أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد أبريل السنة 2005
اله النجاة عنده وحده الأمان - الله في سفر أستير
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود، لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت، يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، أما أنت وبيت أبيك فتبيدون، ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك»!! (أس4: 13و14).

 انتهينا في العدد السابق بالقول إن أذهاننا تعمل كطاحونة بكل نشاط. وهي لا تتوقف عن العمل لا في الليل ولا في النهار، وقلنا إننا إن كنا لا نستطيع إيقافها، ولا التحكم في سرعتها، فلندرب أنفسنا على التحكم في نوع الغلال التي تطحنها، فبدلاً من طحن الزوان لنطحن الحنطة النقية، التي هي كلمة الله.

 وسأسوق الآن إليكم بعض الأمثلة التي تؤكد خطورة هذا الاستسلام لعلها تنجح في أن تبرز أمامنا حاجتنا الشديدة والماسة لنصيحة مردخاي: ”لا تفتكري في نفسك“

 داود ومأساة الهروب:

 من أين انحدر داود انحداره الشديد حتى وقف في صفوف الأعداء ليحارب شعب الله؟ الشعب الذي مسحه الله عليه ملكًا لكي يرعاهم ويخلصهم؟ أ ليس بسبب حوار داخلي خاطئ أجراه مع نفسه، ولم يجد من يصححه له؟ انظر ماذا يقول الكتاب عنه:

 وقَالَ دَاوُدُ فِي قَلْبِهِ: «إِنِّي سَأَهلكُ يَوْماً بِيَدِ شَاوُلَ, فَلاَ شَيْءَ خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ أُفْلِتَ إِلَى أَرْضِ الْفِلِسْطينيّينَ فَيَيأَسُ شَاوُلُ مِنِّي فَلاَ يُفَتِشُ عَلَيَّ بَعْدُ فِي جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ, فَأَنْجُو مِنْ يَدِهِ». فَقَامَ دَاوُدُ وَعَبَرَ هُوَ وَالسِّتُّ مِئَةِ الرجُلِ \لذِينَ مَعَهُ إِلَى أَخِيشَ بْنِ مَعُوكَ مَلِكِ جَتٍّ» (1صم27: 1و2).

 لاحظ معي عزيزي القارئ إنها نفس النقطة التي نتحدث عنها ”قال في قلبه“. ثم لاحظ استمرارية الحوار وتتابع الإستنتاجات من تكرار حرف الفاء بعد أن قال في قلبه: {فلا شيء، فييأس، فلا يفتش، فأنجو}، لقد استرسل في حواره دون مراجعة لنفسه، ودون جلوس في محضر إلهه، فجاءت الفاء الأخيرة ”فقام داود“ لتحمل معها أغبى قرار ارتكبه في حياته.

 آساف ومأساة الغيرة:

 من أين نشأت مأساة رجل عظيم كآساف كتب أحلى الترنيمات، بل واختارته نعمة الله ليكون آنية لكتابة وحي الله؟ هذا الذي كتب أحد عشر مزمورًا من السبعة عشر التي تكون الكتاب الثالث من سفر المزامير!! كيف تحول المرنم المبتهج إلى قلب حزين مكتئب؟

 ليس من سببٍ إلا كونه استسلم لحوار داخلي خاطئ مع نفسه!

 إنه لم يتحدث مع أحد من الناس بخصوص ما دار في داخله من حوار، وحسنًا فعل، لكنه لم يتحدث أيضًا مع الله وهنا مكمن الخطر.

 يقول: «لو قلت أحدث بهذا لغدرت بجيل بنيك، فلما قصدت معرفة هذا إذا هو تعب في عينيّ» (مز73: 15و16). إنه لم يتحدث مع أحد، وقصد معرفة هذا مع نفسه بعيدًا عن حضرة الله!! فجاء الكدر.

 لقد فتح عينيه على الناس الأشرار من حوله، ثم انكب على نفسه يحلل ما رآه، ثم دخل في حوار طويل مع نفسه حول ما رآه، فوصل إلى حافة الانهيار، والتي عبَّر عنها بالقول: «أما أنا فكادت تزل قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي»!

