أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد أبريل السنة 2005
دعوة ارميا وملامح خدمته
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

من الأشياء المُفرحة جدًا أن نرى الله وهو يجهز إناء ويعدّه لخدمة معينة، فبكل ما تحتويه شخصية هذا الخادم من ضعف واهتزاز، يظهر الله في المشهد ليكمل ويعالج أي ضعف، حتى تصبح هذه الآنية صالحة تمامًا لخدمة الرب وعمله، بل حتى تخرج الخدمة كما يريدها الله من خلال هذا الوعاء.  هذا الفكر واضح في العديد من الشخصيات مثل موسى وجدعون، ولكننا سنتناول هنا شخصية إرميا.
لم تبدأ الخدمة من جانب إرميا بل من جانب الله، حيث نقرأ: «فكانت كلمة الرب إليَّ قائلاً. قبلما صوّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك.  جعلتك نبيًا للشعوب» (إر1: 4، 5).  البداية بدأت قبل أن يوجد إرميا، وقبل أن يدخل الحياة.  لقد كان الله ينظر إلى إناء غير موجود، يهيئه لكي يظهر في وقت محدد ويقوم بخدمة محددة.  نعم، فلقد عرفه قبل أن يصوره، ثم بعد أن صوَّره قدّسه وجعله نبيًا للشعوب.

ولعلنا نلاحظ أنه قبل أن يقدسه الرب عرفه، فقبل التهيئة اللازمة للخدمة، سبقها معرفة الله له بكل ضعفه وبكل ما فيه، لقد عرفه بكل ما تحوي الكلمة من معنى.  وهذا ما يطمئن القلب، فالله قبل أن يرسلنا في خدمة معينة، وقبل أن يدعونا لعمل معين، يكون قبل ذلك قد عرفنا.  إنه يعرفنا تمامًا في هشاشيتنا وضعفنا، من ثم فإنه يقدسنا لنقوم بالعمل، ولسنا نحن الذين سنقوم بالعمل بل الله الذي سيقوم به من خلالنا.  فلنسترح، فإنه حتى لو اضطربنا ونحن نؤدي خدمة ما، فلنثق في أنه يعرف هذا، وهو الذي سيُعيننا، شرط أن نكون في مشيئته، ويكون هو الذي أمرنا بأن نفعل ما نقوم به.


كنا نتوقع أن يقول: ”قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، فقررت أن لا أرسلك“. ولكن على العكس. وكأن الرب يقول: إن ضعفاتك وفشلك ومعرفتي بما أنت عليه، لن يعيقني إطلاقًا عن أن أستخدمك.  ثم يلي ذلك العبارة الرائعة «جعلتك نبيًا للشعوب»، والتي يذكر فيها أنه جعله (في صيغة الماضي). إنه لم يقل له: لذا سأجعلك نبيًا للشعوب، ولكنه يقرر أمرًا منتهيًا «جعلتك نبيًا للشعوب».


ولكننا نرى في العدد السادس صورة مغايرة تمامًا لما نجده في العدد الخامس، فبدلاً من أن يثق هذا الخادم بهذه العبارات الرائعة، نجده يستعفي، ويحاول التهرب.  وحسنًا قال أحدهم: إنه لا يوجد شيء يعطل مشيئة الله على الأرض من نحوي إلا أنا.  ولكن لنترك إرميا يستعفي ولنتعلم من الرب الذي عالجه ويستطيع أن يعالجنا.  يظهر ضعف إرميا وهو يؤكد سيادة الرب حيث يقول: «آه يا سيد الرب» ثم يقول بعد ذلك: «إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد».  فإذا كان هو السيد وهو أمر، فلماذا لا تطيعه؟ وإن كان هو السيد الذي له سلطان ولا يقف أمامه شيء، فلماذا تتحدث عن ضعفك؟  إنها صورة لقلوبنا عندما تكرم الله باللسان، ولكنها لا تستطيع أن ترتمي عليه بكل ثبات، لذا تخرج الصورة مشوّهة، نصف كلامنا رائع والنصف الآخر فارغ.  تخرج كلماتنا تجمع ما بين تيقننا من سلطان الله، وبين خوفنا من أن نرتمي عليه ونثق فيه، فيا له من أمر عجيب!!


ولنلاحظ أن إرميا تذرّع بحجتين ليهرب من المسئولية، الأولى: أنه لا يعرف أن يتكلم، والثانية: أنه ولد.  وكونه ولدًا هي التي أدت إلى المشكلة الأولى أي عدم استطاعة الكلام، لذا ابتدأ الرب بعلاج الأساس حيث قال له: «لا تَقُل إني ولد» وكأنه يقول له: لا تحاول أن تتهرب ولا تُخرج مثل هذا الكلام من فمك.  ثم عالج أيضًا الحُجة الأولى وهي ادعائه أن لا يعرف أن يتكلم، وذلك بأنه مدّ يده ولمس فمه (إر1: 9).  فجعل الرب كلامه في فمه.  ثم قال له الله أيضًا: «لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب».


