أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2013
دراسة فى سفر النشيد - قراءة من بين السطور
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
الحقبة الزمنية الرابعة:

تعامل الرب مع شعبه الأرضي بعد رفع العريس عنهم (ص5: 2 - 6: 12)
رأينا في دراستنا السابقة في سفر النشيد، في الأقسام الثلاثة الأولى من السفر، ثلاث فترات متميزة في تاريخ هذه الأمة، كما يلي:

1- القسم الأول
(من نشيد 1: 2 إلى 2: 7): رأينا فيه بداية تاريخهم، المُتَمَثِّل في حقبة الآباء البطاركة، ثم فترة الخروج من مصر، ورحلة البرية حتى وصولهم أرض الموعد، إلى أن تأسَّست المملكة على عهد الملك داود، وَبُني الهيكل على عهد الملك سليمان.  واستمرت هذه الفترة الأولى حتى سبي الشعب إلى بابل في القرن السادس قبل الميلاد.

2- القسم الثاني (من نشيد 2: 8 إلى 3: 5) وتُمَثِّل مرحلة الرجوع من السبي البابلي إلى الأرض، وامتلاكهم للأرض مرة ثانية، واستمرَّت هذه الفترة إلى أن جاء المسيح بالجسد، وظهر بينهم، حيث رَحَّبت به بقية تقية أمينة.

3- القسم الثالث (من نشيد 3: 6 إلى 5: 1)، وهي إن كانت قصيرة زمنيًا، ولكنها غنية روحيًا؛ وتُمَثِّل خدمة الرب يسوع بين شعبه، حتى موته الكفاري على صليب الجلجثة، وكذلك خدمته الخاصة لتلاميذه بعد قيامته، ثم صعوده إلى السماء، ومجيء الروح القدس فيما يسمى في النبوات “المطر المُبَكِّر”.
ولقد خُتم هذا القسم الثالث بقبول بقية قليلة للرب يسوع، باعتباره المسيَّا، عريس الأمة (انظر متى9: 15)، بينما الأكثرية المرتدة رفضته بالفعل، وفَضَّلت عليه رجلاً قاتلاً. 

ويواصل القسم الرابع (نشيد 5: 2 إلى 6: 12) الحديث عن هذه الأكثرية التي رفضت المسيح.  هل انتهى الأمر بالنسبة لهم؟  ماذا كان موقف المسيح منهم؟ وماذا سيحدث لهم في آخر الأيام؟

لم يرفض الله شعبه


نتذَكَّر ما قاله الرسول بولس عنهم في هذا الصدد: «ألعلهم عثروا لكي يسقطوا؟ حاشا! بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم. فإن كانت زلتهم غنى للعالم، ونقصانهم غنى للأمم، فكم بالحري ملؤهم؟»؛ وقوله أيضًا عنهم: «من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم، وأما من جهة الاختيار، فهم أحباء من أجل الآباء، لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة ... هكذا هؤلاء أيضًا الآن لم يطيعوا، لكي يُرحَموا هم أيضًا برحمتكم. لأن الله أغلق على الجميع في العصيان لكي يرحم الجميع» (رو11: 11، 12، 28-32). 

وبالعودة إلى سفر النشيد نجد أن هذا القسم الرابع يبدأ بنداء العريس لعروسه، وهو يذكِّرنا بالنداء الذي أطلقه الرب للأمة بعد موته وقيامته، ومجيء الروح القدس.  فالمسيح، بعد رفعه إلى السماء، قَدَّم فرصة أخرى وأخيرة لهم، فبماذا كانت إجابة الأكثرية عليه؟  لقد رفضوها، ولهذا فقد رُفضوا هم أيضًا إلى حين، وتَوَجَّه الرب بدعوته للأمم.  لكن فكرة التوجّه إلى الأمم غير واردة في سفر النشيد، الذي يتحدث عن علاقة الرب مع شعبه.  ثم بعد أن يدخل ملء الأمم، سيُعيد الرب تعامله من جديد مع هذه الأمة (رو11: 25، 26)؛ وعن طريق الضيق سيقتادهم إلى الندم على خطيتهم، والتوبة عنها.

