أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2007
آيات عسرة الفهم - آيات عسرة الفهم
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«نَأْمَةُ مَعْصِيَةِ الشِّرِّيرِ فِي دَاخِلِ قَلْبِي أَنْ لَيْسَ خَوْفُ اللهِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ. لأَنَّهُ مَلَّقَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ وِجْدَانِ إِثْمِهِ وَبُغْضِهِ» (مز 36: 1، 2).

****

هذه الآية، سواء في جزئها الأول أو جزئها الثاني تعتبر من الآيات العسرة الفهم. تحتوي على بعض الألفاظ الصعبة، ولو أن الفكرة العامة لها سهلة ومفهومة.

وترد هذه الآية في المزمور 36، وهو مزمور يحتوي على 12 آية.  الأربعة الآيات الأولى تحدثنا عن الشرير وشره، والأربعة الثانية تحدثنا عن الله وصلاحه، والأربعة الأخيرة تحدثنا عن مسار ومصير كل من البار والأشرار.

وبنظرة سريعة لهذا المزمور نكتشف أنه يحتوي على مباينات صارخة: المباينة الأولى بين شر الإنسان من جهة (ع1-4)، وصلاح الله من الجهة الأخري (ع5-8)، ومباينة ثانية بين نصيب الأبرار (ع9، 10)، ومصير الأشرار (ع11، 12).  ثم إن كان الرب عنده ”ينبوع الحياة“ (ع9)، فإن في داخل قلوب الأشرار نبع الهلاك (ع1، 12).

الآية الأولى تحدثنا عن مأساة الأشرار. ومأساتهم أنه ليس خوف الله أمام عيونهم (ع1).  والرسول بولس اقتبس هذه العبارة في رومية 3 وهو يسرد عريضة الاتهام ضد الإنسان بصفة عامة، حيث ذكر هناك ثمانية شرور، منها ما هو سلبي، ومنها ما هو إيجابي.  مؤكدًا أن الإنسان ليس فيه أي صلاح، كما أنه مملوء بكل أنواع الشرور.  ثم يضع في ختام هذه القائمة أنه ليس خوف الله أمام عيونهم. 

من جهل الشرير أنه يظن أن لا إله، أو إن وُجِدَ إله فهذا الإله لا ينشغل بما هو حادث على الأرض، وهو لا يعنيه كثيرًا شر الإنسان أو بره.

وإذا كان رأس الحكمة مخافة الرب، فإن عين الجهل هو عدم مخافة الله.  هو إذًا مزمور يقدم لنا مباينة بين الزنديق والصديق.  والنتيجة أن المرنم يشدد على الإتكال على الرب وطاعته، بينما يحذر من معصيته والحيدان عنه.

والآن ماذا تعني الكلمة الافتتاحية لهذا المزمور: ”نأمة“؟  إن الكلمة العبرية ”نأم“ تستخدم عادة في الكتاب المقدس للتعبير عن وحي الله، أو كلام الله. وعليه فيمكن فهم هذه الآية هكذا: أن كلام الله، من جهة هؤلاء الأشرار، وصل إلى قلب داود. لكأنه تلقى من الله وحيًا بخصوص الأشرار، وعرف أن هؤلاء الأدعياء لا يضعون خوف الله أمام قلوبهم. وهذا هو المعنى الذي أخذت به الترجمة اليسوعية: «يُنْبِئُنِي قَلْبِي فِي دَاخِلِي بِمَعْصِيَةِ الشِّرِّيرِ، الَّذِي لاَ يَرْتَدِعُ خَوْفاً مِنَ اللهِ». 

على أن هذا المعنى يصطدم بالتركيبة اللغوية للآية، فهو لا ينسب الوحي إلى الله، بل يقول: ”نأمة معصية الشرير“.  وعليه فإن المعنى الثاني قد يكون أقرب إلى الحقيقة.  فالمرنم يعتبر كما لو كانت معصية الإنسان الشرير هي إلهه أو نبيه، يوحي إليه بالأفكار والأقوال. وهو يقبلها كأنها وحي.  طبعًا وحي قلبه الشرير.  إنه يعطي لصوت التمرد والعصيان في داخله، المكان نفسه الذي يعطيه القديس لأقوال الله.  وكما يسود الله على قلب التقي بالقداسة، هكذا يسود القلب الشرير على صاحبه بالكذب.
ولكن لماذا يقول داود هنا: ”نأمة معصية الشرير في داخل قلبي“، ولا يقول: ”في داخل قلبه“، أي في قلب الإنسان الشرير؟ 
يمكن أن نفهم ذلك أيضًا بطريقتين: أولاً أن داود أدرك في أعماق قلبه، أن الأشرار هكذا يفكرون. أو قد نفهمها أنه اكتشف لرعبه، أن نبع الشر الموجود في قلب الشرير، هو بعينه الذي في قلبه هو.  فهو يعترف أن هناك صدى لشر الأشرار داخل قلبه، ولولا رحمة الله لتصرف نظيرهم بالتمام.

ونحن نتذكر ما أعلنه الله لإرميا النبي، عندما قال: «القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس» (إر17: 9).  إنه لم يصف هنا ”قلب الأشرار“ دون سواهم، بل أعطى وصفًا للقلب البشري بصفة عامة (تك6: 5؛ مت15: 8 و17-20). هذا هو قلبي أنا وقلبك أنت أيها القارئ العزيز، حتى تفتقدنا نعمة الله.

أما الآية الثانية فهي استطراد للفكرة السابقة إذ يقول المرنم عن الشرير إنه ”ملق نفسَه لنفسِه من جهة وجدان إثمه وبغضه“.  وكلمة ”ملَّق“ تعني أنه داهن نفسه وأطراها ومدحها. بالإجمال هو خدع نفسه ليقنعها بأن خطيته ليست بشعة إلى هذا الحد.
وتعبير ”وجدان إثمه وبغضه“ تعني اكتشاف خطيته واكتشاف بشاعتها.  وهي ترد في الترجمة اليسوعية هكذا: ”حتى لا يجد إثمه ممقوتًا في عينيه“، وفي الترجمة التفسيرية: «فَإِنَّهُ يَتَمَلَّقُ نَفْسَهُ (لِيُقْنِعَهَا) أَنَّ خَطِيئَتَهُ الْمَمْقُوتَةَ لَنْ تُكْتَشَفَ وَتُدَانَ».
الشرير إذًا يخدع نفسه، يغرر بها ويخدرها. إنه يهدئ ضميره بأن خطيته لن تُعرف، لن يكتشفها أحد.  وكأنه يقول لنفسه: ”ما أقل الشرور التي أفعلها مقارنة بغيري“.

هذا كله نتج عما ورد في الآية السابقة: ”أن ليس خوف الله أمام عينيه“.  وعندما يغيب خوف الله عن العين والقلب تكون النتيجة المباشرة لذلك أن الإنسان يسهل الشر لنفسه. وهو في الواقع لا يتملق نفسه فقط أو يخدعها، بل إنه بذلك يدمر نفسه بنفسه.  ولقد قال أحدهم: ”إن الشيطان لا يمكن أن يخدع إنسانًا، إلا إذا خدع هذا الإنسان نفسه أولاً“.

وأن تسهل الشر لنفسك فهو علامة مؤكدة على أن خوف الله غاب عن العين والقلب. وأن تشفي الكسر ”على عثم“، وتقول لضميرك: ”سلام وليس سلام“ (إر6: 14)، هو أسهل الطرق وأسرعها إلى جهنم.

يوسف رياض