في ع 9 نرى حالة الفم وما لا بد أن يكون عليه، في ع 10 نرى حالة العين.  وهكذا الخادم لا يحتاج فقط إلى فم ليتحدث بأقوال الله، بل إلى عين فاحصة أيضًا، ترى وتنظر وتلاحظ.  لقد أراده الرب أن ينظر إلى وكالته التي أرسله فيها، وقد وكّله على الشعوب والممالك لكي يهدم في البداية ثم يبني ويغرس، ولنلاحظ أن الرب لم يرسل إرميا ليُصلح ما هو موجود، بل لكي يُسقط القديم أولاً ثم يُقيم الجديد، وهكذا الحال مع هذه الأمة حيث سينتهي القديم كله وسيدخلون الضيقة، ثم يخرجون شيئًا جديدًا، عندئذ سيستطيع الرب أن يملك عليهم.  ولنلاحظ أن الكلمات التي تتحدث عن الهدم كثيرة، حيث تَرِد أربع كلمات، بينما التي تتحدث عن البناء كلمتان فقط.


علينا أن نتعلم قلب الله الذي لا يرتِّق ما تهرأ، لكنه يستبدله بما هو أفضل كثيرًا، نعم لقد فُقدت الجنة، فلم يُرجع الله بفداء المسيح لنا جنة أخرى، بل السماء وبيت الآب!


وعلى الرغم من أن الرب ذكر أولاً أن عمل إرميا هو الهدم ثم بعد ذلك البناء، إلا أنه أراه رؤيتين، ولكن الترتيب انعكس فيهما، فالرؤية الأولى تتحدث عن البناء، بينما الثانية تتحدث عن الهدم.  وكأن ما يشغل الله في المشهد هو أنه موجود حتى لو ضعف ذلك الشعب، وحتى لو اقتادتهم خطاياهم إلى التأديب.  لكنه هو الساهر على كلمته ليُجريها، لذلك لم يهتم الرب في البداية بالقِدرْ المنفوخة، ولكن شغله قضيب اللوز.  فالرؤيا الأولى تتحدث عن ”قضيب اللوز“. إنه يذكّرنا بعصا هارون في سفر العدد ص17، العصا التي أفرخت وأنضجت لوزًا. إنها تتحدث عن المسيح الذي دخل القبر كما يدخل كل الناس، ولكن قام على النقيض من كل الناس.  لقد دخل القبر ولكنه عبره، هذا هو الذي يضمن بركات هذه الأمة، ذلك الذي هو عن يمين الله الآن، وسيملك عليهم في يوم قادم.  يا له من شيء رائع!  فأين ضعفهم، وأين فشلهم؟ لا ذكر لكل هذا.  ولكن ”قضيب اللوز“، الرب المُقام، هو الذي يملأ المشهد!


لم يؤكد الرب كلمات إرميا عن ماهية الرؤيا، ولكنه أكدّ على أن ما رآه إرميا سيتم، وسيتم بالارتباط بهذه الأمة، ليس لسبب فيهم، بل لسبب فيه وهو «لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها». هنا لا يتحدث عن تتميم كلمته من حيث الدينونة، فدينتونتهم وتأديبهم وما شابه ذلك من أمور، سيتخذ مجراه تلقائيًا، ولكن كلمته هنا هي عن إحيائهم وقيامتهم مرة أخرى ومُلكه عليهم.  ولئلا يتبادر لأي ذهن أن الله يصمت في مشهد الشر، ولئلا نقول أن الرب سيرُد إسرائيل ويملك عليهم بغض النظر عن شرهم، تأتي الرؤيا الثانية التي تتحدث عن الهدم والقلع، رؤيا القِدرْ المنفوخة، إنها قِدر، والقِدر شيء مصنوع من الطين، والطين يذكّرنا بالإنسان الذي هو تراب وإلى تراب يعود.  وكأن الله يقول هنا إنه مُعِّد للدينونة أشخاصًا آخرين سيقومون بتوقيع القضاء على هذا الشعب، وهم الأمم المجاورين لهم «لأني هأنذا داعِ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب. فيأتون ويضعون كل واحد كرسيه في مدخل أبواب أورشليم، وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا» (إر1: 13).

ما أرهب هذا! إن كل مَنْ رفض قضيب اللوز، ورفض التمتع بسيادة الرب وربوبيته، لن يتبقى له غير القدر المنفوخة، ومَنْ يستطيع أن يتحمل؟  طوال زمان النعمة والروح القدس يجاهد مع الإنسان مستعرضًا أمامه قضيب اللوز، متحدثًا عن ذاك الذي حمل الخطايا ومات، ثم قهر الموت وقام منتصرًا، وأيضًا يُريه القِدر المنفوخة ـ وإن كان الكلام هنا يخص إسرائيل، لكن يمكن تطبيقه بصورة أشمل وأعم ـ فما أرهب القِدر المنفوخة!  وما الذي ينتظر هذا العالم الرافض المسيح المُقام إلا الهلاك؟  لقد وضع بولس ذات مرة أمام فيلكس قضيب اللوز، وأعتقد أنه كان يسمع بسرور إذ يقول الكتاب «فاستحضر بولس وسمع منه عن الإيمان بالمسيح» (أع24: 24).  ولكن بولس تحدث أيضًا عن الدينونة العتيدة، تحدّث عن القِدر المنفوخة «وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، ارتعب فيلكس» (أع24: 25).


