«إِلَى الأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ» (مز١١٩: ٨٩).
هذا الكتاب المقدس عجيب من كل وجه. كتاب قديم جدًا، ولكنه دائمًا جديد. يتجه الخطاب في كثير من أجزائه إلى أجيال مضت واندثرت كل معالمها، ولكن لا زالت تؤثر فينا قوة ملاءمته لحالتنا الخاصة في يومنا الحاضر. وكما انطبق على ما كان قديمًا، هكذا ينطبق على ما نراه في يومنا الحاضر. كلماته وأسلوبه كأنها صيغت خصيصًا لنا وفي أيامنا. بل كل جيل حكم على هذا الكتاب نفس الحكم الذي نقرره الآن. هو كتاب الله، ويحتوي على كامل إعلانه تعالى. فيه يتكلَّم الله إلى كل واحد منا رغم اختلاف طبقاتنا. فينا الرفيع وفينا الوضيع، فينا الغني وفينا الفقير. فينا العالم وفينا الجاهل، فينا الكبير وفينا الصغير، ومع ذلك كل منا يقرأ نفس الكتاب الواحد، ليأخذ لنفسه طعامًا يوافقه ويشبعه. فيه للأطفال لبن عقلي عديم الغش، وللبالغين ذوي الأفهام الواسعة الناضجة طعام قوي - وفضلاً عن ذلك فإن لكلمة الله خاصية أخرى تتفرد بها دون كل كتابات البشر وهي أنها «حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عب٤: ١٢). إنها تُخاطب القلب، وتُكلِّم الوجدان، وتصل إلى مشاعر النفس، وتبلغ إلى أعماق مخبآت الفكر، وتحكم على كل ما فينا.
تناول الكتاب المقدس مواضيع واسعة تناثرت على أفق عريض جدًا. تكلَّم عن الإنسان في كل أدوار تاريخه، حتى المستقبل منها. ووصف المدنية العصرية، كما وصف حضارات قديمة، وفي الحالين يُورد الوصف الدقيق. وتكلَّم الكتاب عن حقيقة القلب البشري كلامًا ينفر منه غير المُخلَّصين، وبسببه يحاربونه، وإن قرأوه فعلى سبيل محاولة وجود أي نقص أو تناقض فيه. لا شيء إلا لأنه يحكم عليهم، وعلى العالم الذي انصبت فيه قلوبهم. وفي هذه الصفة يشترك الكتاب المقدس - الكلمة الحية - مع ربنا يسوع المسيح ابن الله - الكلمة الحي - فإن الناس أبغضوه بلا سبب، سوى أنه كلَّمهم بكل الحق، وسوى أنه شهد بكلامه وبحياته وبخدمته وبتصرفاته، شهادة حية ضد العالم، وأهل العالم، فقاوموه بشدة، وأسلموه لحكم الموت على الصليب، وحتى وهو على الصليب كان موضوع الاستهزاء والتعيير.
هذا الكتاب يكرهه الشيطان كراهية شديدة، لذلك هو يستخدم أصحاب العقول الكبيرة - العلماء من الكفرة - ليكتبوا المجلدات والمصنفات ضد كلمة الله، ليُثبتوا أن فيها تناقضًا، وليُقلّلوا من شأنها، بمزاعم هزيلة تشهد عن جهلهم بأفكار الله، وعدم تعمقهم في فهمها على حقيقتها. إنهم علماء متبحرون في العلم الأرضي، لهم شهاداتهم وبحوثهم، ولهم آراؤهم ونظرياتهم، فيما تخصصوا فيه من علوم، أما إزاء كلمة الله فهم طبول جوفاء وعقول خاوية، لا علم لهم بها، ولذلك هم أبعد ما يكونون عن الحكم عليها. والكتاب المقدس لا يُدركه إلا الروحيون. هذا الكتاب نفسه يعلن أن «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا» (١كو٢: ١٤). فالذي لا يقدر أن يعرف روح الله، كيف يتسنى له أن يُعطي رأيًا، أو يصدر حكمًا على كلمة الله؟ إن التعليم البشري مهما عظم وتنوع واتسع، والحكمة الإنسانية مهما تعمقت، لا تُؤهل الإنسان للحكم على كلمة الله. إن الذي يفحص الكتاب ليتعلَّم منه، وليزداد نورًا من نوره، شيء آخر غير الذي يُقلّبه متلمسًا حكمًا جائرًا على إعلاناته.
هذا الكتاب المقدس كتاب قوي الأساس والبنيان، كالصخرة التي تلاطمت حولها أمواج الأفكار الكفرية، وارتدت عنها واهنة عاجزة، تاركة إياها في ثباتها الأبدي وقوتها الإلهية. وتنحسر الموجة في جيل لتعود مُزمجرة في جيل آخر، ولكن كلمة الله تتشامخ راسخة بكل مجدها وعظمتها «إِلَى الأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ» (مز١١٩: ٨٩).