أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2020
وَلِذلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

يصف الأصحاح الثلاثون من نبوة إشعياء حالة شعب الله الداخلية، في مملكة يهوذا، عندما تهدَّدهم خطر الغزو الأشوري بقيادة سنحاريب.  وكان هذا الغزو هو إحدى الدلائل على عدم رضا الله عن شعبه، نظرًا لتمردهم وضلالهم.  وعوضًا عن الرجوع إلى الرب الذي إليه أخطأوا، والاعتراف بآثامهم، والحكم على ذواتهم لزيغانهم وزيفهم، وعدم جدّيتهم في عبادة الرب؛ عوضًا عن كل هذا، ارتدّوا إلى عدّوهم القديم مصر، على أمل أن يُساعدهم لصدّ الغزاة.  وكان الأجدر بهم أن يقفوا - أمام الله - موقف التوبة، ويطلبوا مشورته، لا مشورة البشر، ولا سيما أنه كان في ذلك الحين يتكلَّم إليهم على لسان إشعياء وغيره من الأنبياء!  

وللأسف، فبالرغم من تحذير الله من الاتكال على البشر (إش ٢: ٢٢)، وبعد كل ما فعله الله لشعبه، ابتعدوا عنه وطلبوا مساعدة مصر الضعيفة، خلافًا لآبائهم الأتقياء: موسى (عد ٢٧: ٢١)، ويشوع (يش ٩: ١٤)، وداود (١صم ٣٠: ٧، ٨)، ويهوشافاط (١مل ٢٢: ٧؛ ٢أخ ٢٠: ١-١٣).  ولكن ها هم رؤساء أورشليم لا يطلبون إرادة الله (ع ٤)؛ بل طلبوا مساعدة مصر، التي لا تزيد عن كونها مجرد ظل (ع ٣)، وماذا يمكن أن يفعل الظل ضد الجيش الأشوري الهائل؟

 أو لسنا نرى في تصرّفهم درسًا لنا اليوم؟  فما أكثر ميلنا في أزمنة الضيق إلى الاعتماد على القوة المنظورة، وعلى الإمكانيات البشرية، بدلاً من الاستناد الكامل على الله الحيّ!  إن تطلُّع المؤمنين إلى العالم طلبًا للمعونة، عوضًا عن الالتفات إلى الرب، لَدليل واضح على التدهور الروحي.  فعندما نشعر أن يد الله المؤدِّبة ممدودة علينا بسبب خطية، أَليس من الأجدر أن نقترب إلى الله، ونفحص أنفسنا في محضره، ونحكم على أنفسنا، وندين الشر الذي في حياتنا، ونتوب عنه.  والرب دائمًا على أتم استعداد للتجاوب بنعمته مع شعبه «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١يو ١: ٩).  لكننا دائمًا مُعرَّضون لنسيان هذه الحقيقة، ومحاولة إيجاد مخرج من مصاعبنا بالوسائل البشرية، بدلاً من الاتكال على الله القدير.  ومثلما تورّط بنو يهوذا في متاعب أقسى لمّا ارتكبوا حماقة الالتفات إلى مصر للمعونة، كذلك نحن دائمًا نجعل الأحوال أسوأ، إذ بدلاً من التطلُّع إلى الله، نُحاول - بالوسائل الجسدية - أن نُخرج أنفسنا من المآزق الصعبة، التي ورّطتنا بها سقطاتنا.

وهكذا نطق إشعياء بالنبوة المُتعلِّقة بالقافلة التي كانت مسافرة من أورشليم إلى مصر، تحمل الثروات، لطلب الحماية من أشور (إش ٣٠: ٦، ٧).  رأى البهائم المُثقلة، تشق طريقها عبر التضاريس الصعبة والخطيرة في الجنوب، متجهة إلى مصر، فصرخ: “الأمر كله بلا فائدة!  لا جدوى!  إن مساعدة مصر بلا جدوى ولا منفعة!” «فَإِنَّ مِصْرَ تُعِينُ بَاطِلاً وَعَبَثًا، لِذلِكَ دَعَوْتُهَا «رَهَبَ الْجُلُوسِ» (ع ٧). 

