أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2010
إبراهيم - دروس ورموز
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

سؤال اختلف البشر في إجابته، وعليه نشأت الديانات المختلفة في كل مكان وزمان، السؤال هو: هل الإنسان هو الذى يبحث عن الله، أم الله هو الذى يبحث عن الإنسان؟ وبمعنى آخر: هل إبراهيم هو الذي اتجه نحو الله، أم الله هو الذى اتجه نحو إبراهيم؟

الأغلبية ذهبت وراء البحث عن الله، وبينما ظن الإنسان أنه عثر على الله، كان في حقيقة الأمر غارقًا في الجهل والأوهام وفى عمق الوثنية والظلامفهم الإنسان الموضوع فهمًا خاطئًا مقلوبًا، وبدلاً من أن يقترب إلى الله ويعبده من خلال الطريق وبالطريقة التي حددها الله له، تخيل أن الطريق التى ابتدعها، والطريقة التي اخترعها من طقوس وفرائض ووصايا الناس، قادرة على أن تقوده إلى الله وتُنيله رضاهعلى أن جوهر الموضوع كله يكمن لا في بحث الإنسان عن الله، بل في بحث الله عن الإنسان، وليس في اقتراب الإنسان من الله، بل في تنازل الله العجيب واقترابه من الإنسان، وليس في رغبة الإنسان في معرفة الله، بل في رغبة الله ولذته في العلاقة مع الإنسان.

هذه الرغبة العميقة التي عند الله في البحث عن الإنسان والاقتراب منه وإقامة شركة وعلاقة معه، ليست شيئًا جديدًا وجدناه ونحن نُطالع العهد الجديد فقط، ولكنها الحقيقة العظيمة والقديمة التي نراها على أول صفحات الكتاب المقدس، نراها في اقتراب الرب الإله من آدم، يوم سقوطه، باحثًا عنه ومناديًا إياه: «أَيْنَ أَنْتَ؟» (تك3: 9)نراها في تنازل الرب العجيب وكلامه مع قايين، ليُرشده إلى طريق الاقتراب الصحيحوفى قصة إبراهيم التى نحن بصددها، نجدها أيضًا في اتجاه الله نحو إبراهيم من قبل أن يتجه إبراهيم إلى الله، وفى ظهور الله له وهو ساكن في ما بين النهرين، ليُقيم شركة معه وصداقة حبيةوهذا كله في وقت كانت الأرض كلها غارقةً في جهل ونجاسة وشراسة الوثنية.

سؤال هام وجدير بالاحترام، والتفكر في إجابته: لماذا يبحث الله عن الإنسان، على الرغم من شرور وفساد وعناد قلبه؟ الجواب ببساطة في عبارة واحدة صغيرة، لأن الله يحب الإنسان، ولذته فيه.

إن ما يشد أوتار القلب جدًا، ويُدهش العقل كثيرًا، ليس في اتجاه الله ناحية إبراهيم فقط، ولكن في التقدير العجيب والفائق من الله لصداقتة مع عبده، والذي نلمحه ونلمسه من القول المتكرر في المكتوب: «إبراهيم خليلي» (2أخ20: 7؛ إش41: 8؛ يع2: 23).

ذهب أحدهم لزيارة مريض في كوخه المتواضع، فسأله الزائر: هل زارك أحدٌ اليوم؟ فأجاب الرجل الفقير المسكين، نعم زارني جلادستونوكان جلادستون في ذلك الوقت رئيس وزراء بريطانيا، حين كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عنهاوكان إذ سمع الزائر هذا الكلام، انتابته الدهشة ولم يصدق، وخرج من كوخ الرجل وهو يضرب كفًا علي كف، وهو يقول: لقد ذهب عقل الرجل ... ذهب عقل الرجل! ولكن هذه كانت الحقيقة، ولم يكن عقل الرجل قد جن كما ظن الزائر، بل كان ينطق بكلمات الصدق والصحو، فقد تعوَّد رئيس الوزراء أن يرى الرجل المسكين الفقير كل صباح، وكان يُحيه وهو يكنس الشارع، وإذ لاحظ جلادستون غيابه سأل عنه، وإذ علم أنه مريض، ذهب ليزوره في كوخه الصغير والحقير.

إن هذه اللفتة الجميلة من جلادستون لا بد وأن تُقابل بالاحترام والإجلال، وذلك للفارق الكبير والشاسع بين الزائر والمُزارولكن كم يكون الأثر أعمق وأجل وأعظم إذا ما حدث هذا بين الله وعبده إبراهيم، أو مع أي أحد منا نحن المساكين البسطاء.

