أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2012
الغد المجهول
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ (أع1: 7، 8)

العهد الجديد لا يشجع على الحياة التي تسوقها المشاعر والأحاسيس.  فكتبة الوحي كان لديهم الكثير من العمل الذي يلزم فعله، بالإضافة إلى الكثير من الأمور التي تستحق التأمل، بدلاً مما لا داعي له، كالاستغراق في ذكريات ماضية، أو الاسترسال في التخيّلات بشأن توقعات مستقبلية.  وتحثنا كلمة الله أن نذكر ما يدفعنا لتقديم الشكر، ونتفكر في ما هو أساس للرجاء.  وأقوال العهد الجديد تجعلنا نتطلع قدمًا، ليس إلى آمال أرضية بأحوالها المتقلبة، بل إلى مستقبل عظيم تتوق له القلوب وتثبت عليه الأنظار، حين  تتلألأ ومضات الفجر التي تضرم الشوق والحنين في قلوب مراقبي الصبح.  
وبينما يخفى علينا ما يحمله الغد، فقد يلجأ البعض للتخمين الذي يفتقر لليقين.  والطريق الذي قسم لنا الرب أن نجتازه محاطًا بالضباب، لكن كلما ارتقينا عن مستوى الأرض نحو العلاء قلت كثافة الغيوم التي تعوق الرؤية في السهول والمنخفضات، فتكون الرؤية على قمم المرتفعات أكثر وضوحًا، لذا يُمكننا أن نلمح نهاية هذا الطريق حيث عرش المسيح.  فلا شيء مؤكد ويقيني في هذا العالم سوى حقيقة مجيء الرب إلينا، واجتماعنا إليه.  
وكلمات الآية التي في صدر المقال تُشير في الأساس إلى عدم معرفة وقت النهاية الذي تكلَّم عنه المسيح في هذه المناسبة.  لكن يمكن أن نجد تطبيقًا أوسع لها، والدروس التي نتعلمها هنا لهي في توافق تام مع روح الكتاب في كل ما يتعلق بالمستقبل.  ها نحن الآن على مشارف عام ألا نلتفت الآن لهذه الأقوال، واضعين في اعتبارنا أنها مليئة بالتعزية والتشجيع، مما يعطينا حافزًا قويًا أن نقوم بدورنا، كما أنها تُهديء نفوسنا وتُطمئنا ونحن على أبواب العام الجديد.
نتعلم من تعاليم العهد الجديد محدودية نتائج اهتمامنا بالمستقبل بالنظر إلى المعرفة المحدودة المُعلنة لنا عنه.  كما نتعلم أفضل طرق العلاج من كل أنواع القلق، فرغم عدم علمنا بما هو آتٍ، نعلم أن كل شيء بين يدي الله الرحيمة.  ونعلم أنه مهما حملت الأيام لنا، فقدرته الإلهية تعمل لحسابنا وتكفي لكل ما يواجهنا، وتُعيننا أن نقوم بما وجب علينا فعله.  

