أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2018
إِيلِيَّا في كَرْم نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

(١مل٢١)

بعد أن دعا إيليا أليشع ليتبعه ويخدمه، لا نجد سجلاً لنشاط إيليا حتى نأتي إلى هذا الأصحاح (١مل٢١). ويفرد روح الله فسحة كبيرة من الكتاب ليوضح توغل أَخْآبُ في الشر، وعجزه عن الإفادة من صلاح الله الذي تداخل المرة تلو المرة ليُنقذ إسرائيل من براثن الأراميين (١مل٢٠). إن فعل نعمة الله في قلب الإنسان الطبيعي هو أن تزيده تحجرًا وتعنتًا. ولقد اغتنم أَخْآبُ – شاكرًا – خلاصًا وقتيًا حاضرًا ليُعظّم ويُرفّع نفسه، وليصنع صداقة مع بنهدد ملك أَرام؛ الرجل الذي حرَّمه الرب، وهكذا وضع نفسه مُجدّدًا تحت دينونة الله «فَمَضَى مَلِكُ إِسْرَائِيلَ إِلَى بَيْتِهِ مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا وَجَاءَ إِلَى السَّامِرَةِ»؛ مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا لأنه قابل الشخص الذي أمسك عليه خطاياه، الشخص الذي لا يمكن لأَخْآب أن يفلت من قبضته (١مل٢٠: ٢٨-٤٣).

لعله من الجلي الواضح أن أَخْآب لم يتعلَّم قط ولو درسًا واحدًا من التحذيرات العديدة التي وُجهِت إليه، لأن الأصحاح الذي نتناوله يُفتتح باستعراض لشهوة جامحة غير منضبطة؛ شهوة الطمع. «كَانَ لِنَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ كَرْمٌ فِي يَزْرَعِيلَ بِجَانِبِ قَصْرِ أَخْآبَ مَلِكِ السَّامِرَةِ»، وكان أَخْآبُ يعلم جيدًا أنه ليس مسموحًا لليهودي أن يبيع ميراث آبائه (عد٣٦: ٧). ولكن ماذا؟ أليس أَخْآب هو مَلِكِ السَّامِرَةِ؟ لماذا إذن يحجم عن تحقيق شهوته، إطاعة لناموس إلهي قديم؟ وكان الكرم – علاوة على ذلك – مُجاورًا لقصر أَخْآب، وفي تمام المناسبة والموافقة لأن يضمه إليه. ثم إن أَخْآب كان مستعدًا أن يُعوّض نَابُوت كرمًا أفضل منه، أو يدفع ثمنه المطلوب فضة. فما الذي يثنيه عن قصده إذن؟ الإجابة ببساطة أن الرب قد منع بيع الأرض، ومن ثم يقول نَابُوتُ التقي لأَخْآب: «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أُعْطِيَكَ مِيرَاثَ آبَائِي». ومُجدَّدًا يعود الملك إلى بَيْتَهِ «مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا مِنْ أَجْلِ قَوْلِ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ ... وَاضْطَجَعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا» (١مل٢١: ٤). ونال منه التعب كل منال، وسقط فريسة الاكتئاب، لأنه لم يجسر أن يرتكب الخطايا التي تُمكنه من تتميم شهوته.

الآن تبرز إِيزَابَلُ مُجددًا في المشهد. وحسنًا وُصفت بأنها «إِيزَابَل امْرَأَتُهُ (امرأة أَخْآب)» (ع٥). ولعل على رأس خطاياه، كما نتعلَّم من استخدام اسم إِيزَابَلُ في رؤيا ٢: ٢٠-٢٣، تساهله معها، حتى أنه سمح لها أن تحل محله، وأن تغتصب سلطته. وإذ فاقت زوجها في الشر، لم تخجل ولم تجبن ولم تخشَ الله، ولم تهب إنسانًا، وحصلت على الكرم المُشتهى لِأَخْآب. لقد قالت لزوجها الملك: «أَأَنْتَ الآنَ تَحْكُمُ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟ قُمْ كُلْ خُبْزًا وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ. أَنَا أُعْطِيكَ كَرْمَ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ» (ع٧). وهكذا دبرت موت هذا اليهودي التقي، باتباع سلسلة وسائل مُشينة يندى لها الجبين، ثم رجعت إلى الملك وقالت: «قُمْ رِثْ كَرْمَ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ الَّذِي أَبَى أَنْ يُعْطِيَكَ إِيَّاهُ بِفِضَّةٍ، لأَنَّ نَابُوتَ لَيْسَ حَيًّا بَلْ هُوَ مَيْتٌ» (ع١٥).

