أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2015
أيام القضاة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

جدعون.. عابد حقيقي

«فَبَنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَاهُ يَهْوَهَ شَلُومَ. إِلَى هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَزَلْ فِي عَفْرَةِ الأَبِيعَزَرِيِّينَ. وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ: خُذْ ثَوْرَ الْبَقَرِ الَّذِي لأَبِيكَ، وَثَوْرًا ثَانِيًا ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَاهْدِمْ مَذْبَحَ الْبَعْلِ الَّذِي لأَبِيكَ وَاقْطَعِ السَّارِيَةَ الَّتِي عِنْدَهُ، وَابْنِ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ إِلَهِكَ عَلَى رَأْسِ هَذَا الْحِصْنِ بِتَرْتِيبٍ، وَخُذِ الثَّوْرَ الثَّانِيَ وَأَصْعِدْ مُحْرَقَةً عَلَى حَطَبِ السَّارِيَةِ الَّتِي تَقْطَعُهَا. فَأَخَذَ جِدْعُونُ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَعَمِلَ كَمَا كَلَّمَهُ الرَّبُّ. وَإِذْ كَانَ يَخَافُ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ نَهَاراً فَعَمِلَهُ لَيْلاً. فَبَكَّرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْغَدِ وَإِذَا بِمَذْبَحِ الْبَعْلِ قَدْ هُدِمَ وَالسَّارِيَةُ الَّتِي عِنْدَهُ قَدْ قُطِعَتْ، وَالثَّوْرُ الثَّانِي قَدْ أُصْعِدَ عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي بُنِيَ. فَقَالُوا الْوَاحِدُ لِصَاحِبِهِ: مَنْ عَمِلَ هَذَا الأَمْرَ؟ فَسَأَلُوا وَبَحَثُوا فَقَالُوا: إِنَّ جِدْعُونَ بْنَ يُوآشَ قَدْ فَعَلَ هَذَا الأَمْرَ. فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِيُوآشَ: أَخْرِجِ ابْنَكَ لِنَقْتُلَهُ، لأَنَّهُ هَدَمَ مَذْبَحَ الْبَعْلِ وَقَطَعَ السَّارِيَةَ الَّتِي عِنْدَهُ. فَقَالَ يُوآشُ لِجَمِيعِ الْقَائِمِينَ عَلَيْهِ: أَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ لِلْبَعْلِ، أَمْ أَنْتُمْ تُخَلِّصُونَهُ؟ مَنْ يُقَاتِلْ لَهُ يُقْتَلْ فِي هَذَا الصَّبَاحِ. إِنْ كَانَ إِلَهًا فَلْيُقَاتِلْ لِنَفْسِهِ لأَنَّ مَذْبَحَهُ قَدْ هُدِمَ. فَدَعَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَرُبَّعْلَ قَائِلاً: لِيُقَاتِلْهُ الْبَعْلُ لأَنَّهُ قَدْ هَدَمَ مَذْبَحَهُ» (قض٦: ٢٤-٣٢).

لقد اختبر جدعون سلامًا في قلبه بسبب الأمور المتيقنة التي لم تكن واضحة أمامه من قَبل، وقد اتضحت جدًا أمامه الآن، وكذلك بسبب المهمة التي أوكلها إليه الرب، وأيضًا بسبب حقيقة وعد الرب له بأنه يكون معه، مما أنتج في قلبه سلامًا جزيلاً. فكان أول رد فعل مبارك له قبل أن يدخل في أي صراع مع الأعداء أنه بنى مذبحًا للرب وسجد له (ع٢٤). إن السجود جزئية هامة جدًا في الحياة المسيحية. فليست كل الحياة المسيحية صراع ومواجهة مع المصاعب والمشاكل التي تتحدانا، لكن السجود هو أمر لا بد أن يفعله كل واحد منا، سواء فرديًا أو جماعةً، كرد فعل قلبي للرب الذي يهتم بنا، والذي باركنا بهذه الطريقة المجيدة. إنه لمن المميز جدًا أن تجد رجلاً، وسط أمة قد باعت نفسها للوثنية، يتجاوب في الحال مع الرسالة التي تسلمها فيسجد للرب.