1-معرفتنا المحدودة بالمستقبل

«لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ»
كلنا نعلم أننا - إن تأنَّى الرب في مجيئه - سوف نواجه الموت.  ونحن على يقين أن الطريق التي أمامنا يمتزج فيها الفرح بالحزن؛ أوقات مُضيئة وأوقات حالكة.  لكننا لا ندري أكثر من ذلك.  نحن متأكدون أن الأغلبية منا سيكونون على قيد الحياة عند نهاية هذا العام الجديد.  لكن مَن يا ترى منا الذي لن يكون من هذه الأغلبية؟  قطاع كبير منا، خاصة الذين في منتصف العمر، سوف يستمرون في روتين الحياة كالأعوام الماضية، سيقومون بالمهام اليومية ذاتها كما هي، والحياة ستمضي بأفراحها وأتراحها كما مضت الأيام السالفة؛ لكن بالنسبة للبعض الآخر قد يحدث تغيير كبير، إما يجعل الحياة أكثر إظلامًا ومشقة، أو أكثر بهجة وإشراقًا.  لكن في كل تطلعاتنا سيظل الغد غير مؤكد، مُغلَّفًا بطبقات من ضباب عدم اليقينية، لا يظهر منه إلا بعض الأجزاء في أطرافه.  
لا أحتاج أن أُذكركم أن هذا الأمر من رحمة الرب وصلاحه نحونا، لكي لا تفسد مرارة الأحزان القادمة بهجة الأفراح الحاضرة.  ولكي يظل للأفراح القادمة بريقها، ولا تنطفئ نشوتها عندما تحدث، كما يظل اليوم الحاضر على شكله الحقيقي لا يتلوَّن بما يحمله الغد.    
إن كان الأمر كذلك فأي منهج حكيم نسلك، وليس لدينا تقدير وثيق مؤكد للغد؟  ليس من الحكمة إذًا الثقة بالنفس المغرورة والتي تفترض أن “الغد سيكون مثل اليوم”.  الوهم بأن الحياة ستمضي على الوتيرة ذاتها يخدع البشر بأحلام عظيمة لا أساس لها.  وليس من الحكمة أيضًا الذعر المفرط من توقع الخطر والشر.  أناسٌ كثيرون يٌفسدون البهجة الحالية بتفكيرهم في المآسي الآتية، ولا يُمكنهم التمتع ببركة الحب المُتبادل الآن بسبب تفكيرهم في احتمالية الانفصال في المستقبل!
باختصار نقول إن من الحكمة ألاّ نهتم بالمستقبل فيما عدا:
1- ما يتعلق باحتياطات يلزم أن نراعيها تخص أمورًا محتمل حدوثها.
2- ما يُعِدُّ أنفسنا للقيام بالمسؤوليات الموضوعة على عاتقنا.
 أمر مستقبلي واحد يستحق تفكيرنا.  الخطأ ليس في أننا لا نتطلع إلى المستقبل، بل أننا لا نتطلع إلى المستقبل البعيد والنهائي: لماذا نرتبك وننزعج بالأرض بينما لنا السماء؟ لماذا تتعلق أنظارنا بالمستوى المنخفض من الأرض المحاط بالضباب بغاباته ومستنقعاته، بينما يمكننا أن نرى الطريق الصاعد نحو المرتفعات؟  لماذا ننزعج في العام الجديد بما يأتينا في 366 يومًا، بينما نعلم ما تحمله الأبدية لنا؟  لماذا نعطل قوة الرجاء المُعطى لنا من الله أن ينجز هدفه الحقيقي؟ ولماذا نعذب أنفسنا بالاجترار على المخاوف والمخاطر غير اليقينية، بينما يمكن أن نتذوق السلام العجيب المرتبط بهذا الرجاء المبارك؟

2- اليد الأمينة الضامنة للمستقبل

«الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ... جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ»
لا يلزم أن نعتمد على قُرْعَة القدر المجهول، ولا  دوَّامة الحظ، ولا نظريات الاحتمالات، ولا نواميس الطبيعة، أو روح وتوجهات العصر، ولا حتى على أعمال العناية الإلهية العامة بالكون كله، بل لنضع اعتمادنا على الآب الذي يضبط كل شيء فيه بسلطانه، ويُديره لحسابنا نحن.  أَ ليس إذًا طريقنا مُعدّا جيدًا؟  فمهما جاء به المستقبل سيكون تهذيبًا أبويًا، وتدريبًا طيبًا صالحًا.  أبونا هو الذي يُشكل المستقبل ويحفظه في يديه، لماذا الانزعاج إذًا؟  إن اسم “الآب” العظيم يُلزمه بالمعاملات الحكيمة والرحيمة، والتي هي من دواعي ثقتنا واطمئناننا.

