أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
هنري أيرنسايد يحجم الكثيرون عن دراسة أسفار الأنبياء الصغار (من هوشع إلى ملاخي)؛ فالبعض يتخوف من ذلك اعتقادًا بصعوبة فهمها واستخراج فوائد منها، والبعض الآخر يجهل الدرر والنفائس التي تحويها هذه الأسفار بين دفتيها. والواقع أن هذه الأسفار وإن صغر حجمها – وهذا سر تسميتها – عظمت قيمتها. ففيها نجد مستودعًا لأفكار الله، ومعرضًا لطرقه ومعاملاته المختلفة؛ فنراه داعيًا تارة، محذرًا تارة أخرى، معلنًا عن محبته لشعبه، موضحًا متطلباته في هذا الشعب الذي ارتبط به، فاتحًا بالنعمة باب رد شعبه إليه من أجل اسمه. ولذلك فكل من يحب الاطلاع على أفكار الله كما أعلنها هو – تبارك اسمه – ومن يهمه أمور الله وطرقه ومعاملاته؛ عليه ألا يهمل دراسة هذه الأسفار الثمينة، شأنها شأن كل كلمة الله. وكاتب هذه التأملات؛ هنري أيرنسايد، كاتب متعلم في ملكوت الله، وهبه الله بصيرة مفتوحة على الحق، كما منحه أسلوبًا سلسًا، فتميز بقدرته على تبسيط الصعوبات التي قد تواجه الدارس. وهو، في هذه التأملات، يقدِّم دراسة تأملية في أسفار الأنبياء الصغار، ملقيًا الضوء على محتواها، مستخرجًا الكثير من الدروس العملية لنا نحن الذين كُتِبَت كل هذه لتعليمنا وإنذارنا. والكتاب يُعَد إضافة لمكتبتنا العربية كنا في حاجة شديدة إليها. لذلك نستودع الكتاب وقرّاءه بين يدي الرب، ليكون سبب بركة وفهم أعمق للمكتوب. والكتاب صدر في ثلاثة أجزاء متوفرة في مكتبة الإخوة الجزء الأول: هوشع – يوئيل – عاموس – عوبديا ١٥٥ صفحة الجزء الثاني: يونان – ميخا – ناحوم – حبقوق – صفنيا ١١٤ صفحة الجزء الثالث: حجي – زكريا – ملاخي ١٣٤ صفحة نشجعك على اقتنائه وقراءته.
 
 
عدد مايو السنة 2023
أَسْرِعْ وَانْزِلْ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (لو١٩: ٥)

إن المتحدِّث هنا هو الرب يسوع. والمُتحدَّث إليه هو خاطئ من العامة. والموضوع في غاية الأهمية. والكلمات قليلة، لكنها صادقة وحاسمة. لقد كان الرب يعلم قيمة النفس الواحدة، التي لا يُمكن مقارنة أي شيء بها. كما أنه – تبارك اسمه – كان يُدرك تمامًا مدى هشاشة الحياة البشرية تمامًا، وكذلك لا نهائية الأبدية، وعذاب الهالكين الذي لا يتوقف، والفرح والمجد الأبدي للمُخلَّصين. لقد شعر بالأهمية الأبدية لخلاص النفس، من ثم كانت خدمته ضرورية للغاية. فقال مرة: «خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ» (لو١٢: ٥). وفي مناسبة أخرى قال: «كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لو١٣: ٣، ٥). وهنا قال: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (لو١٩: ٥).