نعم، إن مذبح البعل لا يمكن أن يبقى أكثر من ذلك، هكذا قرر جدعون “طالما أنى سأسجد للرب، لا بد أن أتخلص من كل ما يهينه”. لقد علم جدعون أن هذه هي ضربة قلب الأمة، وهي السبب الفعلي لكل هذا البلاء. وهذا المذبح الذي بُنيَّ للبعل كان في بيت أبيه رأسًا، وكان هو على علم تام بوجوده. فقام في الليل وهدمه، وفى الصباح أُصيب الجميع بحالة ذهول: “من فعل هذا الفعل المرعب وهدم مذبح البعل؟ أي من فعل هذه الفعلة يستوجب العقاب!” وكالمعتاد، عندما يقف رجلاً مُنصفًا للحق ستجد آخرًا يسرع ليسانده. فهناك دائمًا تبعية، وهنا جاء التشجيع من مكانه الصحيح، إذ نهض أبو جدعون لمساندته ولسان حاله: “لن يُقتل أحد هنا، سواء كان هدم المذبح عمل صحيح أو خاطئ، لكن مما لاشك فيه أن هذا شر في وسطنا، وقد فعل ابني حسنًا إذ هدم هذا المذبح”.

إخوتي الأحباء: ليس كافيًا أن نقوم بعمل ما للرب، أو أن نكون خبراء في فعل الصواب أمامه، بل علينا أن نتخلص من كل أمر قد يهين اسمه، وهذا بالضبط ما فعله جدعون. لقد عمل الصواب، إذ سجد للرب، لكنه أيضًا فعل حسنًا عندما أزال المُزاحم لمشاعره بهدم مذبح البعل. وهناك أمور معينة لا يمكن أن نطيقها لأن قبولها يعنى الخيانة للرب. فنحن لا يمكننا مهادنة البعل لأنه يعادي الله، ومستحيل أن نتعامل معه بالنعمة والمحبة فهو لن يتغير. فكل من المديانيين والعمونيين والموآبيين أعداء الرب، لن يتغيروا ولن يتحسنوا، بل هم ثابتون على إصرارهم في مقاومة أمور الرب. وإظهار النعمة والمحبة لهم لن يغيرهم، بل يجب التعامل معهم بلا هوادة بل واستئصالهم، وهو الأمر الذي تممه جدعون بهدم مذبح البعل، وإقامة اعتبار للرب.

ثم نقرأ «وَلَبِسَ رُوحُ الرَّبِّ جِدْعُونَ» (ع٣٤). من اللافت للنظر أنه بالرغم من أن سفر القضاة يتعامل بالأكثر مع الطابع المظلم، إلا أن ذكر الروح القدس يتكرر فيه أكثر منه في أي سفر آخر في العهد القديم. لقد لبس روح الرب كل من شمشون وعثنيئيل وجدعون وآخرين أيضًا في أوقات عصيبة. لكن كم نحن مدينون للحق المجيد الذي نمتلكه، أن روح الرب يسكن في كل واحد منا، وهو معنا جميعًا ولن يؤخذ منا، إنه معنا إلى المنتهى كوعد الرب لنا «لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ» (يو١٤: ١٦)؛ إلى نهاية الشهادة المسيحية. هذا هو المصدر الحقيقي لشعب الرب في كل الأزمنة، الذي به يستطيعون أن يتعاملوا مع كل ما يهين الله. إنه روح الحق الذي بقدرته الإلهية وعظمته ومجده، يستطيع أن يكشف لنا عن الخطأ بينما نكون مخدوعين. إنه يستطيع أن يكشف لنا عن الخطأ في التعاليم المهينة لله وللمسيح، وهو القوة التي تُمكننا من الصمود للرب في اليوم الشرير، الذي فيه تزداد التعاليم الخاطئة على كل المستويات.