3- القوة الكافية لمواجهة المستقبل

 «لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ»
أعطى الرب هذا الوعد للتلاميذ من أجل غرض محدد، لكن هذا الوعد قد أُعطي لنا جميعًا في المسيح، وننتفع به إن خصصناه لأنفسنا، وبواسطته نكون مستعدين لكل المستقبل.
روح الله هو المترجم الحقيقي للمعونة الإلهية.  هو الذي يُهدئ كياننا ويُنير أذهاننا لنفهم مغزى معاملات الله معنا. وهو الذي يجعل الأفراح تُنتج لنا بركات أوفر، بأن يحفظنا من الانشغال المفرط  بها في حد ذاتها.
والروح القدس هو المعزي.  وهو يؤهلنا للقيام بالمسؤوليات الموضوعة علينا.  لذلك تيقن أنه لن يأتيك أمر في مستقبلك الأرضي دون أن يكون الروح بنفسه عونًا لك فيه ويستجلب لك بركة من خلاله.

4- المهام (المسؤولية) العملية في ضوء المستقبل:

«وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ»
 (أ) الأمر الهام الذي يجب أن نفكر فيه فيما يختص بالمستقبل هو عملنا - ليس ما سوف يفرحنا أو ما سوف يشقينا، بل ما سوف نعمله.  هذا أمر صحي وصحيح.
(ب) أعظم ترياق لداء الترقب للمستقبل بصورة معيية، يكمن في اعتبارنا للحياة أنها فرصة لعمل الخدمة.
  لا تقلق بشأن المستقبل، دع المستقبل يهتم بنفسه. اعمل! فالعمل يرتب الذهن ويصفِّيه وينزع عنه خيوط الكسل العنكبوتية التي عششت في أركانه، مثل إنسان يستيقظ من أحلامه المزعجة ليسمع حفيف الماكينات الزراعية وهي تعمل، مختلطًا بصياح الفلاح وهو يشتغل في حقله وقت سقوط الندى في الصبح باكرًا، وحين يمتزج صوت قطيع الماشية بصوت رنين المطرقة.
(ج) أعظم عمل يجب أن نقوم به في الأيام القادمة هو أن نكون شهودًا للمسيح.  هذا هو المعنى الحقيقي للحياة.  يمكن أن نفعل ذلك في وقت الفرح كما في أوقات الحزن، فهذا الأمر يعطي للحياة مذاقًا طيبًا خاصًا، لذا تحمل كلمات هذه الآية أيضًا وعدًا بالحماية والوقاية.  
إخوتي الأعزاء.  كيف يمكنكم مواجهة ذلك الغد المجهول؟  كيف تواجهونه دون أن تصابوا بالجنون، إن لم تعرفوا الله كالآب المحب، وتضعوا رجاءكم عليه في شخص المسيح؟ إن فعلتم ذلك لن يتسلل الخوف إليكم.  سيبقى الغد غريبًا عليكم، وربما يبدو كئيبًا، لكن يدي الآب الرقيقة والقوية تعمل خلف الستار وتديره بحكمة واقتدار.  سوف يعمل فيكم كي تحتملوا كل ما يحمله المستقبل لكم.  إن وضعتم في قلوبكم أن تكون الأولوية المطلقة والشرف الذي لا يدانيه شرف، أن تكونوا شهودًا للمسيح، حينئذ ستكونون في مأمن تام، فتُنقذون من فم الأسد، إذ تتم الكرازة بواسطتكم.  
إن لم تفعلوا ذلك سيكون المستقبل بالنسبة لكم مُعتمًا وعقيمًا، بل هائجًا مثل البحر، فيضيع منكم السلام ويختفي الرجاء، ويكون نتيجة ذلك أن الصداقات تضعف، والقوة تذبل، والكرامة تزول، والحياة تضيع مثل إنسان ينزلق على حفنة هلامية من رمال على شاطئ محيط رهيب الاتساع.

جون ماك آرثر