أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
يتكلَّم الكتاب المقدس عن ثلاث مراحل للعالم. ومن المعروف أن كلمة “العالم” ترد في الكتاب المقدس بمعانٍ مختلفة يُمكن فهم كلٌّ منها بسهولة من القرينة. فأحيانا تعني “الكَوْن”، أي الخليقة، كما جاء في عبرانيين ١١: ٣ «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ»، وفي قوله عن المسيح: «الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ» (عب١: ٢). وأحيانًا تعني الجنس البشري، كما جاء في الآية الشهيرة: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦). وأحيانًا تعني أسلوب ونظام هذا العالم ومبادئه، أي الجنس البشري في موقفه إزاء الله وإزاء الوجود على هذه الأرض. هذا هو “العالم” الذي يقول عنه الرسول يوحنا: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ... لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ» (١يو٢: ١٥، ١٦). وهذا الموضوع يتعلَّق بتاريخ الإنسان على هذه الأرض، كما يراه الله وليس كما يراه المؤرخون البشر. بخصوص هذا العالم، أي تاريخ الإنسان على الأرض، يتكلم كتاب الله المقدس عن ثلاث مراحل: أولاً: عالم ما قبل الطوفان: يقول عنه الرسول بطرس: «اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦). ثانيًا: العالم الكائن الآن: أي منذ الطوفان، وإلى أن يأتي المسيح ليملك على هذه الأرض. وهو العالم الذي يصفه الوحي المقدس بأنه «الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ» (غل١: ٤). ثالثًا: العالم الآتي: يقول عنه الكتاب: «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ الْعَالَمَ الْعَتِيدَ (في المستقبل) الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ» (عب٢: ٥). ويُخبرنا أنه سيُخْضَع ليسوع الذي «نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ» (ع٩). وهذا العالم العتيد يبدأ بمجيء المسيح الثاني ليملك كملك الملوك ورب الأرباب، وينتهي بالقضاء النهائي على الشر، وطرح إبليس في جهنم النار ودينونة العرش العظيم الأبيض، ثم الحالة الأبدية. أما بخصوص العالم الماضي، أو العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان، وهو العالم الذي «فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦)، فقد ابتدأ تاريخ ذلك العالم بآدم وحواء اللذين بهما «دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو٥: ١٢). ووُلِد لآدم وحواء ابن اسمه قايين وآخر اسمه هابيل «وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ» (تك٤: ٨). من ذلك نرى أن العالم الذي هلك بالطوفان اتصف بالعصيان والإجرام من أوله. وازداد الشر جدًا، «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ» (تك٦: ٥، ٦). إن الله ليس إلهًا لا يُبالي. فهو خلق الإنسان على صورته وكشبهه. ولكن الخطية شوّهت هذه الصورة. وبعد أن كان الرب قد سلَّط الإنسان على الأرض والبحر، أصبح الإنسان غير صالح لهذا الأمر، وغير نافع «فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ» (تك٦: ٧). ومع ذلك فإن الله لم يهلكه في الحال، بل أعطى الإنسان مدة ١٢٠ سنة كان فيها نوح، الذي وجد نعمة في عيني الرب، يكرز للناس وينذرهم. ولكن للأسف لم ينجُ إلاّ ثمانية أشخاص. ولمدة ١٢٠ سنة كان نوح «كَارِزًا لِلْبِرِّ» (٢بط٢: ٥). ولكن ماذا كان الناس يعملون؟ «كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ» (مت٢٤: ٣٨، ٣٩). بعض صفات العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان؛ أولاً: اتصف ذلك الدهر بطول الأعمار كما هو واضح في تكوين ٥. إذ كانوا يعيشون مئات السنين، فعاش بعضهم ٨٠٠ أو ٩٠٠ سنة أو أكثر. وقد يندهش البعض من هذا، ولكنه كان أمراً لازمًا لسببين على الأقل: السبب الأول هو لتتميم الهدف الإلهي أن يُثمروا ويكثرُوا ويملأُوا الأرض (تك١: ٢٨). وعلَّق البعض على هذا بالقول: إن هذه هي الوصية الوحيدة التي أطاعها الإنسان، فلم يكونوا فقط طوال الأعمار، ولكنهم ولدوا بنين وبنات خلال مئات السنين التي عاشها كلٌّ منهم كما يخبرنا في تكوين ٥. والسبب الآخر الذي من أجله أعطاهم الله الأعمار الطويلة هو لكي تنتقل الشهادة شفويًا من جيل لآخر، أي لكي يشهد الجيل الأول مرارًا كثيرة - خلال السنين الطويلة التي عاشوها - بما رأوه وسمعوه للأجيال التي تليه. فمثلاً، كان متوشالح مُعاصرًا لآدم حوالي ٢٠٠ سنة، كما كان معاصرًا لسام ابن نوح لحوالي ١٠٠ سنة. ومات متوشالح قبل الطوفان مباشرة، أما سام فعاش بعد الطوفان ٥٠٠ سنة (تك١١: ١١)، وكان معاصرًا لإبراهيم خليل الله طوال حياة إبراهيم (تك١١: ١٠-٢٦). ولهذا كله أهمية واضحة، إذ لم يكن عندهم وحيٌ مُدوَّن، أي لم يكن أي جزء من الكتاب المقدس قد كُتب بعد، فكانت الشهادة الشفوية بواسطة شهود عيان لازمة جدًا. لذلك نجد في الآثار قصة الطوفان عند شعوب وثنية، ولعل أشهرها ما جاء في الآثار البابلية، إذ فيها شَبَهٌ كبير للحقيقة مع بعض التشويش. ثانيًا: لم يكن ذلك العصر بدون حضارة كما يظن البعض. فبعد أن طُرد قايين من وجه الرب وصار «تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ» (تك٤: ١٤)، أنجب ابنًا اسمه “حَنُوكَ” «وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ» (تك٤: ١٧). وبناء مدينة هو لا شك لازم للحضارة. وجاء من سلالته من قاموا بالنجارة والصناعة والموسيقى (تك٤: ٢٠-٢٢). ثالثًا: جاء تعدد الزوجات بواسطة “لاَمَك” الذي من نسل قايين، وازداد الشر إلى أن بلغ أقصى حدوده في أيام نوح، حتى قرر الله أن يُرسل الطوفان ليُهلك الأشرار، ولكن ذلك العالم اتصف بعدم المبالاة كما ذكرنا. وكان الأجدر بالجنس البشري، أن يجد في الطوفان عِبرة، ولكن للأسف الشديد دخلت الخطية مرة أخرى بعد الطوفان مباشرة. وتجاهل الناس حادثة الطوفان أو تناسوها، أو أنكروا حقيقتها. فكانت النتيجة ما نراه في عالمنا الحاضر الشرير.
 