جدعون يغلب المديانيين

«وَلَبِسَ رُوحُ الرَّبِّ جِدْعُونَ فَضَرَبَ بِالْبُوقِ، فَاجْتَمَعَ أَبِيعَزَرُ وَرَاءَهُ » (قض٦: ٣٣ - ٨: ٣).

هنا اجتمع إلى جدعون أناس من ذويه بعد أن بوَّق بصوت واضح «فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَى الْبُوقُ أَيْضًا صَوْتًا غَيْرَ وَاضِحٍ فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ؟» (١كو١٤: ٨). لقد بوَّق جدعون بصوت واضح، مُعطيًا إشارة لكل مهتم بفعل شيء للرب. فهو لم يمدهم بالطعام فحسب، وشكرًا لله من أجل ذلك، لكن الآن عليه بذل مجهود أعظم للتخلص من عبودية المديانيين. في سفر العدد ٣١: ٢ نقرأ أن نقمة الرب على مديان، هذا ما قاله الله. لقد قرر الله ألا يكون لمديان نصيب مع شعبه، وألا يعيق بركات شعبه. ومثلما تكلم ضد عماليق وضد موآب وضد عمون، هكذا أيضًا أعلن عداءه على كل ما ينتمي للمديانيين.

وهنا ارتفع المعيار، لكنه ارتفع أكثر في قضاة ٦: ٣٥ حيث اجتمع كل من منسى وأشير وزبولون ونفتالي. إننا سعداء جدًا للقاء أصدقائنا زبولون ونفتالي مرة أخرى، بعد أن كانوا متقدمين في الصحوة التي كانت في أيام دبورة وباراق، حينما خاطروا بحياتهم، مُقدِّمين أرواحهم لحماية ما يخص الله، وها هم في المقدمة مرة أخرى. إنه أمر رائع هذا الرسوخ في الرغبة في المحافظة على ممتلكات الرب. لقد استدعى ضرب البوق ٣٢٠٠٠ رجلاً إلى الجيش الذي سيحارب المديانيين.

وبالرغم من كون هذا الجيش نافعًا جدًا، لكن كان هناك بعض الدروس التي كان يجب على جدعون أن يتعلمها أولاً؛ منها أنه ليس بالضرورة أن يعمل الله بالأعداد الغفيرة، بل هو لا يهتم بأن يعمل بأعداد غفيرة، لأنه «لاَ بِـالْقُدْرَةِ وَلاَ بِـالْقُوَّةِ بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زك٤: ٦). فالله يستطيع أن يخلص بالقليل كما بالكثير. ولنتذكر ١كورنثوس ١: ٢٧ «اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ، وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ»، وكذلك العبارات الكثيرة التي كتبها بولس بهذا الصدد «لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ لِلَّهِ لاَ مِنَّا» (٢كو٤: ٧). وإذ يُصوَّر لنا هذا التاريخ البديع نجد أن هذين العددين ينطبقان تمامًا على قصة جدعون وجيشه المكوَّن من اثنين وثلاثون أَلْف رجلٍ. كيف كان سيوظفهم جدعون؟ كيف كان سينشرهم ليواجهوا الجيش العظيم؟ فقال له الله: “كلَّمهم وقل للخائفين والمرتعدين أن يرجعوا إلى بيوتهم لأن أمثال هؤلاء لا نفع يرجى منهم في الحروب”. فقال لهم جدعون ما قاله له الله «فَرَجَعَ مِنَ الشَّعْبِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» - رجعوا إلى بيوتهم – مما خفض عدد الجيش إلى «عَشَرَةُ آلاَفٍ» (قض٧: ٣). ربما فكَّر جدعون: “لا يهم، بإمكاننا أن نفعل شيئًا بهؤلاء العَشَرَةُ آلاَف”، لكن الله قال له: “يا جدعون خذهم إلى النهر، وراقب كيف يشربون، وسأريك من تأخذ معك”. وانخفض تعداد الجيش أيضًا فصار «ثَلاَثَ مِئَةِ رَجُلٍ» بدلاً من اثنين وثلاثون أَلْف رجلٍ، لكن الله كان قد سبق وقال إنه مع جدعون وأن العدو مهزوم، وعندما يعمل الله فلا يهم إن وقف ثَلاَثَ مِئَةِ رَجُلٍ فقط ضد جيش غفير، لأن الحرب قد حُسمت قبل أن تبدأ. كان هذا هو الدرس الذي على جدعون أن يتعلمه أنه ليس بالضرورة كثرة العدد حتى تُرى قوة الله. بكل أسف كثيرًا ما ينساق البعض في اجتماعاتنا إلى مثل هذه الأفكار. فمنهم من يعتبر أن عشرين عابد أو ثلاثين عدد قليل فلا يرضون بغير المئات أو الآلاف تاركين الاجتماعات الصغيرة، وغير مكترثين بالمبدأ طالما أن هناك أعداد كبيرة من الناس وأنشطة متعددة. لكن الرب يسر جدًا باثنين أو ثلاثة يسيرون بحسب الحق، ويجتمعون إلى اسمه (مت١٨: ٢٠).