كان زَكَّا عشارًا، أو جامع ضرائب، بل كان ”رَئِيسًا لِلْعَشَّارِينَ“ أيضًا. ويبدو أنه كوّن ثروة من وظيفته، لأنه كان غنيًا. لم يكن جابي الضرائب يُعتبَر إنسانًا أمينًا، وهكذا لم يكنّ له الناس احترامًا كبيرًا؛ وتلميح زَكَّا بأنه وشى بالناس، يبرهن على أنه لم يكن بريئًا من هذه الناحية. إلا أنه سمع عن الرب يسوع، ومعجزاته القديرة، وأعماله وأقواله العجيبة، وكان مشتاقًا جدًا لأن يراه. لكن الجمع كان كثيرًا حول الرب، مما أعاق رؤيته للرب يسوع، إلا إذا جرى في المقدمة، وتجاوز الجموع، وصعد إلى مكان مرتفع. وعلى الرغم من كونه غنيًا، كان هدفه محدَّدًا جدًا، حتى أنه لم يسمح لأي شيء أن يُعيقه عن رؤية الرب يسوع؛ فجرى في المقدمة، وصعد إلى جميزة، في الاتجاه الذي كان يعلم أن الرب سوف يمر به. ربما كان ما يعتمل في قلبه أكثر من مجرد فضول، لأنه لم يسمح لازدحام الجمع، ولا لأي شيء آخر أن يُعيق تتميم رغبته. ثم نرى أيضًا أنه تمكن من طاعة الرب على الفور عندما دعاه. لكن ليكن ما كان، فالواضح أن الرب يسوع كان هو الغرض العظيم لاجتذابه؛ «طَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ». ولا شيء غير المسيح يُمكن أن يُشبعه، فذهب حيث كان الرب سيمر. لكنه قلما تفكر، وهو مشغول بطلب الرب، أن الرب كان يطلبه «لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو١٩: ١٠). كثيرون من الباحثين يقولون: ”أنا أحاول أن أجد المُخلِّص“، لكن الحقيقة هي أن من جاء ليطلب ويُخلِّص ما قد هلك، هو من يطلبهم. لم يكن ممكنًا أن يشتاقوا إلى المسيح، ولا أن يتوقوا إلى خلاصه، ولا يحنّوا شوقًا إليه، ما لم يبدأ هو بعمل النعمة في نفوسهم. عندما كانت النسوة يطلبن الرب بعد قيامته «أَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ» (مت٢٨: ٥).

آه! عزيزي القارئ: لو كان يسوع المسيح المصلوب من أجل الخطاة هو من تطلب حقًا، تشجع ولا تخف!

وبالتأمل في هذا الجزء، يمكننا ملاحظة:

موقف ابن الله المُنعِم.

جاذبيته التي لا تقاوم.

بركة قبول المسيح، ونتائجها.

أولاً: موقف ابن الله المُنعِم

مكتوب «فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (ع٥). أي تنازل عجيب لرب المجد، أن ينظر إلى فوق، ويتكلَّم إلى رجل خاطئ! أي حب! لكن هذا هو طابع قلب الرب يسوع. فبالرغم من أن الأجناد السماوية النورانية تحيط عرش السماء، لكنه يقول: «لَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ» (أم٨: ٣١). نعم، الإنسان - المخلوق على صورة الله - له مكان دائم في قلبه؛ وعندما سقط إلى الهوان والفساد، بالخطية والتمرد على خالقه، ظل الرب يسوع يُحب الإنسان. وحالة الإنسان الساقطة المُزرية ساعدت بالأكثر في إظهار المصادر الهائلة للمحبة والرحمة الإلهية. إن ابن الله، الذي هو في حضن الآب، صاحب المجد الأسنى وبهجة عرش السماء، تنازل ليُولد من امرأة، «فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ» (رو٨: ٣)، حتى يتسنى له كإنسان أن يفدي الإنسان من كل إثم، بموته على الصليب، ويأتي بأبناء كثيرين إلى المجد. هذا هو الحب الإلهي! وبالرغم من كونه الله الظاهر في الجسد، لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد. لقد تمَّم كل إرادة يهوه البارة، وأطاع كل نقطة وحرف في الناموس، ووضع نفسه حتى الموت، موت الصليب، حتى إنه بتلك الأعماق من الاتضاع، والألم والموت تحت دينونة الله كحامل للخطية، مجَّد الله، وفدانا من الهلاك التام واليأس الأبدي اللذين كانا ينتظراننا بعدل، كخطاة.

كان الرب يسوع، ذو القلب المُحب، الذي مات فيما بعد على الصليب، هو نفسه مَن جاء إلى حيث كان زَكَّا، وقال: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». كان هو ذات الرب يسوع من قال لأمة إسرائيل الخاطئة، على لسان نبيه في القديم: «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ» (إش١: ١٨). لقد كان هو نفس المُخلِّص المُبارك الذي قال لرسله بعد قيامته: «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ» (مر١٦: ١٥، ١٦). كان هو نفس الرب يسوع الذي قال: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يو٧: ٣٧). وهو من لا يزال يقول: «أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا» (رؤ٢١: ٦).

