أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2016
بطرس
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

(لو٥: ١-١١؛ يو٢١: ١-١٤)

للنفس تاريخها كما أن للجسد تاريخه. والنفس تجوب رحلاتها في أوقات، كما الجسد أيضًا. هذا ما نعرفه، وما اختبرناه. وروح بطرس ذهبت في رحلة عجيبة في لوقا ٥. فأولاً: ها هو هناك في مكانه الطبيعي؛ رجل ودود عطوف دائمًا. جاد في حبه وفي خدمته. ونظرًا لكونه كذلك، فقد رحب بأن يُعيْر قاربه لهذا الغريب العجيب الذي كان يخطب في الجمع، على شاطئ بحيرة جنيسارت. حتى عندما جرؤ هذا الغريب لأن يطلب من بطرس أن يدخل إلى عمق المياه ويُلقي شباكه للصيد، أطاعه.

إلا أن كل ذلك لا يزال طبيعيًا. لم يتجاوز ما هو طبيعي. فهو – بالطبيعة – ودود صدوق لين الطباع. ومن ثم أجاب يسوع قائلاً: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلَكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ».

والآن تبدأ رحله نفسه؛ رحلة عجيبة، طويلة، كما لو كانت زوبعة. مركبات إسرائيل وفرسانها كانت واقفة تنتظره. فصيد السمك الكثير جدًا، على كلمة هذا الغريب، أدهشت نفس بطرس، وحملته على الفور إلى محضر الله. فالغريب تحوَّل أمام نفسه كما في طرفة عين، فإذا هو رب البحر وملئه، الذي يأمر السمك. وإذا ببطرس في محضر الله، الله الحي، إله المجد كان هناك، ولم يعرفه بطرس حتى الآن! أخذه المنظر، وهناك تعلَّم حقيقة نفسه، فاعترف: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ». لن يعد “مُعَلِّمٌ” بل “رَبٌّ”. ولم يعد بطرس صياد السمك الذي تعب الليل كله وهو يُلقي شباكه، بل بطرس الخاطئ. إنه عالم جديد بالنسبة له؛ عالم لمعانه ساطع قوي. فإذا هو في محضر الله. وهذا كثير جدًا بالنسبة له. هو يتعلَّم حقيقة ذاته حيث فقط يُمكننا أن نتعلَّمها على حقيقتها؛ في حضور مجد الله. كلنا أخطأنا وأعوزنا هذا المجد. ولكن نفوسنا لا تكتشف ذلك إلا عندما يصل هذا المجد إلينا لأول وهلة.

كانت تلك رحلة بالفعل! فبطرس أُخذ من أرض ميلاده، ومن طبيعته الوادعة العطوفة، وإن تكن متمردة (أقول متمردة لأنه لا يقدر أن يثبت أمام الله)، أُخذ إلى محل مجد الله. وها هو يُدرك هذا المكان في بهائه. وكان بهاءً مذهلاً.

ولكن عليه أن يتقدم إلى الأمام إلى هذا العالم الجديد. لا يزال عليه أن يسير قدمًا. وكانت كلمة الرب، كلمة الإله المجيد والذي تكشَّف مجده وحقوقه، والتي قد أُعلِنت له، هي التي ينبغي أن تقوده. فقال له يسوع: «لاَ تَخَفْ!». وعندما أطاع، وتبع هذه الكلمات إلى حيث تقوده، انتهت رحلته. وها هو يسكن إلى الأبد المكان الذي بلغه الآن. ترك أرض ميلاده، وترك طبيعته، ليصل إلى محضر الله. واكتشف أن هذا البيت هو مقر الخطاة المساكين المُدانين المجرمين.

ثم هناك رحلة أخرى ضمن رحلاته الكثيرة، كانت نفس بطرس – يقينًا – على وشك أن تبدأ بعد أيام. كان عليه أن يسمع توبيخات من الرب، وهذه لا بد أن تُعطي النفس فصلاً في كتاب تاريخها، أو تصحبها إلى الأمام في الطريق الحي الذي وضعه الله أمامها، وحيث يحملها روح الله. ولكني مهتم فقط برحلة واحدة إضافية، تعيَّن على هذا الرجل المحبوب الجاد أن يقطعها بإرشاد يد الرب؛ أعني رحلته في يوحنا ٢١: ١-١٤.

