أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2018
الأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«الإِلهُ القَدِيمُ مَلجَأٌ، وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ» (تث٣٣: ٢٧)

«لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ» (رو١٥: ٤)

وعود المكتوب هي لكل الدهور. فما قاله الله لموسى هو له، ولنا على ذات القياس. الوعود أشبه بالنجوم الساطعة؛ فهي سطعت على إبراهيم، وعلى داود، وعلى الرب يسوع. فضلاً عن ذلك هي تسطع علينا بذات الضياء. فحيثما نجد وعدًا أعطاه الله لواحد من أولاده، حتى لو كان ذلك قبل آلاف السنين، فلنا الحق أن نُطبقه على أنفسنا، تمامًا كما لو كان الله تكلَّم به إلينا الآن، من السماء.

هذا هو الأسلوب الحق لقراءة كتاب الحق؛ أن ندعه يتكلَّم إلينا مباشرة، فكلماته بمثابة ينابيع متدفقة على جانبي سبيل الحياة. وعلى مدى دهور وأزمنة، ارتوى بمياهها ملايين المؤمنين، في سياحتهم نحو البيت الأبدي. واليوم فإننا – أنا وأنت – نأتي مُعيين وعطشى، وننحني لِنَعْبُّ لأنفسنا من هذه المياه الحلوة، ونختبر أنها على ذات القدر من الحلاوة التي تمتع بها الذين شربوا منها مباشرة يوم انبثقت. فإذا كنا أولادًا لله بالحقيقة، فكل كلمات الكتاب الثمينة هي لنا.

على سبيل المثال، ثمة كلمة بارك بها موسى – رجل الله – بني إسرائيل، ضمن ما بارك وقتها. ولكنها تأتي في صيغة الحاضر: «الإِلهُ القَدِيمُ مَلجَأٌ، وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ» (تث٣٣: ٢٧). هذا حق دائم بالنسبة لكل مؤمن.

إن الكتاب المقدس هو كتاب محبة، وهو بمثابة إعلان أن قلب الله ينبض بالمحبة، عَبْرَ كل أصحاح من أصحاحاته. وهكذا فما دام العالم يضج بالألم والمعاناة والضعف والعوز، سيظل يُرحَب بالكتاب المقدس من جانب قاطنيه. فمن خلال آلاف السبل الرقيقة، يكشف لنا محبة الله ومراحمه. وهل هناك ما هو أحلى من هذا الفكر: أن أذرع الله السرمدية تحت كل واحد من أولاده؟

إننا نعيش في عالم كبير معادٍ، يموج بالأخطار والتجارب. ظروف مضادة قد تدهمنا، ليس لنا يد فيها. فإذا أردنا أن نجابهها بقوتنا الخاصة، سنبوء بالفشل. فكم هو معزٍ أن يكون لنا وعدٌ كهذا: أن الأذرع الأبدية تحملنا.

نحن لا نُحارب حروبنا الخاصة بمفردنا، أو بلا حمى أو ستر، في عالم مخوف مثل هذا. بل نحن بقوة الله محفوظون. فالله كلي الوجود يُحيط بنا، ويشملنا برعايته. فليس من مبرر لنخاف في مواجهة الأمور الصعبة القوية، ذلك لأن الأذرع الأبدية تحضننا وتُحيط بنا. لا علينا إذن سوى الثقة البسيطة. والأمر أشبه بصورة طفل صغير محمول بين ذراعي أب قوي قادر أن يحميه من كل المخاطر المُحدِقة، ويُظلّله من كل سهام العدو.

وثمة فكر خاص هنا يسوقه الروح القدس للمؤمن الصغير أو الضعيف. إنه وعد مسياوي يُسجّله سفر إشعياء: «كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ، وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ» (إش٤٠: ١١). فليس بمقدور الحملان أن تعبر طريقًا طويلاً شاقًا، عندما يقود الراعي أغنامه إلى الماء والمراعي. فقد تقع تلك الحملان الضعيفة فريسة للحر، أو تسقط بين الجبال المُسنمة. فهل يقود الراعي القطيع تاركًا الحملان الضعيفة العاثرة لحالها بين براثن الهلاك؟ كلا ... إنه يجمع الحملان بذراعيه، وفي حضنه يحملها. وهكذا الحال مع “الراعي الصالح”.

