، إن لم نَقُلْ هو تفضيل الدينونة على التبرير، وتفضيل اللعنة على البركة، وتفضيل موسى على المسيح.
«إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا ... لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ.  لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ!» (غل2: 16، 21).

هاجر ونعمة الله

في تاريخ هاجر الشخصي مثال (ولا نقول رمزًا) لمعاملات نعمة الله مع خاطئ ضعيف يائس.  هي جزئيًا بسبب غلطة من جانبها، وجزئيًا بسبب الظلم وسوء الحظ، وجدت نفسها في موقف تعيس للغاية، ومع ذلك ذكرها الله ونظر إليها وكان رحيمًا معهما.  كانت هاجر على شفا الموت عطشًا رغم أنها كانت على مقربة من عين الماء (تك16: 7).  ولم نقرأ أنها ذكرت الله أو طلبته (راجع تكوين21).  لكن ملاك الرب ناداها من السماء قائلاً لها: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ».  كانت هاجر عمياء عن نبع الخلاص إلى أن «فَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ»، وخلصت من الهلاك عطشًا.  وأكثر من ذلك سمعت وعدًا من الله في ابنها الذي سوف تكون له تخوم واسعة وبركات زمنية، وأنها سوف تشد يدها به «قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً» (تك21: 17-19).
صحيح، الله قد صادق على أن تُطرد هذه الجارية من بيت إبراهيم، لكنه أسدل عليها ستره في زمان تيهانها.
كانت البئر في برية بئر سبع، وذلك من قبل أن تنفتح عيناها وتراها.  الله هو الذي هيأها في الوقت المناسب؛ في وقت تكون حاجتها إليها ماسة جدًا.  وهو الذي هَدَى خطواتها إلى طريق تلك البئر وفتح عينيها لتبصرها.  كل ما كان على هاجر أن تفعله هو أن تأخذ وتشرب لما نضبت مواردها البشرية «لَمَّا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ» (تك21: 15).  نعم ما كان عليها إلا أن تأخذ وتشرب مما أعدته نعمة الله المُحسنة في برية مُقفرة.

عين الماء

تصوِّر لنا عين الماء في تلك الأرض اليابسة، المسيح الذي ضُرب على الصليب، ضربة تَفجَّر بعدها الماء، ينبوع ماء حي ينبع إلى حياة أبدية.
البئر هي حفرة في الأرض عملت فيها المعاول ويد الإنسان جرحتها، فكان رد الفعل نبيلاً إذ أخرجت ماءها لتُبقي على حياة المشرفين على الهلاك.  تمامًا مثل تلك الشجرة الطيبة عندما تجرحها يد الإنسان فتعطي بلسمًا شافيًا، أو مثل النخلة التي عندما تُرشق بالحجارة، تعطي أحلى الأثمار.  هكذا أُمر موسى أن يضرب الصخرة (خر17) عند “مَسَّة” فجرى الماء غزيرًا «وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ» (1كو10: 4).
في يوحنا4 عند بئر سوخار وُجدت امرأة خاطئة يائسة وبلا رجاء، إلى أن انفتحت عيناها، بعمل الله في داخلها، على ذلك النبع الروحي الحقيقي، وسمعت تلك الكلمات الطيبة: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو4: 10).  وقد أعطاها هذا الماء الحي واستقت هي مِيَاهًا بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الخَلاَصِ (إش12: 3).  وهكذا أيضًا، فإن المسيح في حياته يُعطي ويرحم، يمنح ويُحسن، رغم الرفض والاحتقار، ورغم التطاول والإهانة.
قديمًا ترنم الشعب حول بئر أعطاها الرب للشعب السائر في البرية.  فأنشدوا حولها هذا النشيد: «اِصْعَدِي (أي فيضي) أَيَّتُهَا البِئْرُ! أَجِيبُوا لهَا.  بِئْرٌ حَفَرَهَا رُؤَسَاءُ، حَفَرَهَا شُرَفَاءُ الشَّعْبِ، بِصَوْلجَانٍ، بِعِصِيِّهِمْ» (عد21: 17، 18).  وما كانت تلك إلا صورة للمستقبل القريب، عندما يلتف ذلك الشعب حول البئر الحقيقية بفرح في يوم عتيد، يستقون من نبع الحياة ويهتفون.  إن المؤمنين الأمناء وهم يعبرون وادي البكاء يجدون، بالنعمة، تلك البئر وماءها الحي، تحدو خطواتهم إلى آخر الطريق.
أيها الأحباء: لو فكرنا فيما نستحقه لقلّ بالقطع نصيبنا جدًا جدًا.  لكن إذا رفعنا العيون إلى فيض وسخاء الله المُعطي، فستتسع أمامنا آفاق البركة، فنأخذ من فيضه هدايا ومواهب وعطايا «أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا.  هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْرًا وَلَبَنًا» (إش55: 1).

  بئر عِسِق – بئر سِطْنَه

 البئر بطبعها هادئة وساكنة، تُعطي وتجود باستمرار، وكل مَنْ يميل إليها يستقي منها قدر حاجته وطاقته، وهي تُعطي الجميع مع اختلاف الجنس والنور.  إلا أنها عادةً ما تكون فرصة للخصام المُرّ كما حدث في أيام إبراهيم «وَعَاتَبَ إِبْرَاهِيمُ أَبِيمَالِكَ لِسَبَبِ بِئْرِ الْمَاءِ الَّتِي اغْتَصَبَهَا عَبِيدُ أَبِيمَالِكَ» (تك21: 25).  وفي أيام إسحاق «خَاصَمَ رُعَاةُ جَرَارَ رُعَاةَ إِسْحَاقَ قَائِلِينَ: لَنَا الْمَاءُ.  فَدَعَا اسْمَ الْبِئْرِ عِسِقَ لأَنَّهُمْ نَازَعُوهُ.  ثُمَّ حَفَرُوا بِئْرًا أُخْرَى وَتَخَاصَمُوا عَلَيْهَا أَيْضًا، فَدَعَا اسْمَهَا سِطْنَةَ» (تك26: 20، 21).  ورغم كل شيء، لا تزال سياحة المسيحي، هي مراحل كفاح.  وإن كان الأعداء لا يقدرون أن يطموا البئر، لكنهم يحاولون أن يحرموا المؤمنين منها.  وتتكرر المحاولات مرة ومرتين ومع ذلك لا بد أن يصل السائح إلى “رَحُوبُوتَ” (تك26: 22) حيث هناك أرض «بَعُولَةَ (غير موحشة)» (إش62: 4).  ثم يصعد إسحاق من هناك إلى “بِئْرِ سَبْعٍ” حيث يسمع الوعد: «لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ، وَأُبَارِكُكَ وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ مِنْ أَجْلِ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِي».  فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ. وَنَصَبَ هُنَاكَ خَيْمَتَهُ. وَحَفَرَ هُنَاكَ عَبِيدُ إِسْحَاقَ بِئْرًا» (تك26: 24، 25).
بهذا المعنى يقول الرب: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ.  مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا» (مت10: 34).  يتخاصم الكل من حولها أحزابًا، وكل حزب يريد احتكارها لنفسه، والبئر لا تتوقف في عطائها بسبب تصادم الكلمات الحادة حولها، ولكنها تستمر تجود بماء الحياة.  اختلفوا حول المسيح عن شخصه وعمله وموته، لكنه لم يَزَل يُعطي ويرحم ويُحسن «وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ.  وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا» (رؤ22: 17).

شنودة راسم

 


شنوده راسم