 
عدد نوفمبر السنة 2021
نعمة المسيح في الحياة اليومية
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

إن رسالة بولس الرسول المختصرة إلى فِلِيمُون، ترسم أمامنا صورة جميلة للطريقة التي تعمل بها نعمة المسيح، في علاقات وظروف الحياة اليومية. فالرسول بولس يطلب من أخيه في الإيمان فِلِيمُون، من أجل أُنِسِيمُسَ، الذي إذ كان عبدًا له، وهرب (ربما سرقه أولًا)، لكنه أتى إلى المسيح من خلال الاتصال ببولس، حينما كان سجينًا فى روما. كان للسَيِّد سلطة واسعة - حسب القانون الروماني – أن يُعاقب عبده بشدة على هذا التصرف. كما أن تصرف أنسيمس يتفاقم لكونه كان يخدم سَيِّدًا تقيًا، وليس طاغية من العالم. لقد توسل الرسول بولس من أجله، حتى تنتصر النعمة الإلهية والمحبة في قلب فِلِيمُون، على أي شعور بالانزعاج أو الغضب.

عمومًا، تنشغل رسائل الرسول بولس المُوحى بها، بتعاليم المسيحية العظيمة. لقد كان هو الإناء الذي اختصه الروح القدس لإعلان المشورات العجيبة لله بخصوص المسيح التي كانت سرًا منذ الأزل، والآن لا تُحلق المسيحية عاليًا فحسب، بل تنزل إلى أسفل، وتنشغل بكل التفاصيل العملية للحياة اليومية، حتى أنه يُمكن - لكل الذين يؤمنون - أن يُعبّروا عن نعمة المسيح. وهكذا نُحفظ خلال عمل الروح القدس، من أن نكون مجرد نظريين.

