أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد فبراير السنة 2006
إله النجاه لا يعدم مكان - الله في سفر أستير
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر» (أس4: 14)

ختمنا حديثنا السابق عن أن الله عنده أسلوبان للنجاة، النجاة بالقدرة والنجاة بالسلطان. وذكرنا كيف أنقذ الرب نوحًا من وسط مياه الطوفان، وكيف حفظ لوطًا من النار التي التهمت سدوم.

 وبصدد هاتين الحادثتين يتكلم الرسول بطرس عن إله النجاة في رسالته الثانية فيقول: «حفظ نوحًا ثامنًا كارزًا للبر»، «وأنقذ لوطًا البار»، ويختم بقول بديع: «يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة» (2بط2: 5و7و9) . وعندما نكون بصدد الكلام عن الحفظ أو الإنقاذ، فربما يكون الأقرب إلى الذهن هي مسألة القدرة وليس العلم، لذا كنا نتوقع أن يقول: «يستطيع الرب أن ينقذ الأتقياء»، لكنه لم يقل هنا: يستطيع الرب أو يقدر، بل قال:”يعلم“! مشيرًا لا إلى القدرة الإلهية، بل إلى الحكمة الإلهية والسلطان الإلهي الذي يعرف كيف يوجد المخرج أو المنفذ عندما تستحكم حلقاتها. ويتضح هذا أكثر إن قارناه بكلام نبوخذنصر، بعدما رأى بعينيه إنقاذ الله للرجال الثلاثة في أتون النار، إذ يقول: «ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا» (دا 3: 29)، هنا لم يقل ”يعلم“ بل ”يستطيع“ لأن الإنقاذ في أتون النار كان بالقدرة وليس بالسلطان.

 قال مرة يهوشافاط وهو لا يجد طريقا للنجاة: «نحن لا نعلم ماذا نعمل» (2أخ20: 12). لكن ها هو بطرس يطمئن قلوبنا عندما يقول: «يعلم الرب». نعم، ”يعلم الرب“، فعندما تفرغ حيلتنا ونجد أنفسنا لا نعلم، سنجد أن الرب دائمًا يعلم! هذا لكونه كلي السلطان.

 وقد يبدو أمام العين البشرية أن الطريقة الأولى هي الأصعب، إذ فيها خلق واستحداث لما ليس بموجود، لكنني في الواقع أراها الأسهل جدًا بالنسبة لله، إذ ما أيسر عند الله أن يستعمل قدرته غير المحدودة ليوجد ما ليس بموجود. أو يستعمل قدرته الإلهية ليستحدث قوى جديدة يرتقي بها فوق قوانين هو سبق وسنها. أ ليس هو الذي أتقن العالمين بكلمة؟ لكن الصعب فعلاً، من وجهة نظري، هو أن يسيطر الله بسلطان عظيم على كل القوى الموجودة في الطبيعة؛ العاقلة وغير العاقلة، الشريرة والخيرة، دون أن يلغي إرادة واحدة حرة أو حتى يسلبها حريتها ولو إلى حين؟ وإنني أقف متعجبًا متسائلاً: كيف يفعل هذا والبشر خطاة عصاة، والجسد فيهم غير خاضع لناموس الله بل إنه أيضًا لا يستطيع؟! كيف يفعل هذا والشيطان وملائكته دائمًا يفسدون سبل الله المستقيمة، بل إن اسمه الشيطان من الفعل العبري ”شطن“ أي قاوم وتمرد؟! كيف يسيطر على هؤلاء وأولئك؟ وكيف يسوس الجميع بحكمة وحنكة، ويجعلهم في النهاية يعملون مشيئته كاملة الإتقان، دون أن يلغي إرادتهم أو يسلبهم حرية الإرادة ولو للحظة واحدة؟! هذا هو الله وهذا هو سلطانه.

 وعليه يمكننا القول:

 إن الله دائمًا يسمع صراخ شعبه ويتدخل لإنقاذهم صانعا المعجزة؛ ”معجزة النجاة“. لكنه تارة يصنع المعجزة كالقدير دون استعمال أي وسائل من خليقته، وتارة يصنع المعجزة كصاحب السلطان مستعملاً عناصر مختلفة من خليقته، سواء كانت غير العاقلة؛ بزيادتها أو بنقصانها، بإطلاقها أو بإسكاتها، بجمعها أو بطرحها، بالتحكم في اتجاهاتها أوبتغيير مساراتها . أو العاقلة بشقيها الشريرة أو الخيرة، العاصية أو المطيعة دون أن يسلبها حرية إرادتها. يستطيع الله كمن هو كلي السلطان أن يستخدم كل هذه ويصنع بها أعظم المعجزات! وهكذا يظهر مجده في نجاة شعبه كمن هو إله النجاة الذي لا يعدم مكان.