وليس ثمة دليل على اعوجاج قلب أَخْآب الشرير أوضح من طاعته لأمر زوجته: فعلى الفور قام ونزل ليمتلك الكرم، دون أدنى سؤال عن سبب موت نَابُوتَ. فها أخيرًا قد تمَّم شهوته! وهكذا حال خطاة كثيرين؛ يقطفون الثمرة المُشتهاة من على غصن الشجرة، ويدفعونها إلى شفاههم، وينسون أن ليس ثمة مهرب من عين الله.

فعندما كان أَخْآبُ مستلقيًا على فراشه، متألمًا مِن فعل نَابُوتَ الذي رفض أن يبيعه كرمه، وبينما كانت إِيزَابَلُ الشريرة تخترع الوسائل التي تؤدي إلى موت نَابُوتَ، كان الله يرى ويُراقب. ولئن كان الله غائبًا عن أفكار الخطاة، فلن ينال ذلك بمثقال ذرة من حتمية حلول يوم حساب قادم. وها هو الرب يأمر إيليا: «قُمِ انْزِلْ لِلِقَاءِ أَخْآبَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ. هُوَذَا هُوَ فِي كَرْمِ نَابُوتَ الَّذِي نَزَلَ إِلَيْهِ لِيَرِثَهُ» (ع١٨). إن الرب قد مدَّ يده بالدينونة، ومن يستطيع الوقوف في يوم غضبه؟

وإطاعة لكلمة الله، نزل إيليا، ووجد الملك الذي كان موجودًا في كرمه المُشتهى الجديد. ويا لها من رسالة قوية كان على إيليا إبلاغها للملك: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَلْ قَتَلْتَ وَوَرِثْتَ أَيْضًا؟ ... فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَحَسَتْ فِيهِ الْكِلاَبُ دَمَ نَابُوتَ تَلْحَسُ الْكِلاَبُ دَمَكَ أَنْتَ أَيْضًا» (ع١٩). ولاحظ أنه وإن كانت إِيزَابَلُ هي التي دبرت موت نَابُوتَ، إلا أن أَخْآب هو الذي يتحمل وزر الجريمة. وإذ سمح لآخر أن يضطلع بسلطته، راغبًا في الربح القبيح من جراء فعلتها الآثمة، فإن الرب يُحاسبه هو على جريمة القتل البشعة هذه. وهكذا رد الرب ذنب هذه الفعلة الشنعاء على رأس بيت أَخْآب، لأنه سمح لشهوة الطمع في مُلك جاره، أن تجره إلى هذه العاقبة المُرة، ومِن هنا كانت رسالة الدينونة الصارمة التي أُرسِل إيليا ليُعلنها وليتعلمها كل شعب إسرائيل. هناك دم بري سُفك، ولم يخفَ عن ناظري الرب، وها هو يطلبه من يد الملك المُذنب. وإذ أصاب سهم الدينونة سويداء قلبه، إن لم يكن قد أصاب ضميره أيضًا، من جراء كلمات الدينونة القاسية التي خرجت من فم النبي، أجاب أَخْآبُ: «هَلْ وَجَدْتَنِي يَا عَدُوِّي؟» (ع٢٠). ففي عماه الروحي، كان إيليا دائمًا وحده، هو مَن يعترض طريق شرور أَخْآب التي يُدبّرها ويُمارسها. إنه لم يعرف إله إيليا. ورجل الله المُعلِن عن دينونته، اعتبره عدوه. ومن ثم أجاب النبي: «قَدْ وَجَدْتُكَ لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ نَفْسَكَ لِعَمَلِ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ» (ع٢٠). نعم، مَن يستطيع أن يُخفي نفسه أو خطاياه عن عيني الله الفاحصتين.