وواحدة من أروع الأمور في الكتاب المقدس هي رِفق الله البادي نحو أولاده في كل مكان، وكل زمان. ففي القديم قاد الله جماعته اليهودية، وبسط عليهم ستر جناحيه الإلهيين، وأعطاهم أدق تفاصيل القواعد والأحكام لتعليمهم، وليكفل لهم الأذهان المشحونة بالأفكار المقدسة. وفي العهد الجديد، ليس من صورة أجمل من مشهد الرب يسوع وهو يأخذ الأولاد الصغار بين ذراعيه، ويُباركهم (مر١٠: ١٣-١٦).

ونحن نجد تعليمًا خاصًا هنا للشيوخ أيضًا. فبين أقصى طرفي الحياة: الطفولة والشيخوخة، نجد الضعف، وعدم القدرة على الدفاع عن النفس. فالطفولة - بكل براءتها وانعدام خبرتها – لا تُمكن الأطفال من العناية بأنفسهم. ثم الشيخوخة، بكل ضعفها المشوب بإظلام العينين وارتعاش الأطراف، لا يُمكنها أن تصمد في مواجهة وعورة وخشونة الحياة. ولكن هناك وعد يقول: «إِلَى الشَّيْخُوخَةِ أَنَا هُوَ، وَإِلَى الشَّيْبَةِ أَنَا أَحْمِلُ. قَدْ فَعَلْتُ، وَأَنَا أَرْفَعُ، وَأَنَا أَحْمِلُ وَأُنَجِّي» (إش٤٦: ٤). نعم، ليس ثمة داعٍ لأن يخاف الشيوخ والعجائز من تكاثر ضعفاتهم إذ تحدق بهم الأخطار المتنامية، لأن «الأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ».

أول ما يأتي الله إلينا، يأتينا ونحن أطفال بين أذرع أمهاتنا. فكل حب هو من الله. وبين كل صور الحب البشري يأتي حب الأم باعتباره الأقرب شبهًا بالمحبة الإلهية. ذراعا الأم تحمل الطفل من تحت، في بواكير عمره. ومعظمنا يعي معنى “محبة الأم”. وربما أولئك الذين فقدوا هذه المحبة يعرفون كنهها أكثر من غيرهم، لأن الذين يتمتعون بالفعل بهذه المحبة، قد لا يُقدرونها حق قدرها، في كل جمالها. ولن ينكشف الحجاب عن قيمتها وغلاوتها إلا عندما تذهب.

تفارقنا أمهاتنا بعد أن يكن قد علمننا، في حياتهن، نذرًا يسيرًا من محبة الله ورأفته. ولكن الله نفسه يبقى ويدوم، وذراعيه لن تخذلانا، ولن تفلتانا.

بعد موت “هوراس باشنل” وُجِدت - بين حاجياته – قصاصة من الورق، مُدوَّن عليها بقلم رصاص باهت، هذه الكلمات: “عناية محبة أمي كانت من الله. وكان الله يحل بمحبته نحوي، فيها ومِن خلالها. ولكن محبته كانت أعمق وأقوى من محبتها. رحلت أمي منذ سنوات عديدة، ولكن الله لا يزال إلى جواري، وما زلتُ في حضنه، في شيبتي، كما كنت موضوع عنايته وترفقه، في طفولتي. وقد وهبني – لفرحتي ومجد حياتي – الامتياز بأن أعرفه، وأعانني لأدعوه بثقة تامة: يا أبي”.