هذه هي محبة المسيح، وهذا هو موقف المسيح الجوَّاد، الذي ما زال يتخذه تجاه الخاطئ. إنه يُسرّ بالرحمة. إنه يتأنى ليُنعِم. إنه يُخلِّص إلى التمام. إنه يُرحب بأي خاطئ يأتي إليه للخلاص. إنه ينادي عاليًا بالإنجيل - بخدامه وبأعمال عنايته - «أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». إنه لم يزل، برحمة متأنية، يُقدِّم خلاصًا للضالين، قائلًا: «إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَةَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ» (هو ٦: ٦؛ مت ١٢: ٧). في نعمة غنية مات لفداء الإنسان، وبنفس الحب اللامحدود يقول: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت ١١: ٢٨).

(٢) جاذبية ابن الله التي لا تُقاوَم:

لنتأمل الآن طلب الرب المُلِحّ: «أَسْرِعْ وَانْزِلْ» (لو١٩: ٥). إننا جميعًا بالطبيعة نبالغ في تقدير ذواتنا. يعيش البشر ويتكلَّمون كما لو لم يكونوا خلائق ساقطة؛ لكن كل المؤمنين الحقيقيين اختبروا معنى «انْزِلْ»، لكي ينالوا الخلاص. لا بد أن ”ينزلوا“ إن كانوا ليهربوا من الغضب الآتي؛ لأن الجميع أخطأوا، ودم المسيح وحده هو من يأتي بالمغفرة. إن البشارة بالإنجيل هي أن ”ينزل“ الناس إلى المُخلِّص، لأنه يدعو المتعالين لأن ”ينزلوا“ وينالوا مغفرة الخطايا. آه لو ”نزل“ المتكبرون ليقبلوا المسيح! «الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ. الرَّبُّ يُفْقِرُ وَيُغْنِي. يَضَعُ وَيَرْفَعُ. يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ. يَرْفَعُ الْفَقِيرَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِلْجُلُوسِ مَعَ الشُّرَفَاءِ وَيُمَلِّكُهُمْ كُرْسِيَّ الْمَجْدِ» (١صم ٢: ٦-٨). إن الروح القدس يُقنع الخاطئ بخطيته قبل أن يأتي لنفسه بالسلام بالمسيح. إن طريقة الله الآب هو أن ينزل بالإنسان المتعالي إلى قدمي المخلص؛ لأن الرب يسوع قال: «كُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ» (يو ٦: ٤٥).

هناك البعض فريسيون في وجهات نظرهم. ويبدو أنهم ينتفخون بمفاهيم برهم الذاتي؛ فهم يعتقدون أنهم أفضل من أقرانهم، ويفتخرون بحياة تقضَى حسنًا، ويُقيّمون نواياهم الحسنة جدًا. إنهم يخدعون أنفسهم في أعينهم، وعندما يلومهم ضميرهم، يحتمون في الحال في قداستهم الظاهرية، ومزاياهم الطبيعية، وطقوسهم الدينية، وأعمالهم الخيرية ... إلخ، كتعويض. وبالشعور بالرضا الذاتي ينظرون نظرة دونية إلى الجمع المار، ويُقررون أن يستمروا في طريقهم المتعالي بغيرة متزايدة. إلا أنه لا بد لهؤلاء أن ”ينزلوا“، إن كانوا يريدون التمتع بخلاص الله. البر الذاتي لا بد أن يتضع، المزايا الطبيعية لا بد أن تُنحى جانبًا، والأفكار العالية لا بد أن تنخفض؛ لا بد أن ”ينزل“ كهالك، ضائع، خاطئ نجس؛ ينزل إلى يدي المخلص الممدودة، إن كان ليتمتع بخلاصه العظيم؛ لأنه قال: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا، بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (لو ٥: ٣١، ٣٢).

