أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد أبريل السنة 2006
المزمور السادس و الاربعون
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

يُعتبر سفر المزامير تراثًا ثمينًا للقديسين في جميع العصور. إنه اختبارات النفس وهي تجتاز في عالم عاصف، معبَّر عنها بدرجة فائقة من العمق، ومع أن كُتَّاب المزامير المختلفين عاشوا تحت الناموس، ولذلك هم بعيدون عن ملء نعمة المسيحية، إلا أن المؤمن المستنير في العصر المبارك الحالي لا يفوته أن يكتشف الكثير الذي يتطابق مع اختبارات قلبه اليوم.

 وللمسيح نصيب كبير في سفر المزامير، كما قال هو نفسه لتلاميذه (لوقا 24 :20) فميلاده في الجسد، ومسيرة حياته وطاعته، وشهادته الأمينة، وآلامه، وموته، وقيامته، وجلوسه حاليًا إلى يمين الله، وظهوره القادم كملك، ومجيء ملكوته العظيم، الذي يشمل ليس فقط إسرائيل بل يمتد إلى كل أطراف الأرض – أورده الوحي المقدس بشكل كامل.

 كما أن لإسرائيل مكانة كبيرة في هذا السفر، وهذا لا يدهشنا عندما نتذكر أن جميع كُتَّاب المزامير – داود، وآساف، وموسى.. الخ – ينتمون إلى هذه الأمة المُميزة. ولأن إسرائيل تظهر بشكل كبير أمامنا في المزامير، تحتوي المزامير على قدر كبير من النبؤات التي لم تتم بعد. ومن المهم جدًا إدراك هذه الحقيقة، وإلا غاب عنا فهم كثير من التعبيرات المستخدمة. ولذلك، هناك عبارات كثيرة مجيدة من الواضح أنها لم تتحقق في الماضي، وإذا لم ندرك الطابع النبوي للسفر، سنتعرض لخطر الشك أن كُتَّاب الوحي استخدموا أسلوب المبالغة في ما كتبوا.

 والمزمور السادس والأربعون، بينما يقدم تأملات ثمينة للقديسين في كل العصور، يتطلع بشكل بارز إلى المستقبل. ولن يتحقق بالتمام إلا بمجيء يوم ظهور ابن الإنسان. والمزمور الخامس والأربعون الذي يسبقه يُخبِِِر بوضوح عن مجيء الملك العظيم ليعتلي عرشه، والمزمور السابع والأربعون الذي يليه يعبِّر عن صيحة الفرح بالنصر في إسرائيل عندما يؤسس عرشه على كل ممالك الأرض. أ ليس محتمًا إذًا أن يشغل المزمور الوسيط مكانًا في خطة الله النبوية أيضًا؟

 ولكن علينا أولاً أن نلقي نظرة على العنوان الموحى به؛ «لإمام المغنين. لبني قورح. على الجواب. ترنيمة». وهذه العناوين يجب ألا تُحذف عند قراءة المزامير، فهذه العناوين أوحى بها روح الله، ويجب النظر إليها كجزء من المزامير التي أُلحقت بها. فكثيرًا ما تحوي غذاءً للنفس.

 ”إمام المغنين“ (أو قائد المُنشدين) من هو؟ أ ليس هو المسيح؟ عندما يجمع جميع المفديين حوله في بيت الآب في الأعالي سيكون هو قائد تسبيحهم الدائم؛ وعندما يحيط به مفديوه من الأرض في المشهد الأرضي، سيكون هو أيضًا قائد تسبيحهم (انظر مزمور 22 :22 ؛ عبرانيين 2 :12). وسيفرح أكثر من أي شخص آخر بثمر تعبه وأحزانه في الماضي.

 «بنو قورح»؛ من هم؟ هم أبناء الرجل الذي قاد التمرد الخطير في البرية الذي ورد ذكره في الأصحاح السادس عشر من سفر العدد. فعندما ابتلعته الأرض هو وجماعته، استثنى الرب في رحمته أبناءه، كما نقرأ «وأما بنو قورح فلم يموتوا» (عد26 :11). فهؤلاء أُنتشلوا برحمة الله العلوية من حافة الهلاك، وادخلوا فيما بعد إلى المقادس وأعطوا خدمة مُكرَّمة هناك (1أخ 26). وكم يماثل هذا حالتنا! لقد كنا في وقت ما على حافة هلاك أكثر هولاً منهم، ولكن الله أنقذنا بنعمته، وأدخلنا إلى حضرته، وأعطانا امتياز ومسرة الخدمة أمامه. أ ليس من حقنا إذًا أن نقول إن لنا فوائد روحية في كل مزمور باسم بني قورح.

«على الجواب» معناها «بأصوات الفتيات المُنشدات» وهي تشير إلى عادة الاحتفال بالنصر بأناشيد الفتيات ورقصهن (خروج 15 ؛ مزمور 68 :11). هذا المزمور إذًا أنشودة الخلاص والانتصار. ونبويًا هو احتفال إسرائيل بالخلاص والانتصار في المستقبل، وروحيًا هو احتفالنا بخلاص أعظم اختبرناه على يد إلهنا.