والفكرة ههنا جميلة للغاية: فمحبة الأم هي محبة الله مُعبَّرًا عنها أولاً للطفل بطرق إنسانية مُترفقة عطوفة حنونة، يستطيع الطفل أن يعيها، إذ ليس ثمة طريقة أخرى لإعلان محبة الله للطفل. فلو ظهر الله للطفل، فقد يرتعب الطفل من مجد جلاله. وشيئًا فشيئًا يبدأ دور الأم يضعف، ولكن الدرس قد وعاه الولد، لتبقى المحبة، ولئن كانت غير مُعبَّر عنها بصوت أو لمس أو معونة بشرية، إلا أنها تظل محبة حقيقية، ليست أقل عطفًا، بل أكثر عمقًا وقوة وديمومة من محبة الأم. وهكذا فإن واجب ودور الأم نحو ولدها هو أن تُعلّمه محبة الله ... ثم ترحل. وماذا كان عمل محبة الأم في قلب ولدها؟ كان يملأه ويُشبعه. وهو ذات فعل محبة الله في قلب الإنسان المُسن اليتيم الأم، والذي يستريح في حضن الذراعين السرمديتين. وليس للمؤمن المسيحي ملجأ سوى حضن المحبة الإلهية غير المحدودة.

في واحد من أخطر الفيضانات التي اجتاحت الغرب، عندما تعاظمت المياه لتُغطي الوادي، جارفة في سبيلها الأشجار والأسوار والمحاصيل والمباني، فإن بعض الذين كانوا في قارب قريب، لاحظوا مهدًا لطفل رضيع، يطفو عل سطح الماء، بين الحطام، فجدفوا بالقارب نحوه، فوجدوا رضيعًا جافًا آمنًا، نائمًا في سلام، ملفوفًا في بطانيته الدافئة. ووسط كوارث الأرض المُحدقة، فإن شعب الله الأصاغر الضعفاء، محفوظون، آمنون، وسالمون، بين الأذرع الأبدية «ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِمًا سَالِمًا، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ» (إش٢٦: ٣).

ويُمكننا أن نقترح بعض المدلولات والمعاني لأذرع الله التي تُعانقنا:

المدلول الأول: الحماية:

فالأب يُحيط ابنه بذراعيه عندما يكون الأخير في خطر. وهكذا يُحامي الله عن أولاده. فالتجارب تهاجمنا وتخبطنا من كل جانب. وكثيرون يرتعبون عندما يتفكرون في الموت، ويرهبون لقاءه. ولكن للحياة أهوالها الأخطر من مجرد الموت. فإذا كنت تعيش للمسيح فلن تخشى الموت، إذ سيكون بوابتك للدخول إلى الفرح والبركة. ولكن الحياة التي تُحيط بها الأخطار من كل جانب، هي صعبة، ولذا تحتاج إلى حماية، وهذه يكفلها لنا الرب: «الإِلهُ القَدِيمُ مَلجَأٌ، وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ» (تث٣٣: ٢٧).

هناك حماية غير مرئية. فذات صباح استيقظ خادم نبي الله، وخرج، فرأى جنود جيش أَرام تُحاصر المدينة، فصرخ: «آهِ يَا سَيِّدِي! كَيْفَ نَعْمَلُ؟». ولكن أليشع النبي أجابه بهدوء: «لاَ تَخَفْ، لأَنَّ الَّذِينَ مَعَنَا أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُمْ». فنظر خادم نبي الله ثانية، فأبصر «وَإِذَا الْجَبَلُ مَمْلُوءٌ خَيْلاً وَمَرْكَبَاتِ نَارٍ حَوْلَ أَلِيشَعَ» (٢مل٦: ١٥). فداخل حصار جيش أَرام كانت هناك حماية سماوية. فمهما كانت الأخطار المُحدِقة بالمؤمن، هناك سور حماية غير مرئي «وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ».

المدلول الثاني: المحبة:

فذراعا الأب المُحيطتان بالطفل تعنيان المحبة؛ فهو مُستريح قرب قلب أبيه. كان يوحنا الحبيب يتكئ في حضن الرب يسوع. والراعي «بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ، وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا» (إش٤٠: ١١). هذه الصورة التي تُمثل الله الذي يحتضن أولاده بذراعيه، تُخبرنا عن محبته الفائقة. كما أنها تعني – فيما تعني – القرب الحميم في علاقته بنا. نعم، إن الحضن هو مكان الأولاد.