ولنلاحظ أن الرب لم يَقُل لإرميا أحسنت الرؤيا مع القِدر المنفوخة، والسبب في ذلك أن الدينونة هي عمل الله الغريب (إش28: 21).


يذكر الرب بعد ذلك سبب تأديبهم «وأُقيم دعواي على كل شرهم لأنهم تركوني وبخَّروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم».  فالله عندما يؤدب يفعل ذلك بسبب شر الإنسان.  لقد أراد الله أن يملأ إرميا بالأمرين معًا، ليكونا أمام عينيه دائمًا.  الأمر الأول أن الله في المشهد حتى لو ضعفت حالتهم، أو حتى وصلت إلى الموت، فهو إله القيامة، الذي اجتاز الموت منتصرًا، وهذا ظهر في قضيب اللوز، ولكن الله في ذات الوقت لا يتهاون مع الشر، وفي حالة ترك شخصه والاستهانة بقداسته، لا يوجد غير القضاء.  أوَ ليس هذا أيضًا هو الفكر الذي يقدمه بولس في بداية رسالة رومية ـ رسالة التبرير ـ دعونا نأخذ على سبيل المثال الأصحاح الأول، في بدايته نرى قضيب اللوز؛ المسيح المُقام من الأموات والذي من خلال قيامته تبرهن أنه ابن الله «وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.  يسوع المسيح ربنا» (رو1: 4).  لكننا بعد ذلك نجد فيالإصحاح ذاته القِدر المنفوخة، حيث نقرأ: «لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم» (رو1: 18).

اهذه هي رسالة التبرير تضع قضيب اللوز جنبًا إلى جنب مع القِدر المنفوخة، وعلى الإنسان أن يختار ما بين الاثنين، وويل لمَنْ يرفض المسيح المُقام إذ لن يتبقى له غير غضب الله.

 بعدما شاهد إرميا هذه الرؤى، بدأ حديث الرب إليه: «أما أنت فنطِّق حقويك وقُم وكلمهم بكل ما آمرك به» (إر1: 17)، وما أهم أن يبدأ الخادم بهذا الأمر، أن ينطِّق حقويه، أي عليه أن ينضبط هو أولاً بما سمعه، حتى يستطيع أن يتحدث مع الآخرين. وهكذا لا يصلُح أن نحدّث الآخرين قبل أن ننطّق حقوينا أولاً. فلكي ننجح في خدمتنا يجب أولاً أن يأخذ الحق مجاله في حياتنا وفي سلوكنا قبل أن نحدّث الآخرين. ثم بعد ذلك يقول الرب: «لا ترتع من وجوههم لئلا أُريعك أمامهم» وكأن الرب يقول له: أنا لن أُريعك أمامهم أبدًا، فلماذا ترتاع؟ ولكن إذ ارتعت سأُريعك أمامهم، فلا شيء سيغير فعلي تجاهك سوى عدم إيمانك.

 ثم يضع أمامه بعد ذلك الامتيازات وما أروعها «هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض» ومَنْ يستطيع أن يقف أمام المدينة الحصينة؟ ومَنْ يستطيع أن يجابه عمود الحديد؟ بل مَنْ يستطيع أن يعبر أسوار النحاس؟ والإجابة لا أحد. هذه هي العناية الإلهية التي تحيط بمؤمن واحد، مؤمن خائر يشعر بضعفه، فتجعل منه مدينة حصينة، وعمود حديد، وأسوار نحاس!

 «فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك» (إر1: 19). لم يَعده الرب بأنهم سيكونون أصدقاء له، بل إنهم سيحاربونه ويقفون ضده، ولكن لا يقدرون عليه. لماذا؟ لأني أنا معك يقول الرب.

 ما أروع هذه العبارة الأخيرة «لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك» حيث قالها الرب مرتين لإرميا، مرة في العدد الثامن، ومرة في العدد التاسع عشر. وما أجمل أن يقول الله أمرًا ما مرتين! ليذهب إرميا بثقة كاملة وليعلمنا نحن أن نثق في الله، فهو ليس إنسانًا فيكذب أو ابن إنسان فيندم. وهذا ما حدث فعلاً. ففي الإصحاح الثاني نرى إرميا يتكلم ويبدأ في العمل لأنه وضع ثقته في الرب.

 

إسحق شحاته