 ولنعتبر حاليًا الجانب النبوي للأمور، فنقول إن المزمور السادس والأربعين يتحقق مباشرة بعد ظهور ابن الإنسان، وقبل اكتمال خلاص إسرائيل من أعدائه. فالوحش وأجناده الغربيون قد قُضي عليهم (رؤيا 19 :11-21)، وهذا ما يعلنونه بفرح؛ ولكن الأفق لم يصفو بعد، فهناك سحابة سوداء تنذر بالخطر قادمة من الشمال (حزقيال 38، 39)، ولكنهم هادئون وواثقون تجاهها، يشعرون بكامل الاطمئنان أن من فعل كل هذا من أجلهم، لن يتوانى عن إتمام ما بدأه. ولذلك ينشدون «الله لنا ملجأ وقوة. عونًا في الضيقات وُجد شديدًا، لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار. تعج وتجيش مياهها. تتزعزع الجبال بطموها. سلاه» (الآيات 1-3).

 يا لها من كلمات عظيمة! وإذا نظرنا إلى «الجبال» و «البحار» من جانبها الرمزي كما في أجزاء أخرى من الكلمة النبوية (رؤ 8 :8 ؛ ارميا 51 :25 ؛ دانيال 7 :2و3) فإنها تشير إلى الثورات العامة وسقوط السلطة. وسيرى شعب الله الكثير من هذا قبل ظهور الرب يسوع : وهنا يقول المزمور إنهم إذا شهدوا المزيد منها فلن يخافوا، وذلك نظرًا لما هو الله بالنسبة لشعبه. فلتنقلب كل الثوابت، ستظل قلوبهم مطمئنة. كم سيكون هذا مختلفًا في الأماكن التي لا تعرف الله «وعلى الأرض كرب أمم بحيرة. البحر والأمواج تضج. والناس يُغشى عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة (لو21 :25و26).

 ولنتوقف هنا، ونطبق هذا على قلوبنا نحن، فنحن نعيش في أزمنة صعبة، يجتاز فيها كل من يريد أن يكون من ״رجال الله״ طريقًا مفروشًا بالآلام. فهل قلوبنا راسخة ومطمئنة، فقط وببساطة لأننا نعلم من هو الله بالنسبة لنا؟ أم أن قلوبنا تنزعج وتضطرب بسبب صعوبة الطريق؟ ولنلاحظ عبارة «عونًا... وُجد شديدًا» - إنه عون قريب منا في كل وقت. هذا لا ينطبق على من يعينونا من البشر. ففي وقت الشدة والاحتياج قد نكتشف أن الصديق اللصيق هو بعيد تمامًا عنا، وبالتالي لا يمكن الوصول إليه، ولكن هذا لا يمكن أن يكون أبدًا مع إلهنا. فلندرك هذه الحقيقة بإيمان بسيط، أننا نتعامل مع إله «حي» وهو «موجود» باستمرار (اقرأ الملوك الأول 17 :1 ؛ عبرانيين 13 :5و6).

 «الله لنا ملجأ» فكرة حلوة، ولكن في 1 يوحنا 4 :16 نجد ما هو أحلى منها، وأسمى بكثير. «الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه». الثبات في الله تعني الإقامة في الله، أي أن الله هو البيت بالنسبة لنا! ترى ما الذي نعرفه عن هذا في اختبارنا العملي؟ إن الالتجاء إليه في وقت الضيق شيء، ولكن أن نجعله البيت والمستقر لنفوسنا في الصفو وفى العاصفة فشيء آخر. فيجب أن يكون من الطبيعي أن تتجه قلوبنا إلى الله كما يتجه الأجير إلى بيته عندما ينتهي عمل يومه. وما هو البيت بالنسبة له؟ إنه ميناء الراحة من كل منغصات ومتاعب عالم العمل، إنه المركز الذي يجد فيه قلبه الراحة والسلام. هكذا يجب أن يكون الله بالنسبة لنا في كل وقت. فلنختبر هذا بشكل أعمق.

 وفى الآيات من 4-7 وهو الجزء الثاني من المزمور – يحتفل شعب الله الراجع بالبركات والأمان الناتج عن وجود الله في مدينته مرة أخرى. «نهر سواقيه تُفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي. الله في وسطها فلن تتزعزع. يعينها الله عند إقبال الصبح. عجّت الأمم. تزعزعت الممالك. أعطى صوته. ذابت الأرض. رب الجنود معنا. ملجأنا إله يعقوب. سلاه». فالبركات تتدفق حتمًا من وجود الله، وبناء عليه نقرأ عن ”النهر“ الذي سيتحقق حرفيًا، وأيضًا روحيًا في اليوم الآتي (حز47 :1). وهناك القوة أيضًا «لن تتزعزع» عندئذ سيقول الشعب «إن كان الله معنا فمن علينا؟» (رو8 :31). و«عند إقبال الصبح» (الآية 5) أي عند شروق شمس البر، وهذا سيختبره الأتقياء من هذا الشعب (ملا4 :2). عندئذ سيكون «صوته» كافيًا للتخلص من جميع أعدائهم، مهما كانوا كثيرين وأقوياء، ولن يحتاجوا ليحاربوا المعركة. انظر رؤيا 19 :15-21 بالنسبة لجنود الأعداء؛ 2تسالونيكي 2 :8 ؛ إشعياء 11 :4 بالنسبة للأثيم (ضد المسيح).