أيها الأحباء: أن نعتز جدًا بصداقة الله لنا هذا شيء طبيعي، مع أنه عجيب وفائق، لكن أن يتنازل الله العظيم والجليل والمهوب، ويقترب منا ويصادقنا، وبعد ذلك يفتخر هو بهذه الصداقة معنا ويُقدّرها، هذا الأمر فوق كل عقل وإدراك وفكر، وأغرب من الخيال، بل وعجب العجاب، فيا ليت نفوسنا تقدر وتعي!     

عندما تتعظم الإرادة البشرية في نمرود وتتفشى العبادة الوثنية في بابل، يكون الحال قد بلغ مرحلة متميزةأراد الإنسان في بابل أن يُجرد الله من سلطانه، وصولجان سيادتهوأصرّ على استبعاده من تفكيره، ومن كل ما يتصل بأمور الناسفكان جواب الله ذا وجهين: أولاً: القضاء على قوة العُصاة، وثانيًا: دعوة أبرام ليكون شاهدًا جديدًاومن ذلك الوقت صار رضا الله والشهادة له ليس بعد في إنسان من العالم ولا في مدينة من العالم، بل في إنسان جديد منفصل عن العالم، وفي مدينة جديدةوهذان، الإنسان الجديد والمدينة الجديدة هما بحسب وضعيهما مجريان لرحمة الله وبركته لجميع أمم الأرض.   

يتقدم إنسان العالم ومدينته (نمرود وبابل) بأوفر سرعة وبجسارة، بينما كان تقدم إنسان الله بطيئًاكان مُسالمًا ومنزويًا، لكنه كان بطلاً بدون شككان يفعل ببأس، لكنه في غير علانيةهذا هو طابع عمل الله: يكون في بدايته صغيرًا وبطيئًا لكنه يتقدمحين يعمل الإنسان يستخدم أضخم الآلات وأكبر الكتل، أما الله حين يبدأ يستخدم بذرة صغيرة.

والإنسان يقطع ويجهز كتلة بسرعة، لكنها بسرعة أيضًا تتهرأ وتفسدأما الله فيضع البذرة الصغيرة في الأرض لتختفي إلى حين، لكنها إن ماتت تأتي بثمر يدوم وينموقد يكون النمو بطيئًا غير ملحوظ، لكن تحصل الزيادة لأن بِزْرَهُ فِيهِ (تك1: 11) ـ له حياة تدوم ـ وهنا الفرق بين كتلة خشبية ضخمة عديمة الحياة وبين بذرة صغيرة فيها حياةالكتلة مهما كانت مُجمَّلة وناعمة ومدهونة أو مُشكَّلة ومهذبة ومخروطة، تبقى هي هي جامدة ميتة، أما البذرة مهما كانت صغيرة متواضعة الحجم فهي حيةالأولى فخمة لها مظهر وقتي تفنى وتتآكل سريعًا، أما الثانية ضعيفة هينةضعفها إلى حين وهوانها مؤقتةقد تُداس بالأقدام وتختفي ويُظن أنها انتهت بلا رجعة، لكنها بعد حين تظهر وتتشعب أغصانها وتتشابك مثل بلوطات الغابة، تضارب أغصانها القوية أعاصير الجو العاصف، بل وتظل صامدة وثابتة.   

عند هذا الحد يبتدئ تدبير جديد، ومن هنا فصاعدًا نجد عبيد الله بلا مدينة باقيةهم غرباء ونُزلاءهم مسافرون عابرون يسعون نحو وطن أفضل من شنعار، وينتظرون مدينة أبقى من مدينة الإنسان؛ المدينة التي صانعها وبارئها الله، دون أن تراها عيونهموما تراه عيونهم ليس سوى رمالٍ وأعداء. لا يعرفون إلى أين يذهبونلكنهم يعرفون أن الله يرى أفضل مما يرون، ويعرف أعظم مما يعرفون، وفي هذا كل كفايتهم وسلامهموذلك لأنهم كانوا يسلكون بالإيمان لا بالعيان

كان إبراهيم يمثل الحياة المطمئنة السعيدة؛ الحياة الهادئة الشريفة، التي تقوم على الإيمان بكلمة الله وتتميز بالثقة فيما يصنعفإن الإيمان له هذان الوجهان والوجه الثالث نتيجة لهمافهو أولاً يقوم على قاعدة صلبة - على أساس صخري - ترتفع عليه منارةوالمنارة تُرى من بعيد فيُظن أنها تقوم على مياه تتموجلكن إذا نُظر إليها من أعلى ـ كنظرة الله إليها ـ تُرى أنها أثبت من الريح وأقوى من موج البحرإن أبرز ما في حياة إبراهيم هو سلامه العميق الهادئ وخطواته الثبيتة، مع أنه عاش في زمان عصيب مضطرب شرير.