والفكرة هنا تعكس رفقًا أعمق: إن الأم تحمل وتحتضن ولدها بصفة خاصة في وقت الخطر والألم. فهي ترفعه بيديها عندما يسقط ويؤذي نفسه. وتواسيه وتعزيه إذ تأخذه بين ذراعيها. وعندما يمرض تحمله، وتربت عليه في حضنها.

وهذه مناسبة خاصة تظهر فيها المحبة؛ ففي أوقات الألم والمعاناة، نختبر عمل الأذرع الأبدية، وهي تحكي عن التعاطف والترفق والرحمة اللواتي يُظهرها الآب السماوي نحو أولاده في أوقات الألم والضيق. وهذه إحدى بركات الألم؛ إنه يدخل بنا إلى أعمق موضع من المحبة الإلهية، وأقرب مكان لقلب الآب السماوي. فالآب يجتذبنا إليه، عندما نجتاز في ضيق أو ألم.

المدلول الثالث: القوة:

إن الأذرع تُحدّثنا عن القوة. قد تكون ذراع الأم ضعيفة بدنيًا، ولكن المحبة تعضدها، وتجعلها قوية. ولكن ذراع الله قوية. إنها حاضرة في كل مكان، وقادرة على كل شيء. إنه يحمل العالمين بكلمة قدرته. وعندما تحيط هذه الأذرع الإلهية بواحد من أصغر المؤمنين، فلا يمكن لأية قوة في الكون أيا كانت أن ترخيها أو تفلتها.

وحتى من خلال علاقة الصداقة البشرية، نعرف أن يكون لنا صديق نستند إلى ذراعه بثقة. فهناك بعض الناس الذين نشعر في حضورهم بالأمان، ونحن نثق فيهم، حيث توجد قوة في سلامهم التام، يُشاركون بها مع كل مَن يدنو بالقرب منهم. وكل صديق بشري حقيقي - سواء عظم أو صغر – هو قوة لصديقه. ولكن أعظم قوة بشرية مؤَّمنة، هي ذرة من القوة الإلهية. فتلك كلية القوة والقدرة «تَوَكَّلُوا عَلَى الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّ فِي يَاهَ الرَّبِّ صَخْرَ الدُّهُورِ (قوة أبدية)» (إش٢٦: ٤). هذه هي الذراع التي لا يمكن أن تُكسَر، والحضن الذي لا يمكن أن يضيق بنا.

المدلول الرابع: الجلد والاحتمال، والثبات والدوام والاستمرارية:

ثمة فكرة أخرى بخصوص الأذرع الأبدية، ألا وهي الجلد والاحتمال، والثبات والدوام والاستمرارية. رأينا أن هناك حماية ومحبة وقوة، بيد أن ليست هذه كل البركات التي تكفلها محبة الله. فقد تتوافر هذه البركات في ذراع المحبة البشرية، ولكن هذه يُمكن أن تعيا وتخور. فقد تكل ذراع الأم عن أن تضم طفلها في صدرها. وقد يكون هناك رجل ذراعه أشل تتدلدل إلى جواره عاجزة، وهكذا لن يعود يقدر أن يُحركها ليحضن محبوبه، في حضنه، برفق. أما ذراعا الله فأبديتان. لن تعييا أبدًا. هما دائمتان أزليتان أبديتان. هما ذروة بركات المحبة والعناية الإلهيتين.

هذا شاب يقف إلى جوار التابوت الذي يحوي جثمان زوجته الحبيبة، بعد عام واحد من حياة زوجية سعيدة قصيرة. كان حضن هذا الحب حلوًا جدًا، ولكن آه، كم مرت الأيام سراعًا، وها هو يقف وحيدًا كما لو في برية قاحلة، بعد أن فقد أغلى وأثمن رفقة.

ثم هذا رضيع يبلغ من العمر أسبوعين، قد افتقد أمه. كانت الأم قد احتضنت وليدها بذراعين واهيتين، لتضمه في عناق حب طويل، ولكن الرضع سيُحرَم من ضمة هذين الذراعين فيما بعد.