كان الأمر سيئًا بما يكفي أن يتمرد يهوذا على الله، من خلال الوثوق بمصر بدلاً من الوثوق بيهوه، والاعتماد على المال بدلاً من قوة الله، لكنهم ذهبوا إلى حد رفض كلمة الله تمامًا (ع ٨-١١).  وهكذا قال الله لإشعياء أن يكتب على لَوْحٍ: «لأَنَّهُ شَعْبٌ مُتَمَرِّدٌ، أَوْلاَدٌ كَذَبَةٌ، أَوْلاَدٌ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ يَسْمَعُوا شَرِيعَةَ الرَّبِّ» (ع ٩).  لقد حمل هذا اللَوح، وهو يتجول في أورشليم.  ولا شك أن معظم الناس ضحكوا عليه.  لم يرغب القادة في سماع الحقيقة عن الله وحقوقه ومطاليبه، وقالوا للأنبياء الكذبة: «لاَ تَنْظُرُوا لَنَا مُسْتَقِيمَاتٍ.  كَلِّمُونَا بِالنَّاعِمَاتِ.  انْظُرُوا مُخَادِعَاتٍ.  حِيدُوا عَنِ الطَّرِيقِ.  مِيلُوا عَنِ السَّبِيلِ.  اعْزِلُوا مِنْ أَمَامِنَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ» (ع ١٠، ١١).  لقد أرادوا كلمات ممتعة، وخُطَبًا لا تزعج أسلوب حياتهم المريح.  هل يختلف هذا الوضع كثيرًا اليوم عن الذين «يَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ قَائِلِينَ: سَلاَمٌ، سَلاَمٌ.  وَلاَ سَلاَمَ»؟! (إر ٦: ١٤؛ ٨: ١١؛ ١مل ٢٢: ١-٢٨)، وها نحن نعيش في الأيام الأخيرة التي كتب عنها الرسول بولس: «لأَنَّهُ سَيَكُونُ وَقْتٌ لاَ يَحْتَمِلُونَ فِيهِ التَّعْلِيمَ الصَّحِيحَ، بَلْ حَسَبَ شَهَوَاتِهِمُ الْخَاصَّةِ يَجْمَعُونَ لَهُمْ مُعَلِّمِينَ مُسْتَحِكَّةً مَسَامِعُهُمْ، فَيَصْرِفُونَ مَسَامِعَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَنْحَرِفُونَ إِلَى الْخُرَافَاتِ» (٢تي ٤: ٣، ٤).

لقد كان لقرارات ومواقف يهوذا عواقب، وأخبر إشعياء الناس بما سيحدث ليهوذا وأورشليم، لأنهم كانوا يثقون بأكاذيبهم: فسوف ينهار جدار الحماية الخاص بهم فجأة، ويتحطم إلى قطع مثل إناء خزفي (ع ١٢-١٤).  وعندما غزت أشور الأرض، تبرهن أن مصر تستحق لقبها «رَهَبَ الْجُلُوسِ»، فلم تفعل شيئًا.  ولم يتقدم الله حتى اللحظة الأخيرة ليُنقذ شعبه، وقد فعل ذلك فقط بسبب عهده مع داود (٣٧: ٣٥-٣٦).  وخلال غزو أشور ليهوذا، لم يكن اليهود قادرين على الفرار على خيولهم المستوردة من مصر (ع ١٦، ١٧؛ تث ١٧: ١٦)، وتمكن جندي عدو واحد من تخويف ألف يهودي (ع ١٧).  يا له من إذلال!  (قارن لاويين ٢٦: ٨؛ تثنية ٣٢: ٣٠).