وأنا لا أضع الأعداد القليلة هنا في موضع الأولوية بل إننا بحاجة إلى أعداد كافية للقيام بشهادة كافية. فليس هناك من فضيلة معينة أن نكون اثنين أو ثلاثة فقط، لأنه ربما يكون قد تقلص العدد إلى هذا الحد بسبب جهلنا أو ضعفنا. لكن علينا أن نتأكد من ذلك أنه إن كان هناك اثنين أو ثلاثة، أو أربعة وعشرين، أو ثلاثين أو أربعين - بمنتهى التواضع والصدق - يحفظون الإيمان كما استُعلن لهم في الكتاب المقدس، فلا بد من أنهم سيختبرون حقيقة حضور الرب في وسطهم. سيعرفون قوته ويختبرون بركته. وهذا هو الدرس الذي كان على جدعون أن يتعلمه. لم تكن النصرة تتعلق بقوته، ولا بعدد الجيش، بل بقوة الرب وبقدرته على التوجيه والسيطرة، ليتمكنوا من النصرة.

وكان جدعون رجلاً يريد أن يتأكد من الأمور قبل الخوض فيها، وأمامنا أربعة مناسبات طلب فيها إرشاد الرب، والرب طمأنه للنتائج. أولاً: امتحاني جدعون المتعلقان بجزة الصوف (قض٦: ٣٦-٤٠)، ثم رغبته في أن يعلن له الملاك عن هوية محدّثه (قض٦: ١٧، ١٨)، وأخيرًا عندما وجهه الرب لأن ينزل إلى محلة مديان حيث سمع حلم أحد الرجال الذي كان يقصه، عن رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيين فقلب الخيمة، فأجاب صاحبه قائلاً: «لَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ سَيْفَ جِدْعُونَ بْنِ يُوآشَ رَجُلِ إِسْرَائِيلَ. قَدْ دَفَعَ اللَّهُ إِلَى يَدِهِ الْمِدْيَانِيِّينَ وَكُلَّ الْجَيْشِ» (قض٧: ٩-١٥). لقد علم المديانيون أنهم سيخسرون المعركة وأنهم مهزومون. فرغيف خبز الشعير ليس بالهيئة القوية بل هو أداة متواضعة جدًا. وأعتقد أن الرب كان فقط يريد أن يوضح لجدعون صغر حجمه، فبرغيف خبز الشعير أوضح الرب لجدعون أنه هو الذي يحارب عنهم، وأن النصرة مضمونة مسبقًا.

