(تك٥: ٢١-٢٤)
لم يذكر الكتاب المقدس إلا القليل جدًا عن هذه الشخصية المُثيرة للاهتمام، لكن الحقائق القليلة التي وصلتنا كافية لترسم لنا عددًا من الملامح اللافتة المُميِّزة؛ بعض هذه الملامح تُصوّر صورة للكنيسة، والبعض الآخر يُصوّر المؤمنين أفرادًا، وإن لم يكن الانطباق تامًا في الصورة الأخيرة. وفقط لتجنب الالتباس نقول إن أَخْنُوخَ لم يكن ينتمي إلى الكنيسة، التي لم تكن أُظهِرَت قبل يوم الخمسين. ولكن حياته أظهرت - أو هذا ما ينبغي أن يكون - الملامح المُميَّزة لحياة المؤمنين. وما الكنيسة إلا مجموعة من المؤمنين. ودعونا نتأمل في بعض هذه الملامح:
(١) كان أَخْنُوخُ من نسل شِيث:
بعد أن قُتِلَ هابيل بيد قايين أخيه، دبر الله بديلاً: فلقد «عَرَفَ آدَمُ امْرَأَتَهُ أَيْضًا، فَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثًا، قَائِلَةً: لأَنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلاً آخَرَ عِوَضًا عَنْ هَابِيلَ. لأَنَّ قَايِينَ كَانَ قَدْ قَتَلَهُ» (تك٤: ٢٥). فإذا كان موت هابيل يُصوّر لنا المسيح كشهيد، مذبوحًا من أجل شهادته الأمينة، فإن شِيث يُصوّر المسيح المُقام، المُعطى بديلاً عن الشخص الذي قُتِلَ. وكما كان أَخْنُوخُ من نسل شِيث، فإن أصل الكنيسة يعود إلى المسيح المُقام والمُمجَّد، الذي «أَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ» (أع٢: ٣٣)، وهو الذي يبني الكنيسة (مت١٨: ١٦).
(٢) وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ:
وردت هذه العبارة المُوجزة، بخصوص أَخْنُوخ، مرتين، في أصحاحنا (تك٥: ٢٢، ٢٤). وكيف كان من الممكن أن يسير إنسان مع الله، في عالم مملوء بالعنف والفساد؟ يبدو أن الإجابة موجودة في عبرانيين ١١: ٥ «بِالإِيمَانِ». لقد آمن بالله، وعمل بموجب كلمته، ووضع ثقته فيه. وهذا ما يجب أن يكون لكل مؤمن حقيقي في الكنيسة.
(٣) نُقِلَ أَخْنُوخُ:
يُسجل تكوين ٥: ٢٤ أن «أَخْنُوخُ ... لَمْ يُوجَدْ» - أي أنه اختفى فجأة – والتفسير لذلك هو: «لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ». ونحن لا يسعنا إلا أن نذكر ذلك بشكل عابر، ولكن العبارة جميلة جدًا بحيث لا يُمكن إغفالها. لأنه أمرٌ مغبوط أن في الأصحاحات الأولى من سفر التكوين، تُفتح السماء أمام الإنسان، ليستوطن هناك، دون العبور ببوابة الموت. ومما يجعل المشهد أكثر روعة ، هذه العبارة المتكررة باستمرار في الأصحاح: «عَاشَ ... وَمَاتَ». ويتم إلقاء المزيد من الضوء على هذا الحدث في عبرانيين ١١: ٥ الذي يقول إن «بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ». ألا يُذكرنا هذا بقول الرسول بولس: «نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ» (١تس٤: ١٧). وكلا اللفظين ”الأَحْيَاء“، ”سَنُخْطَف“، مشروحان في حياة أَخْنُوخ. وهذا هو رجاء الكنيسة: ليس الموت، بل الاختطاف من هذا المشهد المُحيط الذي لا ننتمي إليه إطلاقًا، لنكون مع المسيح إلى الأبد.
هذا وإن توقيت ”اختطاف“ أَخْنُوخ، مُثير للاهتمام، حيث إنه حدث قبيل الطوفان (تك٦-٨)، تمامًا كما أن الكنيسة ستُختطف قبيل بدء الضيقة العظيمة التي ستأتي على العالم كله (رؤ٣: ١٠). هذا بينما حُفظ نُوح وسط الطوفان أيضًا، ولكن بطريقة مختلفة تمامًا، إذ قد خلص أثناء الطوفان، بوجوده في الفلك، تمامًا كما ستُحفَظ البقية اليهودية الأمينة، أثناء الضيقة العظيمة، بلجوئهم إلى الله (مت٢٤: ٢٢-٣١؛ رؤ١٢: ٦).