لم يقدِّم بولس نفسه هنا كرسول بل «أَسِيرُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (ع١). هنا يمكننا أن نلاحظ حكمة روح الله ورقتها. ففي رسالتيه إلى تيموثاوس وتيطس، حرص بولس أن يُقدم رسوليته لأسباب واضحة. في تلك الرسائل التي نجد فيها تعليمات مُوحى بها عن الترتيب الداخلي لبيت الله، وعن السلوك اللائق بالقديسين كأفراد. فكان السلطان الرسولي مهم هناك، كما أن تجنب ذكره هام هنا. كان بولس يركز في قضية أُنِسِيمُسَ بالتمام على أرضية النعمة الإلهية، التي كان متيقنًا من أنها تملك في قلب فِلِيمُون. لم يكن وحده في المناشدة، لكنه أشرك تيموثاوس معه، ليدعم الطلب.

واضح أن فِلِيمُون كان عاملًا بين القديسين، إلا أننا لا نعرف قياس قامته الروحية، لكن بولس ذكر الحقيقة ببساطة «فِلِيمُونَ الْمَحْبُوبِ وَالْعَامِلِ مَعَنَا» (ع١). كما خاطب زوجته أيضًا: «أَبْفِيَّةَ الْمَحْبُوبَةِ»، أو “الأختُ أَبْفِيَّةَ”. يا له من إكرام وحكمة! إن مسألة كهذه تعني السَيِّدة بقدر ما تعني السَيِّد، وربما كانت لها المشاعر الأقوى من جهة هذا الأمر عن زوجها. فأراد بولس لهما أن يتصرفا معًا في المسألة، كالوارثين معًا نعمة الحياة. كما تضمن “أَرْخِبُّسَ” في الخطاب أيضًا، كأخ خدم بالارتباط بالكنيسة التي في كولوسي «قُولُوا لأَرْخِبُّسَ: انْظُرْ إِلَى الْخِدْمَةِ الَّتِي قَبِلْتَهَا فِي الرَّبِّ لِكَيْ تُتَمِّمَهَا» (كو٤: ١٧). ربما كان بوسعه العون في هذا الظرف. ربما دعمت مشورته السمحة المشاعر الصالحة التي في قلوب هذا الثنائي الممتاز.

ثم يذكر الرسول بولس “الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَيْتِ فِلِيمُونَ” (ع٢)، لأنه من الواضح أن بعض القديسين تقابلوا في بيته. كان الرسول بولس يريد أن الجميع يفتحون قلوبهم، ويرحبون بمحبة قلب المسيح، بذاك الراجع. لقد علم الجميع بفعلته الآثمة، وعلى الجميع أن يكون لهم شركة في عمل نعمة الله.

هناك الكثير لنلاحظه في تلك الرسالة إلى فِلِيمُونَ، عن القوة الموحِدة التي للنعمة الإلهية. هنا اجتمع معًا بولس الفريسي السابق، وتيموثاوس اليهودي من نسل مختلط، وفِلِيمُون وأرخبس ... إلخ، وأُنِسِيمُس العبد المسكين. الجميع مرتبطون معًا مع المسيح في نفس حزمة الحياة، والكل سواسية أعضاء في جسده بالروح القدس. بالتالي نجد بولس يدعو تيموثاوس “الأَخُ” (ع١)، وفِلِيمُون “الأَخُ” (ع٧)، وأيضًا أُنِسِيمُس (ع١٦)، مضيفًا للأخير لقب “مَحْبُوب”. يا لها من روابط غالية! من يكوّنها، أو يستطيع أن يكوّنها، سوى روح الله القدوس؟

بعد تحيته المعتادة بالنعمة والسلام (ع٣)، ينفجر قلب الرسول بالشكر لله، مُعدّدًا – بامتنان - كل الصلاح الذي في أخيه العزيز فِلِيمُون. إنه يبارك الله من أجل محبته وأمانته تجاه الرب يسوع (ع٥)، وكذا محبته لجميع القديسين. فأحشاء القديسين قد استراحت به (ع٧). ويمكننا ملاحظة هذه الطريقة الكريمة دائمًا في رسائل بولس. في الحالات التي كان فيها الكثير ليلوم عليه، فما أن كان يرى أي شيء من المسيح، حتى كان يمتدحه بسرور، ويشكر عليه. وهو درس هام لنفوسنا لنتعلَّمه في مدرسة الله، في يومنا هذا. هناك الكثير مما يُحزن الروح، ويستجلب اعتراضنا وتوبيخنا، حتى أننا عُرضة لأن نتناسى مقدار ثمر الروح الموجود بالفعل.

