أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2013
يعقوب منفرداً مع الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
امتلأت حياة يعقوب بالحيل والمؤامرات والإحباطات وحسرة القلب.  في تكوين 32، وهو عائد إلى بيت إيل بعد قضاء 20 سنة مع حميه لابان، نجده مضطَرِبًا ومشوَّشًا.  تزايدت حدة قلقه لعدة أيام لأنه أدرك أنه محاصر بين عدوين خطرين: عيسو في الغرب، ولابان في الشرق.  لكن الله بنعمته تدخل وأنقذه من لابان، أما أخوه عيسو فإنه يقترب الآن.  إذا كان يعقوب أقَرَّ بعمل الله في تهدئة قلب لابان المُحتَدّ، لكان وفَّرَ على نفسه هدية ضخمة قدرها 580 حيوان، قصد بها أن يرشو عيسو ويهرب من انتقامه.

خطَّط ثم صلى

أرسل الله جيشًا من الملائكة ليصطحب يعقوب في رحلته.  عمل أولئك الخدام السماويين عملاً أكبر من مجرد الظهور ليعقوب، تقابلوا معه بالفعل!  لا بُدَّ أن تلك المقابلة الفريدة قد دفعت يعقوب قُدُمًا في رحلته إلى بيت إيل؛ أرسل رسلاً ليجدوا عيسو ويعلنوا قدومه.  عاد الرسل أسرع مما هو متوقَّع، لأن عيسو كان يقترب ومعه أربعمائة رجل.  أثارت أخبار اقتراب عيسو قلقه، «فَخَافَ يَعْقُوبُ جِدًّا وَضَاقَ بِهِ الأَمْرُ» (تك32: 7).
هل صلى أو صرخ مستنجدًا بالله؟  ليس منذ البداية.  اختار يعقوب أن يواجه الخطر بحيل مِن تدبيره بدلاً من الاتكال على الرب.  وكإجراء احتياطي للتقليل من خسائره في حالة الهجوم عليه قسم القوم الذين معه، والبهائم إلى جيشين.  بعد الانتهاء من مشغولياته العديدة، صلى إلى الله يطلب منه النجاة.  هذه هي أول صلاة مسجلة لـيعقوب.  ومع أنها صلاة رائعة، إلا أنها تأخرت عن إظهار ثقته الكاملة في إلهه.

سأل يعقوب الله بانكسار أن يُنجيه متكلاً على مواعيده الإلهية.  إذا كان هذا التوسل جاء في مرحلة سابقة حيث كان يدبِّر الحيل والمؤامرات ربما كنا مدحناه، لكن هذا ما يميل إليه الإنسان: إما الاتكال على نفسه وحدها، أو إضافة صلاة قصيرة لمخطّطاته ليكتسب معونة إلهية صغيرة فوقها.  هذا ما عمله يعقوب، وما نميل نحن لعمله.  سلسلة مخططات يعقوب وصلواته قد تستحق التأمل: خطَّط (تك32: 7، 8)، صلى (تك32: 9-12)، خطَّط (تك32: 13-23)، صلى (تك32: 24-32)، خطَّط (تك33: 1-3).  إذا تركنا السلسلة تبدأ بالصلاة بدلاً من التخطيط لأصبح الله هو المصدر الذي يستمد القلب الثقة منه وليس حكمتنا البشرية.

بعد أن عقد الملك يهوشافاط معاهدة عسكرية مع الملك أخآب الشرير لمحاربة راموت جلعاد، قال لأخآب: «اسْأَلِ الْيَوْمَ عَنْ كَلاَمِ الرَّبِّ» (2أخ18: 4).  إنها سخرية واضحة أن تطلب مشورة الله ومساعدته بينما تكون قد عزمت فعلاً على تنفيذ الأمر بمنطقك البشري.  كتب تشارلس ماكنتوش قائلاً: “لا بُدَّ أن نُنهي كل شيء له علاقة بالذات حتى يستطيع الله أن يُظهر نفسه.  لكننا لن نتمكن أبدًا من التخلص من خططنا حتى نتخلص من ذواتنا”.  أنهى الله الأمر مع لابان، فلماذا لم يستطع يعقوب أن يثق بأنه يستطيع أن يعمل في قلب عيسو أيضًا؟  لم يستطع يعقوب أن يعرف وقتها أن هذا بالضبط ما كان الله عامله.