هذه هي الحياة الإنسانية، بعواطفها المكسورة، ومحبتها الوقتية القصيرة، بما يعقبها من فراق. تحوطنا بأذرع واهية، سرعان ما تكل وتنهار. لكن ها هما ذراعان قادرتان دائمتان. وها هو حضن واسع لن يضعف، ولن يزول، ولن يعقبه فراق؛ إنه حضن وذراعي الله. لا موت ولا حياة بإمكانهما أن يفصلانا عن محبته. الجبال والآكام تتزعزع وتزول، ولكن رحمة الله لن تُفارق أولاده الأحباء مطلقًا.

وثمة فكرة مقدسة في قول الكتاب: «مِنْ تَحْتُ»، ولإيضاحها، نتصور أبًا يُحاول إنقاذ ابنه من الغرق في لجة البحر، فيُحيط جسمه بذراعيه، ولكنهما كانتا ضعيفتان للحد الذي معه انزلق الولد من قبضتهما، وغرق في ظلمة اليم، ومات. ولكن ذراعي الله هما «مِنْ تَحْتُ» أولاده. ولا يمكن أبدًا لأحد أن يفلت أو يُفقّد من حضنه، فذراعاه دائمًا من تحت.

إن أمواج ومياه اليم عميقة جدًا، ولكن ذراعي الله الأبديتين تحملانا «مِنْ تَحْتُ»، ولا يمكن أن نغرق. فإذا رقدنا في فراش المرض، فذراعاه الأبديتان هما تحتنا. وإذا خذلنا أصدقاؤنا البشريون، فلن نظل بمفردنا. فذلك المجيد الذي لا يعتريه تغيير يبقى معنا وإلى جوارنا، وذراعاه الأبديتان تحتنا. يبقى الله، والله فيه كل الكفاية.

وعندما يحل المنون، وكل ما هو أرضي يمضي، ويُرخينا كل ذراع بشري، ويغيب كل وجه مُحبّ من أمام ناظرينا، ونغرق في ما يبدو ظلمة وظل الموت، فستظل الأذرع الأبدية وحدها «مِنْ تَحْتُ».

عندما كان الرب يسوع يتجرع الموت على الصليب، وعندما أسلم الروح «نَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو٢٣: ٤٦). ولم يجد ظلمة، ولا وحدة، ولا غمار نهر عميق، بل ذراعين أبديتين. وهذا هو شأن كل مؤمن حقيقي يرقد: يرحل عن أرض التعب والألم إلى البيت الأبدي في حضن المسيح.

إننا نحتاج أن نُدرب نفوسنا لكي نثق بالله بلا تزعزع. ولكن كثيرين ضعفاء هنا؛ هم ليسوا على يقين من إيمانهم بالمسيح، ومِن ثم هم ينزعجون بسهولة. الضيق يرهبهم، والخطر يملأهم بالخوف، وسلامهم يُعكّره الاهتمام والتجارب، وحماسة خدمتهم المسيحية فاترة، لذلك بسهولة يُحبطون في مواجهة الصعوبات والمعوقات. تديّنهم أشبه بدرجة الحرارة، تارة في الارتفاع، وتارة في الانخفاض، مثل زئبق مقياس درجة الحرارة. يبدأون في عمل ما، ثم لا يلبثون أن يكفوا. صلواتهم متقلبة مزاجية. في أفضل أحوالهم هم أشبه ببراعم الصيف، تسقط وتذبل في مواجهة أول موجة باردة.

ولكن إذا استقرت أفكارنا على المسيح، فسنتمتع بسلامه التام. وإذا أدركنا أن الله السرمدي هو ملجأنا، وأن ذراعيه الأبديتين هما بالحقيقة تحتنا، فلن يكون فرحنا متقطعًا، ولا حماسنا متقلبًا. إن الإنعاش الذي نحتاجه هو علاقة أقرب للمسيح، وثبات أعمق فيه، وثقة أكبر به، ورسوخ عليه وعلى عمله الكفاري، عندئذٍ لا شيء يُمكن أن يُزعزع ثقتنا، ولا شيء ينال من حرارتنا وحميتنا، ولا شيء يَعُوق تكريسنا. عندئذٍ سنفرح في الألم، وننتصر في التجارب، وبامتداد حياتنا سنتمتع بمحبة المسيح وقوته.

جيمس ر. ميللر