القسم السابق، كما رأينا، حَدَّثنا عن تلك البقية الأمينة التي قبلت المسيح من هذا الشعب، أولئك الذين يدعوهم الرسول بولس “إسرائيل الله” (غل6: 16).  لكن هذا القسم يحدِّثنا عن حال باقي الأمة.  فصليب المسيح دائمًا يقسم البشر إلى فريقين، وإن كان القسم السابق (نش3: 6 - 5: 1) كَلِّمنا عمن قبلوه، فإن هذا القسم يكِّلمنا عمن رفضوه.  والعجيب إن هؤلاء الذين لم يقبلوه، كانوا قد قالوا له: “ليأتِ”، فلما أتى رفضوا قبوله! (قارن نشيد 4: 16؛ 5: 2 مع ملاخي 2: 17؛ 3: 1، 2)!

ليل مظلم طويل وعصيب

يبدأ هذا القسم بالإشارة إلى اختبار ليلي آخر.  فهذه الآيات تشير إلى فترة ليل، ونحن نعلم أن العالم قد دخل فعلاً إلى ليل (بالمفهوم الروحي) بعد أن رَفض المسيح، وبعد أن صلبه وقتله. 

كان الاختبار الليلي الأول في أصحاح 3: 1-5؛ وفي هذا الاختبار الليلي لم يكن للشعب ملك ولا رئيس، ولا نبي؛ وفي هذا الجو العصيب خرجت العروس تبحث عن حبيبها (المسيَّا)، ولكن لم يطُل بها الحال كثيرًا وهي تبحث عنه، إذ تقول: «فما جاوزتهم إلا قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي» (3: 4)؛ أما هنا فقد طال بها البحث عنه قبل أن تجده في النهاية.  ذلك لأن الاختبار الليلي السابق يتحدث عن السبي البابلي، وهو السبي الذي استمر عشرات السنين، تلاه انتظارهم للمسيَّا بعد عودتهم للأرض الذي استمر مئات قليلة من السنين، وأما الاختبار الليلي هذه المرة فهو أطول من سابقه، كما أنه أصعب بكثير.  لقد طالت هذه الفترة نحو ألفين من السنين، ثم إنه في المرة السابقة لا نقرأ عن ضرب ولا عن جراح من الحرس لها، ولا عن رفع إزارها عنها من حفظة الأسوار، كما نجد في هذا القسم، والذي سنطبقه على حقبة طويلة في تاريخ الأمة، والرب “ساتر وجهه عن بيت يعقوب”.  والنبي إشعياء - عندما ذكر العبارة السابقة - أوحى إلينا بأن هذه الفترة هي فترة طويلة فعلاً، فيقول: «فأصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب، وأنتظره» (إش8: 17).  وهكذا أيضًا النبي هوشع يخبرنا «أن بني إسرائيل سيقعدون أيامًا كثيرة بلا ملك وبلا رئيس، وبلا ذبيحة وبلا تمثال، بلا أفود وترافيم. بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم، وداود ملكهم، ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام» (هو3: 4، 5).  في هذه الفترة الطويلة نستمع إلى صرخات الأتقياء تعبِّر عن الفكرة ذاتها، فهم يقولون مثلاً:
«هل إلى الدهور يرفض الرب، ولا يعود للرضا بعد؟ هل انتهت إلى الأبد رحمته؟ انقطعت كلمته إلى دور فدور؟ هل نسي الله رأفة، أو قفص برجزه مراحمه؟» (مز77: 7-9).

وأيضًا «هل إلى الدهر تسخط علينا؟ هل تطيل غضبك إلى دور فدور؟ ألا تعود أنت فتحينا فيفرح بك شعبك؟» (مز85: 5، 6).
والكلمة النبوية تشارك في هذا الصراخ أيضًا، فنقرأ:
«أ لأجل هذه تتجلد؟ أ تسكت وتذلنا كل الذل» (إش64: 12).
«هل كل الرفض رفضتنا؟ هل غضبت علينا جدًا؟» (مراثي 5: 22).  
وفي هذه الفترة أيضًا - كما يخبرنا التاريخ - عانت تلك الأمة من الاضطهادات ما يشيب لهوله الولدان، وما بقي لهم في الضيقة العظيمة هو أعظم.