(٤) أَخْنُوخُ لَمْ يُوجَدْ:
يُنبر عبرانيين ١١: ٥ على أن «أَخْنُوخُ ... لَمْ يُوجَدْ». ولماذا يتم إعطاء هذه المعلومة؟ ألا تعني ضمنًا أن آخرين بحثوا عنه؟ وإننا لنندهش عندما نعلم أن جملة أيام أَخْنُوخُ التي عاشها على الأرض، تناهز نصف أعمار معاصريه المذكورين في ذات السياق، أو أقل. ولربما يكون هذا الرجل الأمين قد لاقى اضطهادًا «وَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (٢تي٣: ١٢)، وهكذا ربما «أَخْنُوخُ ... لَمْ يُوجَدْ، لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ»، لكيلا يتمكن مُتعقبُوه من الإمساك به. إذا كان ذلك كذلك، فسيكون الأمر وجهًا جديدًا للتشابه بينه وبين الكنيسة التي قاست الاضطهاد منذ بواكير أيامها. لقد تأسست الكنيسة في سفر الأعمال ٢، وقُوبلت بالاضطهاد بدءًا من سفر الأعمال ٣: ٤! ولا يزال هذا هو الحال في الكثير من البلدان اليوم.
(٥) عاش أَخْنُوخُ بالإيمان:
«بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ. إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عب١١: ٥)؛ هذا البيان يقف - حتى يومنا هذا - شاهدًا على إيمان أَخْنُوخ، لا يزال قائمًا حتى اليوم، وتُذكّرنا به كلمة الله. ووفقًا لأصحاح الإيمان (عب١١)، كانت حياة الإيمان هي قوام حياة جميع المؤمنين في كل الأوقات. إلا أن هذا لا يمس حقيقة أن الكنيسة مطبوعة بالإيمان بطريقة خاصة. في يوحنا ٢٠، يُجسد تُومَا، بقية إسرائيل التقيَّة، التي لن تؤمن حتى ترى، في حين تظل الكنيسة تتمتع ببركة خاصة؛ الإيمان حتى لو لم ترَ! وهكذا قال الرب لتُومَا: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو٢٠: ٢٩).
(٦) أَخْنُوخُ أَرْضَى الله:
يُذكَر أيضًا في عبرانيين ١١ أن «أَخْنُوخُ ... قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عب١١: ٥). كان لعائلة قايين سجل من الإنجازات تتنوع ما بين الهندسة المعمارية، والزراعة، والموسيقى (تك٤). لقد حاولوا صُنع شيئًا لجعل العالم مكانًا أفضل، بدون الله. على النقيض من ذلك، فحياوات المنتمين إلى عائلة الله (تكوين ٥)، تبدو شاحبة وباهتة وبلا أهمية؛ لقد عاشوا، وكونوا عائلات، وماتوا. لا سعي وراء شهرة أو ذكر أو خلود أو نصب تذكاري مادي. ولكن ثمة تذكره بإيمان وحياة أَخْنُوخ في عبرانيين ١١. ولا بد أن سلوك أَخْنُوخ كان مُزعجًا ومُوَّبخًا لحياوات معاصريه. لكنه ”أَرْضَى اللهَ”. هل يُمكن أن تكون ثمة شهادة أفضل من تلك؟
هذه العبارة الصغيرة ”أَرْضَى اللهَ”، تُعبر عن صلة وثيقة بالكنيسة من ثلاثة أوجه:
* بحسب مشورات الله، فالكنيسة دائمًا كاملة وجميلة دائما. إنها المُكمِّل الأكفأ للمسيح كإنسان: «هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (أف١: ٢٣). لقد رآها المسيح لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كريمةً ثمينةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ، فمَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا (مت١٣: ٤٦).
* ومن الناحية العملية، ينبغي على الكنيسة أيضًا أن تُرضي الله وتُسِرَّ قلبه. والمسيح يستخدم ماء كلمة الله لتطهيرها وتنقيتها (أف٥: ٢٥)، ولإزالة أي شيء قد يعوق مَسَرَّة الله بها.
* في المستقبل، سيُحْضِر المسيح الكنيسة لِنَفْسِهِ «مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أف٥: ٢٥).