 هنا أيضًا نجد تطبيقًا على أنفسنا. فبينما صهيون متروكة من الله، فإن الكنيسة المسيحية هي هيكل للروح القدس (1كورنثوس 3 :16). ويمكن أن يُقال عنها، كما في المزمور هنا: «الله في وسطها». يا لها من حقيقة مباركة! ولكن كم من عدم إيمان شاع في النصرانية بشأنها. ولذلك يمكن أن ننسب لتجاهل هذه الحقيقة في واقع الحياة، معظم - إن لم يكن كل - الشرور التي أصابت الكنيسة من أيام الرسل حتى يومنا هذا. ولكن وجود الروح القدس حقيقة راسخة، مهما كان عدم إيماننا بها. وحيثما يُعترف بوجوده بالإيمان، نختبر البركة (انظر الآية 4 في مزمورنا)، وهناك القوة (الآية 5). في 1 كورنثوس 14 :24و25 يبين الرسول ما يجب أن يكون: يبين الحقيقة التي لا تزيد في الواقع في نظرنا عن كونها مجرد نموذج مثالي. هذا ينبغي أن يجعلنا نتضع في التراب أمام الله.

 نتقدم في المزمور السادس والأربعين. في القسم الختامي تقول تلك الأمة التي أنقذها الرب، «هلموا انظروا أعمال الله، كيف جعل خربًا في الأرض، مُسكِّن الحروب إلى أقصى الأرض. يكسر القوس ويقطع الرمح. المركبات يحرقها بالنار» (الآيات 8و9). فالحرب لم تنته بعد، والأحداث المحزنة للزمن الحالي شاهدة على ذلك. ولكن عندما تأتي الضيقة الأخيرة وتنتهي، بكل أهوالها وسفك الدماء غير المسبوق، لن يعود الناس يسرون بأدوات الدمار. فتحت ظل خيرات مُلك الملك العظيم «يطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد» (إشعياء 2 :4). فيا له من مشهد لزمن سعيد !

 وصوت الله مسموع الآن «كفوا واعلموا أني أنا الله. أتعالى بين الأمم، أتعالى في الأرض» (الآية10). وهنا نرى هدف ونتيجة كل التأديب الذي اجتازت فيه إسرائيل والعالم. فالله يُعرف من أعماله التي عملها. فتعاليه على العالم قد تأسس بلا منازع. عندئذ تتحقق كلماته « ليأت ملكوتك، كما في السماء كذلك على الأرض» (مت6 :10).

 ويختتم المزمور بتكرار ثقة الإيمان في الله «رب الجنود معنا، ملجأنا إله يعقوب» (الآية 11). والجزء الأول يذكرنا بكلمات أليشع لخادمه المرتعب في داثان عندما حاصر الأراميون المدينة لكي يأسروه «لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم. وصلى أليشع وقال يا رب افتح عينيه فيبصر. ففتح الرب عيني الغلام فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول اليشع» (2مل6 :16و17). عناية الله الحافظة هذه، صحيحة بالنسبة لنا اليوم، كما بالنسبة للنبي في ذلك الوقت. إنه دائمًا مع خاصته، ويحيط بهم لكي لا يمسهم العدو بأذى.

 ولكن لماذا يقول كاتب المزمور مرتين «إله يعقوب»؟ في مزمور 47 :9 نقرأ «إله إبراهيم». هناك بلا شك تعليم في هذا الاختلاف. فكر في الفرق بين هاتين الشخصيتين فيتضح المعنى. كان إبراهيم رجل الإيمان والطاعة البارز، وقد أسلم نفسه وأموره بين يدي الله بطريقة تستحوذ على إعجابنا إلى وقتنا هذا (مع أنه لم يكن كاملاً)، أما يعقوب من الناحية الأخرى، مع أنه كان قديسًا حقيقيًا كذاك، فقد كان مخادعًا، اضطر الله أن يجتاز به في تأديب مؤلم قبل أن يجد قلبه كل شيء في الله. وبعد عصور مما يماثل تجوال يعقوب في الأرض، سيجد إسرائيل راحته في حقيقة أن «إلوهيم» هو إله يعقوب كما هو إله إبراهيم. هل نتردد في ضم أنفسنا إلى صف إبراهيم، لشعورنا أننا نجد صورة لتاريخنا في يعقوب وليس في إبراهيم؟ حسنًا، فليكن هذا. فهو إله يعقوب، ولن يتخلى أبدًا عن أضعف فرد في شعبه وأقلهم إيمانًا، مع أنه قد يؤدبهم بالألم القاسي لصالحه ولبركتهم في النهاية.

و.و. فراداي