لاحظ كيف أن إيليا أجاب باختصار عن سؤال أَخْآب، بينما هو بصدد إعلان الدينونة الوشيكة أن تنصب على أَخْآب، وعلى بيته، وعلى إِيزَابَل. وكما لو كان يزيد من خطورة كلماته، فهو يتكلَّم الآن مباشرة باسم الرب. لم تعد العبارة: «هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: ...»، بل يتكلَّم بعبارة أقوى بكثير يوجهها الروح القدس، كما لو أن إيليا صار قناة حية لصوت الرب، فيقول: «هَأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَيْكَ شَرًّا، وَأُبِيدُ نَسْلَكَ، وَأَقْطَعُ لأَخْآبَ كُلَّ بَائِلٍ بِحَائِطٍ (كُلَّ ذَكَرٍ) وَمَحْجُوزٍ وَمُطْلَقٍ فِي إِسْرَائِيلَ. وَأَجْعَلُ بَيْتَكَ كَبَيْتِ يَرُبْعَامَ بْنِ نَبَاطَ، وَكَبَيْتِ بَعْشَا بْنِ أَخِيَّا، لأَجْلِ الإِغَاظَةِ الَّتِي أَغَظْتَنِي، وَلِجَعْلِكَ إِسْرَائِيلَ يُخْطِئُ» (ع٢١، ٢٢). فالقضاء على أَخْآب قد حلَّ بالفعل (ع١٩)، والآن ينطق إيليا بالدينونة على بيت أَخْآب (ع٢١، ٢٢). وللوقت فإن روح الله بينما هو يصف الجزاء العادل المُزمِع أن يحيق بأَخْآب (ع١٩)، وببيته (ع٢١، ٢٢)، وبإِيزَابَل (ع٢٣)، يُفسر في عبارة اعتراضية موجزة، أسس وحيثيات القصاص المُحدِق (ع٢٤، ٢٥). كان قتل نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ هو المناسبة التي بصددها أُعلِنت الدينونة. ولكن حتى هذه الجريمة النكراء كانت ذروة هرم عال من الشر والظلم؛ هذا الشر الذي أضرمته إِيزَابَلُ امْرَأَتُهُ «وَلَمْ يَكُنْ كَأَخْآبَ الَّذِي بَاعَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، الَّذِي أَغْوَتْهُ إِيزَابَلُ امْرَأَتُهُ» (ع٢٥)، حتى إن الرب ساواهم بالأموريين في بشاعة شرورهم، هؤلاء الذين طردهم الله أمام شعبه بني إسرائيل (ع٢٦). وعلى ذات المنوال، ولتعليمنا، يُبرر الله معاملاته في أنظارنا من جهة أَخْآبَ وبيته.

ويبدو – لوهلة – أن أَخْآب انحنى حتى إلى التراب، واتضع تحت يد الله القوية. فعصا الله المؤدّبة ضربته إلى النخاع، لأنه «لَمَّا سَمِعَ أَخْآبُ هَذَا الْكَلاَمَ، شَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ مِسْحًا عَلَى جَسَدِهِ، وَصَامَ وَاضْطَجَعَ بِالْمِسْحِ وَمَشَى بِسُكُوتٍ» (ع٢٧). هل كانت تلك توبة صادقة أمام الله؟ لعله لا يوجد ما يبين نعمة قلب الله ورأفاته بوضوح، مثل الملحوظة التي قالها لإيليا بصدد علامات ومعاناة توبة أَخْآب «فَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ: هَلْ رَأَيْتَ كَيْفَ اتَّضَعَ أَخْآبُ أَمَامِي؟ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَعَ أَمَامِي لاَ أَجْلِبُ الشَّرَّ فِي أَيَّامِهِ، بَلْ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ أَجْلِبُ الشَّرَّ عَلَى بَيْتِهِ» (ع٢٨، ٢٩). فلأن أَخْآب اتضع أمام الرب، فالقصاص المُزمع أن يُقتص من بيته (ليس القصاص على أَخْآب أو على إِيزَابَل، بل على بيت الملك وعلى ذريته)، سيتم تأجيله إلى ما بعد موت أَخْآب، إلى أيام بنيه.

أي دليل أقوى من هذا يُبرهن على حنان الله تجاه الإنسان الشرير؟ وأنه لا يُسرّ البتة بموت الخاطئ: «هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ؟ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟» (حز١٨: ٢٣).

بقيت ملحوظة أخيرة: إنه قد توجد توبة ليست حقيقية، ليست وليدة عمل روح الله في القلب. فالرعب من الدينونة المُقبِلة قد يسوق الإنسان الطبيعي لأن يتشح بالمسوح والرماد إلى حين، ولكن إن لم يُمسَ الضمير، وإن لم توجد توبة صادقة نحو الله، فكل هذه المشاعر ستزول كندى الصبح عند شروق الشمس. والله لا يُشمخ عليه ولا يُخْدَع، ولكنه في حكومته في هذا العالم، ينظر إلى مشاعر خاطئ، كمشاعر أَخْآب، حتى ولو كانت قصرت عن حد إدانة الذات الإدانة الحقيقية. وفي الواقع إن الله – في غنى صلاحه، واحتماله، وطول أناته، يقتاد الإنسان إلى التوبة.


كاتب غير معروف