الروح القدس بالنسبة لعمل الخليقة، كما في العديد من الأعمال الأخرى، هو في اتحاد مع الآب والابن. والكتاب المقدس يُخبرنا أن الله في البدء خلق السماوات والأرض (تك١: ١). الله هنا هو إيلوهيم؛ أي الله في ثالوث أقانيمه. على أن أول أقنوم بالتحديد يُذكر بالارتباط بالخليقة (وبكلمات أكثر دقة: تجديد الخليقة) هو أقنوم الروح القدس (تك١: ٢)، ويُذكر في هذه الآية باعتباره العامل الفعال النشط.
ويُمكننا تتبع سبع آيات في العهد القديم تتحدث عن دور الروح القدس في الخليقة، وهي على هذا المنوال: تكوين ١: ٢؛ أيوب ٢٦: ١٣؛ ٢٧: ٣؛ ٣٣: ٤؛ مزمور ٣٣: ٦؛ ١٠٤: ٣٠؛ إشعياء ٤٠: ١٣.
وفي هذه الآيات السبع يُمكننا أن نرى الروح القدس في:
* الخطة والتصميم (إش٤٠: ١٢-١٤).
* خلق السماء (مز٣٣: ٦)، وليس خلقها فحسب، بل تزيينها أيضًا (أي٢٦: ١٣).
* خلق الأرض (تك١: ٢).
* إعطاء الحياة (مز١٠٤: ٣٠؛ أي٢٧: ٣؛ ٣٣: ٤ قارن مع تك٢: ٧؛ يو٦: ٦٣؛ ٢كو٣: ٦).
* حفظ الحياة واستمرارها؛ سواء للحيوانات والبشر (مز١٠٤: ٢٩، ٣٠).
والآن إلى دراسة هذه الآيات بشيء من التفصيل:
تقول الآية الأولى في تكوين ١: ٢: «وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ». وعبارة «خَرِبَةً» تعني بلا حياة. ثم كانت هناك أيضًا ظُلْمَةٌ على وجه الغمر.
لكن بعد ذلك يُذكر شيئًا إيجابيًا؛ يذكر الروح القدس عاملاً، فيقول: «وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ (ليس على وجه الغمر، بل) عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ». فليس أن ريحًا هبت على وجه المياه، بل أن روح الله كان يرف على وجه المياه. ويرى البعض أن هذا يُشير إلى عمل روح الله الذي سبق عملية التجديد التي تمت للأرض في الأيام الستة. وهو عين ما يحدث مع النفس التي يُحييها روح الرب، كما سنرى في حينه.
يعود الوحي فيتحدث عن قصة الخلق في تكوين ٢، مع ملاحظة أننا في تكوين ١ نقرأ عن الله: ”إيلوهيم“، بينما في تكوين ٢ نقرأ عن ”الرب الإله“. شبَّه ذلك أحدهم بأن الرَّجُل في عمله يُعرف بلقب مُعيّن، لكن عندما يصل إلى بيته فهو الأب المُحبّ. والأب عندما يأتي إلى عائلته وخاصته، فإن له أعمالاً من نوع وطبيعة أخرى عن تلك التي يُمارسها في عمله. هكذا أيضًا هنا. فنحن نجد ”الله“ في تكوين ١ بالارتباط بالخليقة كلها، ولكن في علاقته بالإنسان هو ”الرب الإله“ (تك٢).
وماذا فعل الرب الإله مع الإنسان؟ لقد نفخ الرب الإله في آدم نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حية. اعتبرها أحدهم أن الرب الإله قبَّل تلك الكتلة من الطين قبلة الحياة، فصار آدم نفسًا حية.
بالنسبة للحيوانات، فإن الله أيضًا هو بكل يقين مصدر حياتهم، لكن فعل ذلك من بُعد، عن طريق أمر: «قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مز٣٣: ٩)، وأما الإنسان فنفخ في أنفه، أعطاه قبلة الحياة كما ذكرنا. فصار آدم نفسًا حية، بخلاف الحيوانات، فهي ليست خالدة، بل مولودة للصيد والهلاك.