نرى بطرس هنا مجددًا في رحلة صيد. منظر طبيعي حلو. وهو مثال يُعطى لنا ليكشف الحق غير المزوق أو المزيف لكلمة الله. فبطرس وبعض رفاقه يبحرون عبر بحر الجليل. ومرة أخرى يُخاطبهم ذلك الغريب، وبنفس البساطة والمحبة والمودة، والتي ميَّزته دائمًا. في المرة الأولى عمل بطرس كما طلب منه الغريب. وبذات النعمة التي ظهرت في المرة الأولى، يُكافئهم الغريب هذه المرة أيضًا بصيد سمك وفير. وكانت تلك علامة مُميِّزة له، أو قل صارت خصلة خاصة يختص بها. قد لا يكون الإصبع حساسًا كفاية ليشعر بالنبض، وقد لا تكون حدقة العين شفافة بدرجة كافية لترى العلامات، وفي هذه النقطة فشل بطرس. فكان أن يوحنا هو الذي رأى الرب، فقال له: «هُوَ الرَّبُّ!». العين رأت، والآن حان دور الرجلين. الآن بدأت رحلة بطرس الثانية. كنا قد تتبعناه أولاً في لوقا ٥ وها هو بسرعة قلب موحد مكرس مُحب، يقفز في الماء للوقت، ليصل إلى الرب.

إنه الآن يعرفه كما لم يعرفه عند بداية رحلته الأولى. وكان قد قال له بالفعل: «لاَ تَخَفْ!». أما الآن فهو يعرفه، ومن ثم فلم يتعجب. لم يكن حضوره هذه المرة مُقترنًا بالمجد الذي يُذهل، ولكن بمجد يهب ضميره ارتياحًا وراحة، رغم أن ضميره في هذه اللحظة كان يسوغ له كل سبب للجبن والتراجع. إلا أنه كان شجاعًا كالأسد.

وبطرس، صياد السمك، عندما قدم لمحضر الله للمرة الأولى، اختبر كم هو بطرس الخاطئ. أما الآن، فبطرس صياد السمك عينه، اختبر كم هو بطرس المحبوب، المُخلَّص، المقبول. وها هو يمضي قدمًا. يقينًا سيتقدم إلى الأمام، لأنه يسجد في محضر الله. سيتقدم بخطى واثقة لأنه مقبول في هذه الحضرة الإلهية. وهو يتقدم إلى هناك بكل سرعة وكل يقين. صحيح إنه في البداءة كان يتوبخ في محضر الله لاكتشافه أنه خاطئ. وصحيح أنه الآن يسجد في محضر الله. لقد قُبِلَ بضمير مُستريح كساجد، لأن هذا المجد قد تكلَّم بكلمة تعزية له.

يا لهما من مرتين اُصطيد فيهما صيد سمك وفير! يا لهما من رحلتين تجتاز فيهما النفس! كيف أن روح بطرس دُعيت لتخترق العالم الجديد حيث يًشرق مجد المسيح، وحيث تسطع نعمة المسيح هناك. فإذ بنا نجد المسيح بمجده ونعمته، كما كان قبل القيامة. ويا له من اكتشاف مبارك للنفس!

في يوم آخر – في مرقس ٤: ٣٥-٤١ وبخ الرب تلاميذه لأجل عدم إيمانهم، حيث خافوا حين هبت العاصفة على البحيرة. ولكنه مع توبيخه لعدم إيمانهم، هدأ من روعهم ورعدتهم. قال: «اسْكُتْ! ابْكَمْ!»، للأمواج الثائرة. إلا أنه قال لتلاميذه: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟». وهكذا الآن مع بطرس، ها هو الرب يسوع يجلس معه، ويتعشى معه. الشركة التامة الحرة القلبية مع حبيبه، تيقنت لروح بطرس، حيث يُقدم الرب نفسه لضميره، ويُذكّره بطرقه معه. والرب يسوع نفسه، الذي مرة هدأ البحر، إلا أنه وبخ تلاميذه، ها هو يهب بطرس الآن شبكة سليمة مملوءة بالسمك، لكنها غير مُتخرّقة. والأهم من هذا أنه يتعشى معه. إلا أنه يقول له: «أَتُحِبُّنِي؟». آه ... يا لأسرار تلك الأرض التي ارتادها بطرس!

بللت