لم تَمُت العروس ولكنها نائمة!


يبدأ هذا القسم بحديث العروس قائلة: «أنا نائمة، وقلبي مستيقظ».  وهذا التعبير يُذكرنا بعبارة قالها الرب عن “ابنة يايرس”، قبل أن يقوم بمعجزة إقامتها من الموت، إذ قال: «إن الصبية لم تمُت، لكنها نائمة» (مت9: 24).  فمع أنها كانت قد ماتت فعلاً، لكن لأن الرب كان مزمعًا أن يقيمها، فقد قال عنها إنها “نائمة”.  وهكذا المحبوبة هنا، أعني البقية التقية، بعد اختطاف الكنيسة إلى السماء، وفي فترة الضيقة العظيمة، فمع أنها ستكون في حالة الموت فعلاً، لكن نظرًا لأن الرب مزمع أن يقيمها، فإنها تُعتبر نائمة فقط (انظر أيضًا يوحنا 11: 11-14).

لقد بردت عواطف المحبوبة نحو عريسها.  لقد نامت العروس، ورفضت أن تفتح لعريسها لما قرع على قلبها.  فشعبه لم يرحِّب به (يو1: 11)، وفي النهاية تألم المسيح “خارج الباب” (عب13: 12)!

وماذا تقول هذه النائمة؟  إنها تقول: «صوت حبيبي قارعًا. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي.  لأن رأسي قد امتلأ من الطل وقُصصي من ندى الليل» (5: 2). 

كان صوت المسيح قارعًا، لأنه كان يعلم خطورة الأمر إن هو انصرف عنهم.  هذا ما أشارت إليه النبوات المرة بعد الأخرى، فقال الرب في نبوة هوشع على سبيل المثال: «ويل لهم لأنهم هربوا عني. تبًا لهم لأنهم أذنبوا إلي... ويل لهم أيضًا متى انصرفت عنه» (هو7: 13؛ 9: 12).  وهو عين ما أحس به كاتب العبرانيين، فكتب وكأنه يقرع على القلوب بشدة: «كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره؟»؛ وأيضًا «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم»؛ وأيضًا: «انظروا أن لا تستعفوا من المتكلم، لأنه إن كان أولئك لم ينجوا إذ استعفوا من المتكِّلم على الأرض، فبالأولى جدًا لا ننجو نحن المرتدين عن الذي من السماء» (عب2: 3؛ 3: 7؛ 12: 25). 

وعندما يقول المسيح هنا: «افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي»  فهذا معناه، في قصة سفر النشيد، أن الرب كان مستعدًا، لو فتحوا له، أن يدخل إليهم.  فحتى بعد أنه صلبوه وقتلوه، كان الرب مستعدًا لو تابوا ورجعوا أن يمحو خطاياهم، وأن يرجع من السماء لكي يحقِّق لهم المواعيد التي لهم، فهذا ما نفهمه بوضوح من كلمات الرسول بطرس لهم في أعمال 3: 17-26.

وقرعات الرب على قلب هذه الأمة سُمعت في الإصحاحات الأولى من سفر الأعمال، ولحين رجمهم لشهيد المسيحية الأول استفانوس (أع7).  واليهود كما رفضوا شهادة المسيح وهو حي بينهم، رفضوا شهادة الروح القدس المرسل من السماء، فكانت النتيجة أنه تمَّت تنحيتهم إلى حين.  فمقتل استفانوس (أع7)، فتح الباب للسامرة ولأقصى الأرض (أع8)، كما تم دعوة رسول الأمم، الرسول بولس (أع9)، وتم خلاص أول أممي (أع10).  لقد حوَّل نهر النعمة مجراه، ووصل إلى الأمم.  وها نحن الآن نعيش في تلك الفترة الزاهية، فترة دعوة الله للأمم.  ثم بعد أن يدخل ملء الأمم، ستبدأ مرحلة جديدة في تعامل الله مع البقية التقية من هذا الشعب (رو11: 25-27).