  • فعندما عمل الله المعجزة مع إبراهيم وأعطاه إسحاق، كانت قدرة الله الخلاقة هي العاملة. لكن عندما عمل أعظم معجزة في حياة يوسف وأوصله إلى العرش، لم يستعمل الله قدرته غير المحدودة، بل استعمل سلطانه غير المحدود، في السيطرة على كل القوى الشريرة والخيرة، لكي ينجي عبده، بل وليصل به إلى العرش.
  • وعندما نجى الرب موسى من الموت وهو أربعين نهارًا وأربعين ليلة على الجبل، لا يأكل ولا يشرب، كانت قدرة الله هي العاملة. لكن عندما نجاه الله من الموت وهو بعد طفل، مستعملاً عدة وسائل طبيعية ابتداءً من السفط المطلي بدقة بالحمر والزفت، والموضوع بعناية بين الحلفاء على حافة النهر، وانتهاءً بابنة فرعون التي تنزل في نفس النقطة وذات التوقيت، فهنا نرى سلطان الله.
  • كذلك عندما يطلي الرب بالطين عيني أعمى، ثم يرسله ليغتسل فيرجع بصيرًا! هنا نرى قدرة الله. لكن عندما يخرج الرب شيطانًا من أخرس فيتكلم الأخرس هنا نرى سلطان الله.
  • أيضا عندما يستحدث الرب قوى جديدة في جسم بطرس، أو في مياة بحيرة طبرية، أو في طبقة الهواء الملاصقة لصفحة المياه، قوى جديدة يرتقي بها فوق قوانين الطفو والكثافة التي هو وضعها ليجعل بطرس يمشي على الماء هنا نرى القدرة الإلهية، لكن عندما يوجه الرب سمكة في فمها إستار لتصل إلى صنارة بطرس الملقاة في الماء، مع أن الرب في هذا الموقف كان يقدر أن يخلق بكلمة واحدة ملايين الدينارات وليس إستارًا، فنحن هنا نرى سلطان الله.

 ولنا في هذا الفكر درسين هامين:

  1. نحن في مرات ننتظر قدرة الله ليصنع المعجزة لنجاتنا، بينما تكون مشيئتة في هذا الوقت هي إظهار سلطانه وليس قدرته. فقد ننتظره أن يشفي لنا مريضًا بمعجزة، تظهر قدرته على الشفاء، بينما تكون مشيئته هي أن يشفيه مستعملاً سلطانه على عدة أشياء منها على سبيل المثال: تدبير المال اللازم للعلاج، ضبط المواقيت، يد الجراح، نوع الفحص، جرعة الدواء، بل وأحيانًا أخطاء الطبيب أو التمريض!! ليصنع في النهاية قصة جميلة أعظم من مجرد الشفاء.
  2. نحن في مرات ننتظر سلطان الله ليرسل لنا النجاة مستعملاً شخصية معينة، أو وسيلة معينة سبق أن أنقذنا الله بها، بينما تكون مشيئته استعمال وسيلة أخرى لا تخطر لنا على بال، أو ربما عدم استعمال وسائل على الإطلاق أي أنه سيظهر قدرته وليس سلطانه.

 لذلك علينا في كل الأحوال أن نوجه صلاتنا نحوه وننتظر، أن نكف عن فطنتنا ولا نحد الله في أسلوب معين من أساليب النجاة، فقط علينا أن نتوقع بسكوت خلاص الرب.

 هنا نأتي لعبارة مردخاي لنرى فيها الفهم الروحي لهذا الفكر الذي شرحناه عندما يقول لأستير: «يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر»، لقد اتسع فكره الناضج ليرى أن الله في طرق إنقاذه لشعبه، أعظم وأعلى من أن يحد في طريقة معينة، أو يتوقف عند وسيلة بذاتها. لقد كان كمن يقول لنفسه: لماذا لا يغير الله الوسيلة وهو في سلطانه غير محدود؟ لماذا لا يفاجئنا بطريقة مختلفة للنجاة وهو على الكل يملك ويسود؟ إنه إله خلاص، وعنده للموت لا مخرج بل مخارج. لذلك فهو لن يعدم مكان يرسل منه النجاة لشعبه المقهور.

 هذا ما آمن به مردخاي، ولذا صار ينتظر النجاة من الله مستخدمًا وسيلة جديدة لا تعرفها أستير، وهو نفسه لا يعرفها لكنه متيقن من وجودها! وكم هو حري بنا عندما نشعر أن العقل قد توقف عن التفكير لأن كل الوسائل لم تعد تجدي، أن نقف ونقول مع المرنم: «الله لنا إله خلاص وعند الرب السيد للموت مخارج» (مز68: 20).

 وكم أشتاق عزيزي القارئ أن تردد في قلبك هاتين العبارتين:

 «يكون الفرج والنجاة من مكان آخر»؛ «عند الرب السيد للموت مخارج».

 عندما يفاجئك الأطباء بأسوأ كلام،

عندما ترجع خائبًا بعد أن يخذلك الأحباء،

 عندما تضيع الفرصة التي بنيت عليها الأمال،

 أرجوك لا تستسلم لمشاعر اليأس السوداء، فقط قف وأصرخ عاليًا في وجه عدوك، في وجه شكوك عدم الإيمان وقل: هناك باب آخر منه سيأتي الفرج، منه ستكون النجاة، هناك إله هو إله النجاة، الإله الذي لم يتخل عني كل الزمان، وهو الذي لا يعدم مكان.

 والآن أراه من النافع لنا أن نتوقف عند بعض الحوادث الشيقة من كلمة الله، والتي، إذا قبلناها كما هي بالحقيقة ككلمة الله، ستنجح في أن تغرس عميقا في قلوبنا هذا الفكر؛ أن إله النجاة لا يُعدم مكان، بل إنها قادرة على أن تجدد أذهاننا فتجعل هذا الفكر يطبع طريقة تفكيرنا وردود أفعالنا في مواجهة بلايا الحياة.

(يتبع)

ماهر صموئيل