هناك أيضًا أشخاص، يصرخون بقلب متعالٍ، مثل فرعون: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ؟ ... لاَ أَعْرِفُ الرَّبَّ» (خر ٥: ٢). إنهم يحتقرون الحق، ويغالطون إقناع الضمير، ويضطهدون شعب الرب، ويتقسون ضد رسالة الإنجيل، ويقولون في قلوبهم: «لاَ نُرِيدُ أَنَّ هذَا (الرب يسوع المسيح) يَمْلِكُ عَلَيْنَا» (لو ١٩: ١٤). لقد تقابلت مؤخرًا مع شخص من هؤلاء، وقلت له بلطف: ”هل شعرت يومًا أنك خاطئ في نظر الله؟“ فكان جوابه: ”أنا لا أتحدث قط في هذا الموضوع“! إن محبة الله العجيبة للإنسان الخاطئ، التي تملأ أرجاء السماء بالتسبيح والمجد، كان موضوعًا أقل من أن يستحق أن تنشغل به عقلية عظيمة كتلك التي كان يظن أنه يمتلكها. مثل هذا الشخص لا بد أن ”يُسْرِعْ وَيَنْزِلْ“ إلى مُخلِّص الخطاة، إن كان ليهرب من الغضب الملتهب والهلاك الأبدي، الآتي سريعًا على المتهاونين وغير المؤمنين.

هناك فئة أخرى من الناس، مختلفة تمامًا عن تلك، لكنهم بحاجة أيضًا أن ”ينزلوا“. إن فضولهم يستثار بالأمور الدينية، لكنهم لا يملكون ”ضميرًا مذنبًا“، ولا ”قلبًا منكسرًا“, وهم شخصيًا غرباء عن بهجة خلاص المسيح. هم يحبون سماع هذا الشخص وذاك – يذهبون إلى هنا وهناك – يصنعون ما يسمونه بصداقات دينية، ويسرون بمعرفة كل ما يدور فيما يسمى بالعالم الديني. لقد تدربت عقولهم على مزايا وعيوب التعاليم المختلفة والطقوس الخارجية، والفلاح والإخفاق، والنظريات الخاطئة التي حولهم. إنهم يعرفون جيدًا الفرق بين اليهودية والإسلام، والبابوية والمسيحية؛ مُعطين تفضيلًا للأخيرة، ملاحظين بإعجاب بعضًا من عملياتها ونتائجها ظاهريًا. هم على دراية بحرف الكلمة، ويحترمون الأخلاقيات والتحريضات الخيّرة؛ لكن، للأسف! لم يتدرب الضمير أمام الله؛ إنهم غرباء عن دموع القلب التائب، ولا يعرفون شيئًا عن الولادة الجديدة. وبما أن أناس منهم يُظهرون الفضول في فحص الفروع المختلفة للعلم، وشغوفين جدًا على ملاحظة الأعمال المتنوعة للأسباب والنتائج، فهؤلاء الناس يحملون نفس روح الفضول والرضا الذهني بأمور الدين كما يسمونها؛ ويقارنون أنفسهم بآخرين، فيفتخرون بمقدار معرفتهم، بدلًا من أن يأخذوا مكان الخجل وخزى الوجوه، بسبب إثمهم ومعاصيهم، وخطاياهم ضد الله. لكن لا بد أن يُرفض الفضول تمامًا كالبر الذاتي، أو الكفر المتعالي؛ لا بد أن ”ينزل“ كل هذا، ليكونوا شركاء في خلاص المسيح، ليعلَن لهم سلام الله بدم الصليب.

إن الشعور بالاحتياج التام يحرّض النفس على ”النزول“ لقبول المُخلِّص. إننا نحتمى به، لأنه الأمل الوحيد. نحن نهرب لذراعيه الممدودتين، عالمين أننا لا بد أن نهلك إلى الأبد بدونه. بكل اتضاع يجب أن نرفض خرقنا القذرة من البر الذاتي، وبسرور نرحب ”بالْحُلَّة الأُولَى“ (لو ١٥: ٢٢). إذًا، فكل من وجد الخلاص حقًا، قد اختبر معنى ”النزول“؛ وهو أن تُنحى المزايا الطبيعية والصلاح المزعوم بكل صوره، وتنال الخلاص كهالك، كهبة الله المجانية بربنا يسوع المسيح.