كانت محبة فِلِيمُون لجميع القديسين على محك الاختبار الصعب. لقد صار أُنِسِيمُس الآن قديسًا؛ فهل سيحبه؟ ليس سهلًا أن نحب من كان جرحه لنا مُتعمَدًا، لكن ليس أقل من ذلك في المسيح. إن هذا التقدير المحب للنعمة في فليمون هو أساس تلك الرسالة. فقدمها بولس على هذه الأرضية، وبها ناشد قلب فِلِيمُون العامل معه.

لقد سعى بولس إلى المعاملة بالمثل؛ فإذ كان قد ربح فِلِيمُون للمسيح، فتوقع منه أن يفعل نفس الشيء تجاهه، وأن يعترف بمطاليب النعمة التي أعطيت له. اقرأ التعبير “فِيكُمْ” (ع٦)، وليس “فِيكَ”. لقد صار للأسير المسكين فرحًا عظيمًا وتعزية بسبب محبة هذا الكولوسي الممتاز.

وإذ قد مهد الطريق، وضرب على الأوتار التي كان متأكدًا أن قلب فِلِيمُون سيتجاوب معها، تقدم الرسول ليطلب من أجل المخطئ، دون أن يستخدم سلطانه «لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِي بِالْمَسِيحِ ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ أَنْ آمُرَكَ بِمَا يَلِيقُ، مِنْ أَجْلِ الْمَحَبَّةِ، أَطْلُبُ بِالْحَرِيِّ» (ع٨، ٩).

لم يُرد الرسول أن يستخدم المركز الذي أعطاه الرب إياه في الكنيسة، قاصدًا أن يتصرف فِلِيمُون هكذا، حتى لا يستخدم سلطانه مع الذي خدمه. افترض أنه أرسل أُنِسِيمُسَ عائدًا بوصاية رسولية، لا شك أنه كان سيُطاع، ويُغفر للهارب ويُعاد توظيفه. لكن هل كان سيرضى قلبه؟ أين إذًا نجد الاستعراض الثمين لنعمة المسيح التي تسمو فوق الكل، حتى أعمق الشر، ولا تغفر فقط، بل ترحب بالمتعدي في الأحضان، إلى الأبد؟ ليس أقل من هذا يُشبع اشتياق القلب الذي يسعى - فوق كل شيء - أن يرى المسيح مُستعلَنًا في جميع أعضاء جسده هنا على الأرض. فهو لا يأمر، بل يطلب؛ إنه يذكر سلطانه، فقط لينحيه جانبًا في حالة كهذه.

إنه يقدم اعتبارات عدة، بما فيها اعتباران شخصيان لهما طابع مؤثر جدًا (ع٩):

١. كان «بُولُسَ الشَّيْخِ».

٢. «وَالآنَ أَسِيرُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَيْضًا».*

من يستطيع أن يقاوم هذا؟ من يستطيع أن يرفض طلب مَن “شاخ” في خدمة الرب؛ مَن خَدَمَهُ بصبر وبأمانة، في وجه جميع الاعتراضات، وكل نوع من الألم يمكن تخيله؟ «وَالآنَ أَسِيرُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَيْضًا»! بالتأكيد أي قلب سموح كان ليمنح مثل هذا الطلب الذي طلبه في هذه الرسالة. لم يكن فِلِيمُون، بكل يقين، الرجل الذي يرفض مناشدة كهذه.

ثم قدم اعتبارين آخرين:

(١) كان أُنِسِيمُسُ ابنه في الإيمان، وأحشاءه. وهو ما ينطبق تمامًا على تيطس وغيرهما؛ أما عن أُنِسِيمُس فيمكن إضافة «ابْنِي أُنِسِيمُسَ، الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي ... الَّذِي رَدَدْتُهُ. فَاقْبَلْهُ، الَّذِي هُوَ أَحْشَائِي» (ع١٠، ١٢). “كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لفليمون، وَلكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لفليمون وللرسول بولس، بكل طريقة (ع١١).