قلق ثم طاعة

الليلة السابقة لمواجهة عيسو، عزل يعقوب نفسه عن أسرته ليفكِّر في حل لأزمته.  كانت فترة حرجة في حياة يعقوب لأنه كان وحده تمامًا مع الله.  الانفراد مع الله هو المكان الوحيد لإدراك مدى ضعف حيلتنا وفساد قلوبنا.  زار الرب يعقوب متخفّيًا.  لاحظ أن الرب هو الذي بدأ المصارعة، يقول الكتاب المقدس «وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ» (تك32: 24).  أراد كل مِن الرب ويعقوب شيئًا من الآخر: أراد يعقوب البالغ حوالي مائة عام بركة من القديم الأيام، وأراد الرب من يعقوب أن ينكسر ويخضع.  إذا صارعك الرب ذات يوم فسيكون لنفس السبب: ليحصل على الكسر.  نستنتج أن هذا الإنسان كان المسيح في زيارة إلى الأرض قبل تجسده باعتباره المرسل من الآب.

لنتذكر معًا كلمات الرسول يوحنا الشهيرة بخصوص العدو المتربص بنا لالتهامنا «الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ» (1يو4: 4).  الرب مع أي شخص يُكوِّن الأغلبية، بل بالأحرى الرب وحده هو الأغلبية!  اكتشف ذلك خادم أليشع عندما فتح الله عينيه ليرى خيلاً ومركبات نار تملأ الجبال المحيطة بهم (2مل6: 17)؛ خاف من الجيش الأرامي الذي كان يحاصرهم في دوثان لقتل أليشع، لماذا؟ لأن الله كان يمده بمعلومات هامة عن العدو، وكان يعطيها لملك إسرائيل ليخرب الغزو الأرامي.  لم يخشَ أليشع العدو بل حرص على تتميم مشيئة الله.  وهنا درس لنا: نفِّذ مشيئته ولا تقلق من شيء.

كان يعقوب مُعذَّبًا مِن القلق مِن العدو في الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يركز على طاعة أوامر الله.  لكن بالرغم من ذهن يعقوب المشوش فإن الرب في النهاية أثار إيمانه في “فَنِيئِيلَ” أولاً بحفظ ما كان ينوي أن يُعطيه، وثانيًا بمنحه له بعدما صرخ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» (تك32: 29).
المصارع المجهول بارك يعقوب (تك32: 29)، وأدرك يعقوب أنه الرب نفسه (هو12: 2-4).  دليل آخر نراه في تكوين 35: 9 على أن الرب هو الذي كان يصارع يعقوب: «وَظَهَرَ اللهُ لِيَعْقُوبَ أَيْضًا حِينَ جَاءَ مِنْ فَدَّان أَرَامَ وَبَارَكَهُ».  بما أنها المرة الأخرى الوحيدة التي يظهر فيها رسول إلهي ليعقوب فإننا نستنتج، كما فعل يعقوب، أنه تصارع مع الرب نفسه.
كان ممكنًا أن ينخس الربُ يعقوبَ في أي وقت، لكنه لم يفعل؛ فالرب كان صبورًا جدًا معه وأراد أن يصارعه طوال الليل.  لماذا؟  لا ليهزم أو يدمر يعقوب، بل ليُعلّمه الكسر والخضوع أمامه. 

دبَّر يعقوب حيله ليخدع عيسو وأباه إسحاق، وليهرب من لابان، لكن حان الوقت ليعقوب ليتعلَّم أنه لا يماثل الرب.  أصيب يعقوب بالعرج بِفعلة صغيرة من الرب، لذا فأي مصارعة في المستقبل ستكون صعبة ومؤلمة.  كم تناسب كلمات يوحنا المعمدان هذا المشهد: «يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يو3: 30).