كان أمل شعب الله الوحيد هو التوبة، والرجوع إلى الرب، والانتظار في هدوء وطمأنينة في محضره، والإيمان أن الراحة والأمان والسلام في الرب فقط (إش ٣٠: ١٥؛ ٢٦: ٣؛ ٢٨: ١٢)، لكنهم لم يشاءوا أن يسمعوا ويطيعوا (ع ١٥).

ثم يتحول النبي من موضوع تمرد الشعب، إلى موضوع ردّ الشعب وإنهاضه واسترجاعه وإحيائه وإنعاشه وشفائه وإثماره (ع ١٨–٢٦).  فنلاحظ أن الآية ١٨ تبدأ بالكلمة «وَلِذلِكَ».  وإذا تأملنا باهتمام فيما يسبق هذه الكلمة، نتبين سبب وجودها في موضعها.  ففي الآية ١٥ ذكَّر الرب الشعب بأنهم لو رجعوا إليه، واستقرُّوا في محضره، لخلَّصهم من أعدائهم «بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ.  بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ».  فلو كانوا هادئين ومطمئنين بين يديه، لكانت لهم قوة كافية.  ولكن، كما قال لهم الرب راثيًا: «فَلَمْ تَشَاءُوا.  وَقُلْتُمْ: لاَ بَلْ عَلَى خَيْل نَهْرُبُ» (ع ١٥، ١٦).  فبدلاً من الرجوع إلى الرب، يهربون من أعدائهم (ع ١٧).  وبعد ذلك نقرأ في الآية ١٨: «وَلِذلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ لِيَتَرَاءَفَ عَلَيْكُمْ».  

تُرى، ماذا كان الرب ينتظر؟ 

كان ينتظر أن يفشل الشعب في طرقه القائمة على الاكتفاء الذاتي، ويبدأوا في الثقة به - تبارك اسمه - وعندئذٍ فقط يتيحون له أن يتراءف عليهم ويرحمهم.

أيها الأحباء: ليتنا لا نُخفِ الاختبار المُذِل المتمثل في وصولنا إلى نهاية مواردنا الذاتية، فالله يسمح لنا بأن نفشل لكي يُنقذنا من أنفسنا فنختبر هذا الحق: «طُوبَى لِجَمِيعِ مُنْتَظِرِيهِ» (ع ١٨).  إن انتظار الرب المؤسَّس على الثقة لهو ضرورة حتمية لتلقي إرشادات الربّ «أُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً: هذِهِ هِيَ الطَّرِيقُ.  اسْلُكُوا فِيهَا.  حِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ وَحِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى الْيَسَارِ» (ع ٢١).  كم من المرات ضللنا إلى اليمين أو إلى اليسار، لأنَّ قلوبنا أهملت الإصغاء إلى هذا الصوت، الصوت الأمين والمألوف لنا!  

إن الرب لا يزال ينتظرنا: فهلا تتحرك ضمائرنا ونعود إليه، وتتبرهن توبتنا وتغييرنا، فنطرح بعيدًا كل ما لا يتفق مع كلمة الله (ع ٢٢)، فنتمتع بشركة دائمة غير منقطعة معه، ولنتطلَّع إليه بإيمان بسيط، وقد انقطعنا عن كل مجهودٍ ذاتي، ورفضنا ترجيّ المعونة من غيره، لنجد قوة كافية لرفعنا فوق التجربة «وَأَيْضًا يَقُودُكَ مِنْ وَجْهِ الضِّيقِ إِلَى رَحْبٍ لاَ حَصْرَ فِيهِ، وَيَمْلأُ مَؤُونَةَ مَائِدَتِكَ دُهْنًا» (أي ٣٦: ١٦)، ولنجد فيه – تبارك اسمه – كل ما نرجُو وأكثر من تعزية (ع ١٨-٢٠)، وإرشاد (ع ٢١)، وطهارة (ع ٢٢)، وثمر (ع ٢٣-٢٦)، ونصرة (ع ٢٧-٣٣)، وأخيرًا الأغاني (ع ٢٩).

فايز فؤاد