لقد تمنى الرسول جدًا أن يستبقي أُنِسِيمُسَ، لكي يخدمه بدلًا من سَيِّده فِلِيمُون، حتى يخدمه في قيود الإنجيل (ع١٣)، لكنه لم يكن ليتجاهل حقوق فِلِيمُون. دعونا لا نعتقد أن ذلك يرجع إلى أي مصادقة على العبودية؛ فالرسول بولس لا يمس هذه المسألة. إن الروح - في هذه الرسالة - لا يتكلَّم إطلاقًا عن صواب أو خطأ هذا الموضوع. لأن اليوم لم يأتِ بعد لتصحيح العالم. عندما يُستعلن المجد، ويملك الرب يسوع، فإن الترتيب الإلهي سيسود على كل الكون؛ لكن إلى أن يحين ذلك اليوم، ستُترك هذه الأمور كما هي، مع تعليمات إلهية معطاة للقديسين بخصوصها. يريد الرسول بولس من فِلِيمُون أن يستقبل أُنِسِيمُسَ بطريقة تليق بالله، ليس كمجرد عبد بعد، بل كأخ في الرب، ويحسب على اعتباره مُساعدًا لفِلِيمُون الآن، على النقيض من سلوكه في الماضي. لقد تبرهن ظاهريًا أنه أصبح أهلًا لخدمة الرب أيضًا. وحيث أنه ابن بولس بالنعمة، فلا بد أن يُقبل نظير بولس. وإن كان مديونًا لسَيِّده، فبولس يوفي. يا للثمر القوي للنعمة والمحبة الإلهية! أين تعلَّم بولس هذا، ما لم يكن قد تعلمه من ذاك الذي بنعمة غنية اضطلع بقضية شعبه، ودفع مديونياتهم الثقيلة؟ «أَنَا بُولُسَ... أَنَا أُوفِي»؛ هذه كانت لغته (ع١٩)، كما كانت لذاك الذي ذهب إلى الصليب من أجلنا. إن قلب الإنسان البارد الأناني، لا يمكن أن ينتج مثل هذه المشاعر: إنها ثمر زرع سماوي.

(٢) بعد ذلك يُذكّر الرسول بولس أخاه فِلِيمُون أنه مديون له بكل شيء؛ «إِنَّكَ مَدْيُونٌ لِي بِنَفْسِكَ أَيْضًا» (ع١٩). هنا نصل إلى قمة المقياس. كان فِلِيمُونُ نفسه تحفة النعمة المُخلِّصة. لقد قدَّم بولس له المسيح. وإذ قد قبله برضا، لا بد أن يعطي الآن برضا. وطالما قد سُومِحنا بالعشرة آلاف وزنة، علينا الآن أن نسامح بالمئة دينار برضا. يستمر التحريض في تيطس٣ على ذات الأرضية. علينا أن نكون «غَيْرَ مُخَاصِمِينَ، حُلَمَاءَ، مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ. لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضًا قَبْلاً أَغْبِيَاءَ ... عَائِشِينَ فِي الْخُبْثِ وَالْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا»، أما الآن فنحن هدف ومُستََقبِلي رحمة مخلصنا الله، ومحبته.

لقد تمنى بولس أن يسره فِلِيمُون، ويريح أحشاءه في الرب (ع٢٠). إن كان التأمل في استعراض النعمة الإلهية قد أراح الخادم هكذا، فكم وكم الرب! إنه يحب أن يرى نفسه متمثلاً عمليًا في خاصته الذين في العالم.

والآن يترك بولس الموضوع، واثقًا في أخيه الحبيب أنه يفعل حتى أكثر مما أوصاه (ع٢١). كان ينظر إلى فيض النعمة الإلهية. وارتكن عليه في أن يصير هكذا.

يا ليت روح الله ينقش هذه الأمور في قلوبنا! هذه هي المسيحية بكل يقين. إنها قوة خارقة، تشكل القلب وتخترق كل ظروفنا، رافعةً إيانا فوق كل اعتبار بشري، مُعطيةً إيانا عمليًا أيام السماء على الأرض.



* يا له من أمر مبارك أن نلاحظ الطريقة التي بها تخطى بولس النظر إلى البشر، بالنظر إلى المسيح. لقد كان أسيره. لم يغضب من طغيان وظلم السلطات الرومانية، بل نظر إلى الرب. كانت هذه إرادته له، وهذا يكفي. المسيح هو سجانه، هكذا كان. فمن أرسل ملاكه ليفك أسر بطرس، كان بإمكانه نفس الشيء مع بولس، إن كان ذلك يلائمه. إن القلب لن يهدأ أبدًا طالما يبحث عن أسباب أخرى.

و.و. فراداي