فأخذ جدعون ثلاث فرق الجيش وأمدهم بمعدات الحرب. لقد كانت معدات غريبة جدًا؛ لقد «قَسَمَ الثَّلاَثَ مِئَةِ الرَّجُلِ إِلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ، جَعَلَ أَبْوَاقًا فِي أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ، وَجِرَارًا فَارِغَةً وَمَصَابِيحَ فِي وَسَطِ الْجِرَارِ» (قض٧: ١٦). يا لها من عدة غريبة للخوض بها في معركة، لكنها كانت من ترتيب الله، وأطاع جدعون. لقد قَسَمَ الثَّلاَثَ مِئَةِ الرَّجُلِ إِلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ ولسان حالة: “عندما أعطيكم الإشارة فافعلوا ما أفعل، اتبعوني” «وَقَالَ لَهُمُ: انْظُرُوا إِلَيَّ وَافْعَلُوا كَذَلِكَ. وَهَا أَنَا آتٍ إِلَى طَرَفِ الْمَحَلَّةِ، فَيَكُونُ كَمَا أَفْعَلُ أَنَّكُمْ هَكَذَا تَفْعَلُونَ» (ع١٧). هذه لغة رجل يقود قديسي الله بطريقة إيجابية، إذ كان متأكدًا من صحتها، كما أنه كان يعرف ما هو فاعل، فوجَّه الشعب لأن يفعل مثله.

ولما حانت اللحظة الحاسمة بوّق الثَّلاَثَ مِئَةِ الرَّجُلِ بالأبواق، محدثين دويًا هائلاً من جراء ضرب ثلاث مئة بوق في وقت واحد، وكسروا الجرار، فلمع نور المصابيح، وهرول المديانيون هربًا لحياتهم. لقد تمت النصرة في المعركة، وحدثت مذبحة عظيمة قُتل فيها أمراء المديانيين. وإتمامًا لقول الرب هُزم العدو. وإذا رجعنا إلى ٢كورنثوس٤: ٧ سنجد التفسير لذلك حيث يقول الرسول بولس «لَنَا هَذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ لِلَّهِ لاَ مِنَّا». والأواني الخزفية هي الجرار؛ هي أجسامنا الضعيفة التي يسكن بداخلها أشياء غالية قد وضعها الله هناك للشهادة لشخصه. وتنتشر الشهادة، بعد الضرب بالأبواق، من خلال الآنية الضعيفة، بعد كسرها أي عندما يخضعوا ويتضعوا تحت يد الله، ويبقوا هناك، حينئذ تنتج شهادة كافية لأن تواجه كل قوى العدو، ولأن تهزم كل جيوشه. إخوتي الأحباء: إننا مساكين؛ مخلوقات ضعيفة في ذاتها، لكن لو تواضعنا تحت يد الرب لخرجت منا شهادة تكفي لمسرته ولمجده.

وهناك دائمًا المتذمرين، الذين نجدهم هنا بعد النصرة في الحرب، الذين أتوا إلى جدعون وخاصموه قائلين: «مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلْتَ بِنَا، إِذْ لَمْ تَدْعُنَا عِنْدَ ذِهَابِكَ لِمُحَارَبَةِ الْمِدْيَانِيِّينَ؟» (قض٨: ١)، رغم أنهم لا بد أن يكونوا قد سمعوا صوت البوق عندما بوّق، وأنا لا أشك في ذلك، لكنهم لم يأتوا فواصل جدعون والذين اختارهم الله المهمة وكان النصر حليفهم. لقد أتوا في النهاية وتذمروا، أما جدعون فلم يكن رجل ذو روح عنيفة. وهنا نجده يعطينا مثالاً رائعًا للجواب اللين الذي يصرف الغضب (أم١٥: ١)، وبدلاً من خلق الحنق بين الإخوة أو جلب العداء بينهم، كسبهم في صفه.