(٧) أَخْنُوخُ شهد عن مجيء المسيح:
لا نجد شيئًا عن ذلك في سيرة أَخْنُوخ القصيرة في تكوين ٥. إنما يتعين علينا الانتظار لحين بلوغ رسالة يهوذا، حيث نجد القول:
«وَتَنَبَّأَ عَنْ هؤُلاَءِ أَيْضًا أَخْنُوخُ السَّابعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ، لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمِ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ» (يه١٤، ١٥).
حقيقة أن يهوذا كتب هذه الكلمات دون ذكر لها في سفر التكوين، لا ينبغي أن تُزعجنا. فكتَبة العهد الجديد (والقديم)، كانوا «مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (٢بط١: ٢١). وإذا سَرَّ الله أن يُعلن هذا الإعلان بعد انقضاء بضعة آلاف من السنوات، فلا بأس، ولا داعي للقلق. ولكن المرء لا يسعه سوى الإعجاب إزاء كم الحق الذي كُشِفَ لأَخْنُوخ. ولا شك أن الله ذاته هو مَن يقف وراء هذا الإعلان. إننا نجده يتكلَّم عن ظهور المسيح. وعندما يقول إن الرب «قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ»، فلا بد أنه يعي جيدًا أن هذا الحدث يأتي تاليًا للاختطاف. بيد أن صلب نبوة أَخْنُوخ هو أن ثمة دينونة مزمعة أن تنصب على العالم. ويجدر التنبير مُجدَّدًا أن هذا هو دور الكنيسة في العالم اليوم: ليست مهمة الكنيسة محاولة تحسين عالم يرفض المسيح، بل أن تُنذره وتُحذره، من دينونة وشيكة، وتُرشده إلى الخلاص المُذخَر والمُقدَّم في المسيح «فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ الرَّبِّ نُقْنِعُ النَّاسَ ... إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ» (٢كو٥: ١١-٢٠).
(٨) أَخْنُوخُ كان السَّابعَ مِنْ آدَمَ:
من المثير للاهتمام أن نقرأ عن رَجُلَيْنِ، كان كل منهما ”السَّابعُ مِنْ آدَمَ“، بمعنى أنه من الجيل السابع لآدَم. كان الأول هو ”لاَمَكُ“: ”السَّابعُ مِنْ آدَمَ مِن نَسْلِ قَايين“ ونقرأ عنه في تكوين ٤: ١٩-٢٤. وفيه بلغ نسل قَايين ذروة الابتعاد عن الله والاتكال على الذات، وذروة السلوك في طريق الإرادة الذاتية وقساوة القلب وعدم التوبة، مستهينًا بغنى لطف الله وإمهاله وطول أناته عليه في شهوانيته ووحشيته. لقد كان الإظهار الكامل للإنسان في قَايين، كسليل للجسد الفاسد. ولاَمَكُ هذا هو أول من نقض الترتيب الإلهي في الزواج، إذ لم يقنع بزوجة واحدة، بل كانت له اثنتان، وبذلك كان أول مَنْ أدخل مبدأ تعدد الزوجات «وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا» (مت١٩: ٣-٩). وكلمات قصيدته الشعرية لزوجتيه، تُظهر قدرًا كبيرًا من الغطرسة والكبرياء، والافتخار بوحشيته وشراسته، وبأنه كان قاتلاً ولأتفه الأسباب.
ولكن من الناحية الأخرى، هناك ”أَخْنُوخُ السَّابعُ مِنْ آدَمَ مِن نَسْلٍ شِيث“: رَجُل الإيمان، الذي سار مع الله، وأرضاه، ثم أخذه الله، وأخرجه من مشهد لا ينتمي أَخْنُوخُ إليه أبدًا. أليس في هذا إعلانٌ كاملٌ عن عائلة الإيمان؟ وهذا ما ينبغي أن يظهر – ولو على قياس ما - في الكنيسة.
(٩) أَخْنُوخُ يعني مُكرَّس:
بعد استعراض الدروس أعلاه، لعله لم يتبقَ شك في إخلاص وتكريس أَخْنُوخَ، وكيف لم يكن مُنقسمًا بين الله والعالم. نعم، كان جادًا في تكريسه. وكان لله وحده. أَليس هذا ما ينبغي أن يُميّز الكنيسة عمليًا: إخلاصها وتكريسها للمسيح عريسها؟! وهكذا قال الرسول بولس: «لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (٢كو١١: ٢).