الكسر ثم البركـة

بعد أن لحقت الإصابة بيعقوب، لجأ إلى الحيلة الوحيدة المتاحة له، وتشبَّث بالرب بكل ما أوتي من قوة.  انتصر الرب في النهاية، وانكسرت إرادة يعقوب، والأمل الوحيد الباقي له هو التعلق بالله.  في تلك اللحظة مِن تحطم الذات والاتكال على الرب حصل يعقوب على البركة.  والدرس المُتعلَّم هنا هو: عندما نُخضع أنفسنا، ونتعلَّق بالرب، ننال بركات إلهية، ونُصبح بركة للآخرين. «ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ.  الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ» (مز51: 17).
نقرأ في لوقا 19: 29-35 عن جحش وجد معنى لوجوده في الحياة بأن أصبح ما يريده الرب أن يكون.  هذا الجحش «لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ»، وَجد هذا الجحش الصغير معنى لحياته عندما خضع للرب، كان عليه أن يحمل المسيَّا البار والمتواضع، وينزل به جبل الزيتون، وسط حشد يهتف ويهلل.  وُلد هذا الجحش ليخدم سيده، ويحقق نبوة عمرها نحو 600 سنة (زك9: 9).  عندما ننكسر أمام الله سيصبح بإمكاننا أن نتعلَم منه، ونصبح مثلما يريد، ونجد المعنى الحقيقي للحياة.  التمتع بصحبة الرب ومحاولة إرضائه يقوداننا إلى الفرح الحقيقي!
أرسل يعقوب أسرته عبر مخاضة يبوق (مدينة الزرقا بالأردن)، بينما بقي وحده على الجانب الآخر. “يبوق” تعني “يُفرغ أو يُجرد”، وعندما انكسرت إرادة يعقوب وتجرَّد من اعتماده على ذاته، أصبح وقتها إناءً صالحًا ليستخدمه الله.

وماذا عنا؟

ما الدرس المستفاد من خَلَع حُق فَخْذِ يَعْقُوبَ؟
أولاً: يختبر شعب الله الفشل من وقت إلى آخر.  نصارع الله أحيانًا مثل يعقوب، ويذهب كل منا في طريقه، ونفشل في عمل الصواب إذ كلنا نميل إلى التيهان.  يقوم اليهود التقليديون المتدينون بخلع عصب عرق النسا أو وريد الفخذ من الحيوانات المذبوحة قبل طهي اللحم لأنه كان تذكرة دائمة بكيف تعامل الله مع يعقوب عندما صارعه.  وهكذا يتعامل الله معنا حسب حكمته ومحبته، كما يجب ألا نتشفى في فشل الآخرين.  الله طويل الأناة مع شعبه، وينبغي أن يكون هذا حالنا.  لنلاحظ أنه لم يُسجَّل في أي مكان في الكتاب المقدس أن الله لام يعقوب وأنَّبه على فشله.

لا أحد يفعل الصواب طول الوقت لذا لا ينبغي أن نُسَرّ بأخطاء الآخرين، إنه مجرد شعور بالكبرياء تسعد به عقولنا لتبرِّر نفسها وتقول: “أنا لا أخطئ مثله، لذا أنا أفضل منه”.  يوضح الرسول بولس ميلنا الطبيعي للخطية بقوله «لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رو3: 12).  لا تقارن نفسك بالآخرين لأن هذا سيقودك إما إلى الاكتئاب أو إلى الكبرياء.  ولا تركز فكرك على فشل الآخرين، لأن هذا سيؤدي إلى شعورهم بالألم ويصيبك بالكبرياء.
ثانيًا: انخلع حٌق الفخذ، لم يُزَل من يعقوب، ولا يُستأصل الجسد أيضًا من حياة المؤمن بعد الولادة الجديدة.  الخضوع للرب يُزيل الاعتماد على الذات كي نسلك بالإيمان وبقوة روح الله.

واليد التي لمست وضربت قوة يعقوب الطبيعية، أعطته طاقة أفضل بكثير.  هذه هي طرق الله.
ونال يعقوب اسمًا جديدًا ذاك اليوم: “إسرائيل”، قد يعني الاسم “مَن يجاهد مع الله” أو “سيادة الله” أو “أمير من الله”.  في الحقيقة كل هذه المعاني صحيحة، فقد جاهد يعقوب مع الله مدة كافية لأن يتعلم أن الله يتحكم في حياته.  بدأ يعقوب يسير بطريقة جديدة فكان يخمع على فخذه بقية حياته.  كان ألمه وفقدانه لسهولة التنقل تذكرة دائمة له بأنه صارع الله وأن الله ربح!

لنسلك بالإيمان في ضوء الحق المعلن لنا ولا نقاوم الله.  الله لن يؤذينا قَطّ لكن قد يلمسنا ليجعلنا أكثر أمانة.  تأمل في كلمات يعقوب للرب مرة أخيرة: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» (تك32: 29).  سعى يعقوب للانفراد بنفسه في وقت ضيقه، لكن بعد لقائه بالرب تعلّقت نفسه به وبمحضره.

وارين هندرسون