 لكنه يستكمل فيكشف لنا كيف أخرج نفسه من هذه الحال، وكيف عرف طريق العلاج فيقول: «حتى دخلت إلى مقادس الله وانتبهت إلى آخرتهم» (مز73: 17). ثم بدأ في المقادس حواره مع الله. ويبدو أن الرب هو الذي ابتدره بالكلام، شارحًا له نهاية الأشرار، وكاشفًا له عما له هو شخصيًا عند الرب، لذلك كانت أول كلمة ينطق بها أساف في المقادس هي كلمة ”حقًا“: أي أنه يؤَّمْن على صدق ماسمعه من فم الرب ! آه ما أحلى الاستماع لصوت الرب في المقادس! وما أروع الرب حين يتكلم!! ثم يستكمل أساف ليتكلم بعدها كلام الفاهمين فيقول: «حقًا في مزالق جعلتهم، أسقطتهم إلى البوار ...كحلم عند التيقـظ يا رب عند التيقـظ تحتـقر خيالهم». لقد عرف حقيقة الأشـرار أنهم في خيالات يعيشون!! ثم عرف ما له، وما أروع ما له إذ يقول: «لكني دائمًا معك»! كم تساوي هذه المعية الإلهية! «أمسكت بيدي اليمنى». وكم تساوي هذه الحماية الإلهية! «برأيك تهديني». وكم تساوي هذه القيادة الإلهية! «وبعد إلى مجد تأخذني». وكم تساوي هذه النهاية البهية! إلى أن يسأل الرب سؤاله الشهير: «من لي في السماء؟» وعندها يجيبه الرب بأعظم جواب يطيب القلوب ويبرئ الأعماق إذ يعلن له أن الله نفسه له! ليهتف أساف بعدها بالقول: «ومعك لا أريد شيئًا في الأرض».

 لقد تعلم أساف درسًا هامًا من هذا الاختبار المؤلم، صاغه لنا في عبارتين: عبارة يصف فيها نفسه وهو مستسلم لحوار داخلي بعيدًا عن المقادس، يقول فيها: «لأنه تمرمر قلبي وانتخست في كليتي وأنا بليد ولا أعرف. صرت كبهيم عندك». أما العبارة الأخرى، ففيها يصف لنا حاله بعد أن أجرى الحوار مع الرب في المقادس فيقول: «أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي».

 ”كبهيم عندك“، ”الاقتراب إلى الله“ أي من الحالتين نختار أيها الأحباء؟

 نعمان السرياني ومأساة الرجوع:

 أ لم يوشك نعمان على الرجوع إلى مكانه ببرصه خالي الوفاض، بعد رحلة سفر طويل، بل ورحلة أمل جميل، بسبب حوار داخلي خاطئ كان قد سبق وأجراه في قلبه مع نفسه؟ لقد عاش مع تخيلات قلبه عن الطريقة التي سيشفيه بها أليشع من مرضه، إِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَيَّ وَيَقِفُ وَيَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيُرَدِّدُ يَدَهُ فَوْقَ \لْمَوْضِعِ فَيَشْفِي الأَبْرَصَ! ثم هيأ نفسه تمامًا على أن هذا هو حتمًا ما سوف يحدث في الواقع. إنه لم يراجع نفسه، ولم يظن للحظة أنه من الممكن أن تكون أفكاره خاطئة أو أن ظنونه ليست في محلها. وكيف يمكن أن يكون هكذا وهو صاحب الرأي السديد والمقام العالي الرفيع عند سيده ملك أرام؟ حتى أن الكتاب نفسه يشهد عنه بالقول: «وَكَانَ نُعْمَانُ رَئِيسُ جَيْشِ مَلِكِ أَرَامَ رَجُلاً عَظِيماً عِنْدَ سَيِّدِهِ مَرْفُوعَ الْوَجْهِ، لأَنَّهُ عَنْ يَدِهِ أَعْطَى \لرَّبُّ خَلاَصاً لأَرَامَ» (2مل5: 1و2). فكيف لمرفوع الوجه، ومن يعطي الرب عن يده الخلاص، أن تكون أفكاره خاطئة وظنونه ليست في محلها؟ وكانت النتيجة أنه غضب وكاد يرجع من دون شفاء، لولا أن الرب أكرمه بعبيد حكماء صححوا له موقفه.