يا كاملتي!


وفي كلمات المسيح القارعة على قلب تلك الأمة، يقول لها: “يا كاملتي” (5: 2).  وقد يرتبك البعض من استخدام الرب لهذه الكلمة للأمة في ذلك الوقت، فما أبعدها في الواقع عن هذا الوصف!  لكن الإجابة البسيطة التي يعرفها من يقرأون النبوة هي أن هذه هي نظرة المقاصد نحو هذه الأمة مهما كان واقعها الفعلي.  وهو يذكرنا باسم التدليل “يشورون”، ومعناه المستقيمون (تث33: 26). فحتى لو سمنوا ورفسوا (تث32: 15)، فهم ما زالوا في نظر الرب “يشورون”!  ولعلنا نتذكر قول النبي إشعياء: «من هو أعمى كالكامل، وأعمى كعبد الرب؟» (إش42: 19).  كثيرون يفتكرون أن الكلام هنا هو عن المسيَّا، لكن حاشا أن يكون المسيا أعمى، وهو الذي يفتح أعين العميان؛ بل إن الأعمى هو إسرائيل، الذي يقول عنه إشعياء بعد هذا: إنه “شعب منهوب ومسلوب” (إش42: 22).  لقد كان الرب ينتظر من شعبه أن يكون كاملاً، ولكنهم كانوا أبعد ما يكون عن ذلك.  ولكن طالما أن هذه هي نظرة نعمته إليهم، فلا بد أن معاملات نعمته تصل بهم إلى ما قصده لهم.  ولذا فإننا نقرأ مرة أخرى عن هذا التعبير في ختام هذا القسم، إذ يقول العريس: «واحدة هي حمامتي كاملتي» (6: 9).  ولكن هذا ينتظر توبة الأمة، وفترة الملك الألفي، كما سنرى ونحن ندرس هذا القسم.

أما ما حدث في الماضي فهو بكل أسف تهاون إلى أقصى درجة.  واسمع بماذا أجابت هذه النائمة على قرعات الحبيب على قلبها؟  لقد قالت: «قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟  قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما؟».  أعذار تافهة لا قيمة لها البتّة.  نعم، لقد تهاونوا ومضوا في طريقهم غير عابئين بآلام سيدهم وربهم.  وهذا التهاون كان قد سبق المسيح وألمح إليه في واحد من أمثاله في متى 22: 1-14. فبعد أن قدَّم دعوته للمدعوين، فلم يريدوا أن يأتوا، أرسل إليهم مرة ثانية قائلاً لهم في هذه المرة الجديدة: «ثيراني ومسمناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعَدّ، تعالوا إلى العرس»، إشارة إلى إتمام عمله فوق الصليب.  لكن يستطرد المسيح قائلاً: «لكنهم تهاونوا» (مت22: 5).  كما اقتبس الرسول بولس كلمات النبي حبقوق مطبِّقًا إياها عليهم: «انظروا أيها المتهاونون وتعجَّبوا واهلكوا، لأني عملاً أعمل في أيامكم، عملاً لا تصدقون أن أخبركم أحد به» (أع13: 40، 41).

ومن المهم أن نلاحظ أن هذا القسم، وإن كان يبدأ بالعروس وهي غير مستعدة لاستقبال عريسها وغير مرحبة به (5: 2، 3)، ولكنه يختم بعبارة من أروع عبارات السفر: «لم أشعر إلا وقد جعلتني نفسي بين مركبات قوم شريف» (6: 12)، أو مركبات “عميناداب”، والتي تعني “شعبي المنتدب”.  فأول القسم يحدثنا عن عدم ترحيب الشعب بمسياهم يوم ضعفه، ولكن - كما أوضحت النبوة - سيرحبون به ويصبحون له شعبًا منتدبًا، في يوم قوته (مز110: 3).  فالذي رُفض واحتُقر في مجيئه الأول، سيُرحَّب به في مجيئه الثاني، وستتم كلمات المسيح لهم في آخر حديث له معهم: «لا تعودون ترون وجهي حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب» (مت23: 39).

(يتبع)


يوسف رياض