لكن الرب يسوع أمر زَكَّا أن ”يُسرع“؛ كم هذا مهم! كم من أناس يقولون في قلوبهم: ”ليس بعد!“ ومثل فيلكس، أحيانًا يرتجفون من الكلمة المُبشَّر بها، لكنهم يؤجلون الاهتمام الأحرى بها، إلى وقت أكثر مناسبة (أع٢٤: ٢٥)؛ لكن يُخشى أن ”الوقت الأكثر مناسبة“ لا يأتي مطلقًا للبعض. وهناك آخرون مثل أغريباس (أع٢٥)، مقتنعين تقريبًا أن يصيروا مسيحيين، لكنهم لم يصيروا بالفعل هكذا أبدًا، لأنهم يؤجلون باستمرار قرارهم الشخصي تجاه الحق. يقول أحدهم: عندما تنمو عائلتي وتستقر. ويقول آخر: عندما تنتهي مشاكل عملي. ويقول ثالث: عندما أتحرر من مشاغلي الحالية، حينئذ سأهتم بحالة نفسي. هكذا يرفضون المسيح وخلاصه. المزرعة والتجارة والمهام العائلية والضرورات الاجتماعية والأشغال الضرورية، كلها يُدافع عنها بمهارة قلب الإنسان الشرير جدًا والمخادع، كذريعة لرفض المسيح وخلاصه العظيم. إلا أن المُخلِّص المُحب لا زال يدعو «أَسْرِعْ وَانْزِلْ»! إذًا أن تتأخر لهو عدم طاعة سافرة. إنه يقول: «أَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ» (مت ١٤: ٣٢). إنه بلا شك تمرد إن رفضوا. فهو يعلن عن طريق خدامه: «تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ!» (مت ٢٢: ٤)، «تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ» (لو ١٤: ١٧). أليس في هذا ازدراء به وبرسالته إن تخلفت خارجًا؟ كم أن هذا خطير جدًا! ما أقل من يتجاوب مع المسؤولية الجسيمة المرتبطة بالبشارة بإنجيل اللهّ! ما أقل مَن يتفكرون عندما يسمعون، فلا ”يُسرعوا وينزلوا“، بل يرفضون إنجيل نعمة الله، وبذلك يُغلقون باب الهروب الوحيد من النار الأبدية، والطريق الوحيد للدخول للمجد! آه لو تأمل القارئ العزيز أيضًا في إعلان الرب: «مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ» (مر ١٦: ١٦).

كم هو ضروري للإنسان أن ”يُسرع وينزل“ إلى أقدام المخلص. من يعرف من التالي الذي ستقال له تلك العبارة: «هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ»؟ (لو ١٢: ٢٠). ربما قريبًا جدًا تسمع النداء الإلهي: «أَوْصِ بَيْتَكَ لأَنَّكَ تَمُوتُ وَلاَ تَعِيشُ» (٢مل ٢٠: ١). ما أتعس إذًا أن تُهمل خلاص نفسك! ما أخطر أن تقول: ”هناك متسع من الوقت“! ونحن لا نعلم ما يمكن أن يأتي به اليوم! اليوم يوم خلاص، لكننا لا نعلم أي شيء عن الغد. قال يشوع: «اخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ» (يش ٢٤: ١٤). وقال المرنم: «الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ» (مز ٩٥: ٧، ٨). وقال الرب لزَكَّا: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (لو ١٩: ٥). وقال أيضًا للص التائب: «إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لو ٢٣: ٤٣).

اليوم يُبَشَّر بالإنجيل، وها المُخلِّص يُرحب بالضالين الراجعين «فَاللهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ» (أع ١٧: ٣٠). إنه الآن يقول: «أَسْرِعْ وَانْزِلْ» (لو ١٩: ٥). لكنه سيأتي سريعًا بالقوة والمجد، ليضع جميع الأعداء تحت قدميه. كم هو مهم أبديًا إذًا أن يقبل الناس المُخلِّص الذي أرسله الله!

(يتبع)


هـنري هـ. سنل