 انظر ماذا يقول الكتاب ولاحظ نفس الكلمة: ”فهوذا قلت“، وتأتي في ترجمة داربي هكذا: ”I thought“ وتعني: ”أنا فكرت“ أو ”أنا تخيلت“!

 فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَلِيشَعُ رَسُولاً يَقُولُ: ”اذْهَبْ وَاغْتَسِلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الأُرْدُنِّ فَيَرْجِعَ لَحْمُكَ إِلَيْكَ وَتَطْهُرَ“. فَغَضِبَ نُعْمَانُ وَمَضَى وَقَالَ: ”هُوَذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَيَّ وَيَقِفُ وَيَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيُرَدِّدُ يَدَهُ فَوْقَ \لْمَوْضِعِ فَيَشْفِي الأَبْرَصَ! أَلَيْسَ أَبَانَةُ وَفَرْفَرُ نَهْرَا دِمَشْقَ أَحْسَنَ مِنْ جَمِيعِ مِيَاهِ إِسْرَائِيلَ؟ أَمَا كُنْتُ أَغْتَسِلُ بِهِمَا فَأَطْهُرَ؟“ وَرَجَعَ وَمَضَى بِغَيْظٍ. فَتَقَدَّمَ عَبِيدُهُ وَقَالُوا: ”يَا أَبَانَا، لَوْ قَالَ لَكَ النَّبِيُّ أَمْراً عَظِيماً أَمَا كُنْتَ تَعْمَلُهُ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ إِذْ قَالَ لَكَ: اغْتَسِلْ وَاطْهُرْ؟“

. زهرة بنت الصبح ومأساة السقوط:

 بل للأسف الشديد نرى أن الحوارات الداخلية الخاطئة تحدث لا مع البشر فقط بل حتى مع الملائكة!! فماذا كانت علة سقوط أعظم ملاك ”زهرة بنت الصبح“، وصيرورته الشيطان؟ أليس حوارًا داخليًا خاطئًا لم يراجعه ولم يضبطه فسقط سقوطًا مريعًا؟! تأمل ماذا يقول الكتاب:

 «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاِجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشِّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ».

 ولاحظ في هذه العبارات نفس المشكلة: ”قلت في قلبك“

 أحبائي :

 إن الحوار الداخلي مع النفس بعيدًا عن حضرة الله هو استقلال عن الله! وماذا تكون الخطية سوى الاستقلال عن الله؟ لذا فهو خطية!

 وإن كانت حواراتنا الداخلية ليس فيها ما نخجل منه فلماذا نجريها في الظلام بعيدًا عن نور محضره؟

 أحبائي : إن الخطية لا تبدأ أبدًا في لحظة فعلها، بل تبدأ دائمًا بحوار داخلي خاطئ في قلبي قبلها!

 لذا دعونا نحذر أشد الحذر من حواراتنا الداخلية، دعونا نراقبها جيدًا، ولا نستسلم أبدًا لها، فقد تدمر حياتنا. ودعونا نتعلم كيف نحول حواراتنا إلى صلاة. دعونا نتعود أن نعمل ما عمله داود بعد أن سقط فنراقب قلوبنا ولا نكتفي برأينا في ما نجده فيها بل نطلب من الرب امتحانهـا وتصحيح حواراتهـا قائلين له: «اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَاهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مز139: 23و 24). ودعونا نعيش كما عاش بولس قائلاً: «نتكلم أمام الله في المسيح» (2كو2: 17) أو كما يقول: «أما الله فقد صرنا ظاهرين له» (2كو5: 11).

ماهر صموئيل