والرب الإله بإعطائه النسمة لكتلة الطين، جعلها ليس فقط تتحرك، بل جعل لها حياة مستمدة من الله. وهذه النسمة هي التي قال عنها أيوب: «إِنَّهُ مَا دَامَتْ نَسَمَتِي فِيَّ، وَنَفْخَةُ اللهِ فِي أَنْفِي» (أي٢٧: ٣). وعبارة «نَفْخَةُ اللهِ» هي بعينها ”روح الرب“. الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن روح الله هو مصدر حياتنا الطبيعية، كما أنه مصدر حياتنا الروحية.
وعن هذه النسمة قال أَلِيهُو أيضًا: «وَلكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا، وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ» (أي٣٢: ٨). ومن هذا يُمكننا الربط بين روح الإنسان، التي مصدرها روح الله، وبين العقل. فالنسمة التي تلقاها الإنسان من الله في تكوين ٢ هي مصدر الروح الإنسانية فيه. هي واسطة اتصال الإنسان بالله، ليعبده عبادة عقلية وواعية، أي عبادة بالروح (أقصد: روح الإنسان)، وليس بانفعالات النفس أو تحركات الجسد. وإن كان للنفس أو للجسد دور في العبادة، فهو دور التابع للروح، لا القائد، دور ثانوي لا أساسي.
أضف إلى هذا، فإن هذه النسمة المُستمدة من روح الله مرتبطة بالضمير الذي جعله الله في البشر (انظر أمثال ٢٠: ٢٧، حيث ترد الآية في الأصل - روح الإنسان سراج الرب).
نُضيف إلى كل ما سبق أن الروح القدس - كما نتعلَّم من فصول أخرى - هو واسطة الحياة وقوتها. وحزقيال ٣٧ يؤكد لنا ذلك. فبقدرة الله تجمعت في الرؤيا العظام الميّتة، واكتست بالعظم واللحم. وأما أن تنال تلك العظام الميتة الحياة، فهذا يحتاج إلى عمل روح الله. ولذلك فإننا نُكرر مرة ثانية أنه لا إحياء بدون الروح القدس «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي» (يو٦: ٦٣)، وهو في هذا في تمام التوافق مع الآب والابن (يو٥: ٢١). وهو ما يحدث الآن روحيًا في إحياء الخطاة الأموات بالذنوب والخطايا، وما سيحدث حرفيًا عند مجيء المسيح في قيامة الراقدين وتغيير الأحياء، فالله سيُحيي أجسادنا المائتة بروحه الساكن فينا (رو٨: ١١).
وفي سفر أيوب نجد ثلاث آيات تجمع بين عمل الخلق وروح الله:
* في أيوب ٢٦: ١٣ يقول أيوب: «بِنَفْخَتِهِ السَّمَاوَاتُ مُسْفِرَةٌ»؛ أو في ترجمة أخرى ”بروحه زيَّن السَّماوات“.
* وفي أيوب ٢٧: ٣ يقول: «مَا دَامَتْ نَسَمَتِي فِيَّ، وَنَفْخَةُ اللهِ فِي أَنْفِي». ولقد سبق أن تأملنا في معنى هذه الآية.
* ثم في أيوب ٣٣: ٤ يقول أَلِيهُو: «رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي». وهي تُشير أيضًا إلى دور الروح القدس في خلق الإنسان. والبعض يعتقد أن هذه الآية تُشير في البداية إلى أن الروح صنعني، وذلك في يوم الولادة، ونسمة القدير تُعطيني الحياة يومًا بعد يوم، وبدونها لا حياة.
وفي سفر المزامير نجد آيتين تحدثاننا عن دور الروح القدس في الخلق:
* الآية الأولى في مزمور ٣٣: ٦ حيث يقول المُرنم: «بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا». فهو هنا يُشير إلى كلمة الرب، وإلى نسمة الرب أو روح الرب. والأرجح أن الإشارة هنا إلى كل من أقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس.