فشل جدعون

«وَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ لِجِدْعُونَ: تَسَلَّطْ عَلَيْنَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنُ ابْنِكَ، لأَنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنَا مِنْ يَدِ مِدْيَانَ. فَقَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُمْ وَلاَ يَتَسَلَّطُ ابْنِي عَلَيْكُمُ. الرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: أَطْلُبُ مِنْكُمْ طِلْبَةً: أَنْ تُعْطُونِي كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ. لأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَقْرَاطُ ذَهَبٍ لأَنَّهُمْ إِسْمَاعِيلِيُّونَ. فَقَالُوا: إِنَّنَا نُعْطِي. وَفَرَشُوا رِدَاءً وَطَرَحُوا عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ. وَكَانَ وَزْنُ أَقْرَاطِ الذَّهَبِ الَّتِي طَلَبَ أَلْفًا وَسَبْعَ مِئَةِ شَاقِلٍ ذَهَبًا، مَا عَدَا الأَهِلَّةَ وَالْحَلَقَ وَأَثْوَابَ الأُرْجُوانِ الَّتِي عَلَى مُلُوكِ مِدْيَانَ، وَمَا عَدَا الْقَلاَئِدَ الَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمْ. فَصَنَعَ جِدْعُونُ مِنْهَا أَفُودًا وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِهِ فِي عَفْرَةَ. وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاكَ، فَكَانَ ذَلِكَ لِجِدْعُونَ وَبَيْتِهِ فَخًّا» (قض٨: ٢٢-٢٧).

إنه لأمر محزن جدًا أن يضل رجل الله. إنه أمر رهيب. فرجل الله هذا الذي هدم مذبح البعل في بيته، والذي استخدمه الله بهذه الطريقة الرائعة، اقتاده الشعب لأن يصنع أفودًا «وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِهِ فِي عَفْرَةَ. وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاكَ» (قض٨: ٢٧). وكان هذا شركاً لبنى إسرائيل. إنه أمر مؤسف حقًا، مما يذكرنا - إخوتي الأحباء - أننا بحاجة لأن نُحفظ في كل خطوة نخطوها في الطريق إلى آخر خطوة. لأنه لا يمكننا تحمل نتائج الزلل بعد التفريط في اليقظة. «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (١كو١٠: ١٢).

إن جورج مولر، رجل الإيمان الرائع والعجيب، استمر يصلي هذه الصلاة حتى يوم مماته: “يا رب، احفظني من أن أكون رجل مُسنّ شرير”. لقد علم شر الجسد، وعلم كيف اقتاده الشيطان قبل الإيمان أيامًا لا يريد العودة إليها، لذلك كانت صلاته الدائمة أن يبقى محفوظًا. فحقيقة كوننا كنا ناجحين للرب في بعض اللحظات من حياتنا لا يعنى إطلاقًا أننا مُحصَّنين ضد التجارب والفشل. إننا نحتاج لأن نُحفَّظ إلى النهاية. إني أثق أن الكلمات البديعة التي قالها بطرس هي شيء جدير بأن نتمسك به، إذا كنا مُتضعين وتاركين أنفسنا بين يدي الرب «أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ» (١بط١: ٥). كم هو رائع أن نتطلع إلى الخلف عبر حياتنا، ونتتبع كل الطريق الذي حفظنا فيه الرب، وبالتأكيد لم نكن لنستطيع أن نحفظ أنفسنا فيه.

يا ليت هذه الكلمات البسيطة عن حياة رجل الله تكون مشجعة لنا في أيامنا هذه، حتى نستطيع أن نواصل المسير، ونمد القديسين بالطعام اللازم لهم، ونتأكد من أننا نُطعَّم جيدًا أولاً لنبني أرواحنا، وبالتالي نستطيع أن نكون عونًا للآخرين من أجل اسم الرب.

(تمت)

فرانك ولاس