وثانيًا: للإيمان قوة الدرع والترس «الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ» (أف6: 16)والعدو يلتمس فرائسه كل لحظة، ويرمي بسهامه القاتلة، ولكن المؤمن محفوظ منها، وإن مسّته بسماح من الله، فهي لا تضره.

والوجه الثالث للإيمان هو أنه: عَامِلٌ بِالْمَحَبَّةِ (غل5: 6). هو عامل وليس ميتًايوجد إيمان ميت - لا وجود له - وذلك إن لم يُثمر عملاً صالحًا (يع2: 17). يسأل يعقوب في رسالته: «أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟» (يع2: 21)نعم وقطعًا هو تبرَّر بالأعمال، لكن بولس يقول: «وَلَكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ» (رو4: 2)وهذا هو الفرق بين رومية4، ويعقوب2، ولا تناقض بينهماإن تبرير الإنسان أمام الله يكون فقط بالإيمان، لكن هذا الإيمان في رسالة يعقوب يكون تامًا بالأعمالوالمؤمن يتبرهن ظاهريًا أمام الناس أنه يمتلك هذا الإيمان الحي بثمر الأعمال.

هذه الأعمال لا تظهر إلا بالمحبة العاملة، أي على مبدأ المحبةالناموس يعمل بالخوف، لكن الإيمان يعمل بالمحبةوالمحبة هي الدافع القوي والأعظم.

كما أن جهاز البرقيات وكثيرًا من الآلات تعمل بالكهرباء، والبوصلة تعمل بالمغناطيسية، هكذا الإيمان يُسمع صوته بين الأرض والسماء مجنحًا بالمحبة، ويغلب العالم بقوة المحبة، ويتجه دائمًا ليلاً ونهارًا إلى النجم القطبي؛ أقصد الله، محصورًا بالمحبة.

في مطلع خطاب اسطفانوس في سفر الأعمال، نجد عبارة شهيرة «ظَهَرَ إِلَهُ الْمَجْدِ لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ قَبْلَمَا سَكَنَ فِي حَارَانَ» (أع7: 2)، ونحن لا نعلم في أية صورة ظهر الله لإبراهيم، هل ظهر له في رؤية في المنام؟ (وإن كنا نستبعد ذلك)، أم متكلمًا إليه كما يُكلم الرجل صاحبه؟ (ونحن نميل إلى هذا)، لكن المؤكد أن هذا الظهور كان الله فيه على صورة مجيدة جدًا، وأغلب الظن أن إبراهيم في هذا الظهور رأى المدينة السماوية، التى لها الأساسات، التى صانعُها وبارئُهَا الله (عب11: 10).

هذه الرؤيا المجيدة هي التى صنعت تاريخ إبراهيم، وهى مفتاح حياته أيضًاقال أحدهم: أمير عظيم أثناء تجواله في البلاد رأى أحد الفقراء وحاله العدم، فتحنن عليه، ورق ناحيته، وإذ كان كريمًا أراد أن يكرمه ويصنع معه الإحسان، فأخذه من كوخه الحقير إلى أحد الجبال العالية، وهناك فوق أحد قممه الشاهقة، حيث المنظر الجميل والخلاب، أراه أحلى القصور وأكبرها، حيث جمال التصميم وحلاوة التنفيذ، وأراه أيضًا غرفه المتعددة وردهاته الطويلة الواسعة، وكيف تُحيط به الخضرة من كل جانبفأُخذ الرجل الفقير بهذه المناظر جدًا، وإذا بالكريم العظيم يقول له: هل رأيت الكل؟ قال له المسكين نعم، قال له الأمير: كل هذه لك، وهي بضعة أيام، ربما أسبوع وينتهي التنفيذ، وستكون مفاتيح القصر معك، ثم أرجعه إلى كوخه الحقير، وودعه وهو يقول له: هي أيام وسآتي إليك وآخذك إلى القصر هناك.

هذه بالتأكيد قصة خيالية ولكن مغزاها عظيم، فكيف سيقضي هذا الإنسان المسكين الأيام القليلة الباقية؟ وكيف ستكون نظرته للكوخ والبقعة التي يسكن فيها، وما هو مقدار الحنين إلى الجبل والقصر الموعودمن المؤكد أن شيئًا من هذا القبيل حدث مع إبراهيم بعد رؤيته الجميلةفإذ رأى الله المجيد والمدينة السماوية، لم يعد يرى شيئًا في الوجود شيئًا آخرأور الكلدانيين بعظمة قصورها واتساع ساحاتها وضخامة أسوارها العالية، رآها صحراء جرداء بجانب المجد الذى رآهالذهب الإبريز وغنى الملوك وجميع الممالك رآها عدمًا وشراك نعل وأصدافًا، بجانب ماس رؤياه «بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِلأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ» (عب11: 8، 9).

 شنودة راسم

شنوده راسم