وما أعظم الحق المُتضمَّن في هذه الآية التي تُحدثنا عن الله الكلي القدرة. فهو يذكر أن هذا الكون العظيم كله كوّنه الله بأسلوبين: في ع٩ يقول: «لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ»، لكن في آيتنا (ع٦) يذكر شيئًا آخر؛ «بِنَسَمَةِ فِيهِ» أو ”نفخة فِيهِ“. هكذا كما يتنسم الإنسان ببساطة، أوجد الله هذا الكون كله. بل إنه بالنسبة لله أسهل من أن يتنفس الإنسان، لأن الإنسان يستمد نسمته من خالقه، وأما الله فعندما تنسم ليُوجد كان ذلك بأمر منه.
* الآية الأخرى في مزمور ١٠٤: ٣٠. ويرى البعض أن هذا الفصل يتكلَّم عن الخليقة، ولا سيما الآية ٣٠ حيث ترد الكلمة ”تُخْلَق“، وفي الأصل العبري: ”برى“. ويُبين كيف تتم عملية الخلق هذه، فيقول: «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ».
والفصل يُشير إلى حيوانات البر وطيور السماء (خ١١، ١٢)، إلى العصافير واللقلق (خ١٧)، إلى الوعول والوبار (ع١٨)، ثم إلى الأشبال (خ٢٠، ٢١)، والإنسان (ع٢٣)، بل إلى كل ما يعيش في المياه أو على الأرض (ع٢٤-٢٧). ويقول إن الله يُطعمها، فهو يُقيت كل ما سبق وخلقه. ثم يقول: «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ» (ع٣٠). نعم إن نسمته تخلق، وانسحاب تلك النسمة يعني الدمار لنا (قارن ع٢٩، ٣٠).
ومن كل هذا نفهم أن روح الله ما زال عاملاً في معجزة إعطاء الحياة للبشر إلى الآن، وكذا في تجديد وجه الأرض، تمامًا كما كان في بداية تجديد الخليقة (تك١: ٢). لقد قال المسيح إن الآب يعمل وهو يعمل، وهنا نرى الروح القدس أيضًا يعمل. فالله لم يخلق العالم وتركه ليسير حسبما اتفق. إن جوهر نظرية التطور هي أن الأمور تسير، ولا تحكمها إلا الصدف. لكن الكتاب يعلن أن الروح القدس مشغول بعمل دائم في الخليقة. فالروح يواصل عملية الخلق باستمرار، ويُجدد وجه الأرض.
وأخيرًا ترد آية إشعياء ٤٠: ١٢-١٤ وهي كما ذكرنا في البداية تصور لنا عمل الروح القدس وعلاقته مع تخطيط الكون وإدارته. يقول الوحي:
«مَنْ كَالَ بِكَفِّهِ الْمِيَاهَ، وَقَاسَ السَّمَاوَاتِ بِالشِّبْرِ، وَكَالَ بِالْكَيْلِ تُرَابَ الأَرْضِ، وَوَزَنَ الْجِبَالَ بِالْقَبَّانِ، وَالآكَامَ بِالْمِيزَانِ؟ مَنْ قَاسَ رُوحَ الرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟ مَنِ اسْتَشَارَهُ فَأَفْهَمَهُ وَعَلَّمَهُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ، وَعَلَّمَهُ مَعْرِفَةً وَعَرَّفَهُ سَبِيلَ الْفَهْمِ؟».
وكأن الله في هذه الآيات يريد أن يقول لنا: إن ذاك الذي وحده يكيل المياه في كَفِّه، ويعرف أن يُقيس السماوات لأنه خلقها، لا يمكن أن خليقته تعرف له مقاييس. والروح القدس الذي رتب الخليقة عندما كانت في حالة الفوضى والخراب، لا يمكن لخليقته أن تقيسه بمعنى أن تضع له قوانين يتبعها، كما لا يمكن لأحد من خليقته أن يُعلّمهُ في طريق الحق، أو يُعرّفه سبيل الفهم.